العماليق في زمن الذكاء الاصطناعي

عالم واحد متعدد الوجوه...

Sara Gironi Carnevale
Sara Gironi Carnevale

العماليق في زمن الذكاء الاصطناعي

للوهلة الأولى يبدوان كعالمين متجاورين: عالم تحكمه قوانين وقيم الماضي وتصوراته وضروراته. وآخر يتكون على مرأى منا في شبه استقلال يحركه ذكاؤه الاصطناعي، دون أن نتمكن من فك أسراره والتعرف إلى الوجهة التي يمضي إليها.

إذا أخذنا ثلاثة صراعات قريبة منا زمنيا، وتأملنا في أسبابها وفي الأساليب التي تخاض بها، سنخرج باستنتاج يقول إن العالم لا زال يسير وفق منطق القرون الوسطى وسيادة القوة واحتقار القوانين والمعاهدات الدولية. وأن اليد العليا هي للمبررات الجيوسياسية، فيما تظل الاختلافات الثقافية والعرقية من العناصر التي لا يمكن التقليل من خطورتها، وأن المهمة الوحيدة للدبلوماسية هي العثور على مخارج من أوضاع ما فتئت تتكرر منذ مئات الأعوام ويؤدي فيها العنف والقسر والتهديد باستخدامها دورا محوريا استنادا إلى موازين القوى العسكرية والاقتصادية وإلى التحالفات الدولية الشبيهة بما كان يجري في أوروبا في مطالع القرن التاسع عشر أثناء حروب نابليون.

وليس كشفا عظيما القول إن الاحتفال بوزير الخارجية الأميركي الراحل هنري كيسنجر، بعد وفاته عن مئة عام، هو في الوقت ذاته تكريس لرؤاه السياسية في دفع سياسات القوة واستخدامها إلى الحدود القصوى. وأن السياسات هذه وإن تناقضت مع ما يفترض أن تتضمنه مواثيق الأمم المتحدة والاتفاقات الدولية، فهي تمنح الأولوية للقوة وللقدرة على وضعها في خدمة مصلحة تحددها الدولة الأقدر على استغلال عناصر قوتها العسكرية أو الاقتصادية أو الثقافية. لا كبير فرق ما دامت كل الوسائل تبرر الغايات، بحسب قول شهير لنيكولا مكيافيللي.

الاحتفال بوزير الخارجية الأميركي الراحل هنري كيسنجر، بعد وفاته عن مئة عام، هو في الوقت ذاته تكريس لرؤاه السياسية في دفع سياسات القوة واستخدامها إلى الحدود القصوى

المثال الأول، هو الحرب الروسية على أوكرانيا. فور بدء الهجوم الروسي في 24 فبراير/شباط 2022، أعلن الرئيس فلاديمير بوتين الدوافع التي حملته على اتخاذ قرار الحرب: تهديد الأمن القومي الروسي من خلال إصرار كييف على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. ضمان سلامة الأقلية الناطقة بالروسية في أوكرانيا من خلال "نزع النازية"، و"نزع العسكرة" عن الحكومة الأوكرانية. ويمكن العودة إلى مقالة طويلة نشرها بوتين في صفحته على موقع الكرملين في يوليو/تموز 2021 ويرجع فيها مئات الأعوام إلى الوراء ليفند حتى الثقافة الأوكرانية وينفي أية شرعية لوجود دولة أوكرانية مستقلة، مستخدما مصطلحات "الأخوة" والانتماء والتاريخ المشتركين. كيف يمكن إدراج حوادث القرنين الثالث عشر والرابع عشر في شرح أسباب حرب تجري في القرن الحادي والعشرين؟ 

تحدد العلاقات بين الفلسطينيين والإسرائيليين فيما سمي "عملية السلام" التي شهدت تسعينات القرن الماضي ولادتها ووفاتها، لا قيمة لها أمام الرؤية الدينية والاستخدام الأداتي– الانتقائي للتاريخ

من جهة ثانية، لا يتردد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في التذكير بنبوءة أشعيا التوراتية ولا بالحديث عن الحرب مع شعب العماليق، أثناء تناوله الحرب على غزة. في الوقت الذي يقوم فيه جل خطاب حركة "حماس" على الدوافع الدينية وعلى اعتبار أرض فلسطين "وقفا إسلاميا" لا يجوز التنازل عنه. تختفي هنا حقائق أنتجتها القرون الفاصلة بيننا وبين أحداث التوراة وما فعله بنو قريظة وأصحاب حصن خيبر، وتتبخر قضايا مثل ارتباط معاداة السامية في أوروبا ودورها في دفع اليهود إلى فلسطين العثمانية ثم الواقعة تحت الانتداب البريطاني، ومصير الشعب الفلسطيني المشتت في أرجاء الأرض بسبب نكبة 1948، لنعود إلى "حروب داود" بحسب عنوان كتاب المؤرخ الراحل كمال الصليبي. أكداس من المعاهدات والوثائق التي تحدد العلاقات بين الفلسطينيين والإسرائيليين فيما سمي "عملية السلام" التي شهدت تسعينات القرن الماضي ولادتها ووفاتها، لا قيمة لها أمام الرؤية الدينية والاستخدام الأداتي– الانتقائي للتاريخ.

Sara Gironi Carnevale

النموذج الثالث يتمثل فيما يجري بين فنزويلا وغايانا؛ إذ فجأة ومن دون سابق إنذار قرر الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو أن أكثر من نصف أراضي جارته الشرقية هي ملك لبلاده وأن استفتاء شاركت فيه أقلية صغيرة من مواطنيه يبرر ضم الدولة. ترجع الخلفيات إلى قرنين سابقين شهدا تصفية إرث الإمبراطورية الإسبانية في القارة الأميركية الجنوبية وتقدم الاستعمار البريطاني للحلول مكانها، والكثير من التعقيدات التي ساد اعتقاد لعشرات الأعوام بأنها قد أصبحت طي الماضي ولا مبرر للعودة إليها وأن لا أثر لها على العلاقة بين الدولتين. فما الذي يعنيه قرار رئيس فنزويلا نيكولاس مادورو ضم أراضي غايانا؟ ما الذي أيقظ تلك المطالب؟ ومن أي سرداب خرجت أشباح الإمبراطورية الإسبانية المتهالكة؟

حتى اليوم، لم يسفر الذكاء الاصطناعي عن مشروعه العالمي الكبير، إذا كان هناك من مشروع. ولم يقدم رؤيته لمستقبل البشرية الذي لا زال في يد الإنسان، أو هكذا يقال

المستقبل الآن

في النشرة الإخبارية ذاتها التي تذكّر بحروب العماليق، تصل أنباء استقالة سام آلتمان من شركة "أوبن إيه آي" ثم عودته إليها بعد احتجاج المستثمرين وغضبهم. ويصدر الحكم على سام بنكمان- فريد بالسجن سنوات مديدة بعد إدانته بالتزوير والاحتيال.

الاستقالة والحكم القضائي يدوران في فلك يصعب شرحه لغير الاختصاصيين في مجالي الذكاء الاصطناعي والعملات المشفرة. والحال أن المجالين هذين يزداد حضورهما في كل ما يتعلق بالنشاط البشري في الاقتصاد والعلوم السياسة وصولا إلى الفن والإرهاب.

وفيما يبدو العالم الأول طاغي التأثير بأساطيره وحروبه ونزاعاته ومحاولات "أبطاله" احتلال الحاضر وفرض مشيئتهم عليه، يتسلل العالم الثاني إلى يومياتنا ويغير أساليب عيش إنسان القرن الحادي والعشرين على نحو بطيء لكنه غير قابل للتراجع. التحذيرات التي يطلقها الخبراء عن خطر خروج الذكاء الاصطناعي عن السيطرة وإمكان استحواذه على الموارد اللازمة لحياة البشر والتحكم فيها وفق ما يقرر هو أنها مصلحة العالم، كما يفهمها ويراها، والقيود التقنية التي بدأت بعض الكيانات السياسية تعمل على فرضها، تتواجه رأسيا مع المنطق الحاكم في عالم اليوم والذي يتلخص في تحقيق الربح المادي والتفوق التكنولوجي بأي ثمن ووسيلة.

ولن يكون مفاجئا لأحد أن يستخدم الذكاء الاصطناعي أساطير الماضي وخرافاته للترويج للسيطرة السياسية لدول وحكومات العالم. امتلاك الشركات الكبرى والسلطات كمية هائلة من المعلومات عن الأفراد وتفاصيل حيواتهم حتى الأكثر حميمية فيها، بات حقيقة لا نقاش فيها. بطاقات الائتمان والحسابات المصرفية والاشتراك في شبكات الإنترنت والأفلام والملفات الصحية، تدخل كلها بطن الوحش المسمى "الخوارزميات" التي تدار من قبل مجهولين لم ينتخبهم أحد ولا يعرف أحد بالضبط كيف تتغير مصالح من يسيرهم ومن يستفيد من خبراتهم التقنية ولأية أهداف.

حتى اليوم، لم يسفر الذكاء الاصطناعي عن مشروعه العالمي الكبير، إذا كان هناك من مشروع. ولم يقدم رؤيته لمستقبل البشرية الذي لا زال في يد الإنسان، أو هكذا يقال. ولم يحدد منظومة القيم التي يريد أن يسير الناس وفقا لها. لكن الوقت يقترب من تلك اللحظة.

لا نعرف اليوم كيف سيستخدم الذكاء الاصطناعي قصة العماليق التوراتية وفي أية وجهة ولمصلحة من. ولا نعرف، بالقدر ذاته، إلى متى ستبقى حاضرة كل بواعث الخوف والكراهية التي ترافق البشر منذ كانوا في كهوفهم المظلمة

ولعلها واحدة من المفارقات الإنسانية الهائلة أن يتجاور ويتزامن عالمان على هذا القدر من التناقض، بين الماضي والمستقبل. بين الغرق في روايات التاريخ الدموي والعنيف واستغلالها في صوغ الحاضر وبين غموض بات هو السمة الكبرى لما سيأتي. بين سيادة الغيب وشخصياته الأسطورية في تقرير مصير البشر وبين تسليم هؤلاء أنفسهم لهيمنة قوة ستخرج قدراتها من تحت سيطرتهم. لكن نظرة ثانية تشي بأن المسيرة الإنسانية حفلت دائما بهذا التناقض وأن لا معنى لها أصلا لو كانت مستقرة على مبدأ واحد ورؤية أحادية للكون والحياة. وأن من الأجدى ترقب ظهور وجوه جديدة للحياة البشرية وأخطار وفرص لم تكشف عن وجهها بعد.

لا نعرف اليوم كيف سيستخدم الذكاء الاصطناعي قصة العماليق التوراتية وفي أية وجهة ولمصلحة من. ولا نعرف، بالقدر ذاته، إلى متى ستبقى حاضرة كل بواعث الخوف والكراهية التي ترافق البشر منذ كانوا في كهوفهم المظلمة والتي لم تندثر بمرور الزمن. لكننا على يقين من أن الإنسان، وهو الكائن الذي تجتمع فيه كل الصفات، الرائعة والدنيئة، الخيّرة والشريرة، سيبقى بؤرة التناقض. ضحيته وسيده.

font change

مقالات ذات صلة