الذكاء الاصطناعي ... هذا ما ينتظرنا

أمامنا طريقان ما بين عصر ظلام مرعب أو عصر ذهبي للبشرية

نيكولا فيراريس
نيكولا فيراريس

الذكاء الاصطناعي ... هذا ما ينتظرنا

في أواخر عام 2022، أطلق برنامج "تشات جي. بي. تي." شرارة الذكاء الاصطناعي التوليدي ليجتاح يوميات البشر وينتشر بين ليلة وضحاها في أصقاع الأرض كالنار في الهشيم. بات المصطلح خفيف اللفظ وعلى كل لسان وفي كل مناسبة، اخترق عقول الأجيال كافة، بين مؤيد متحفظ أو متحمس، وآخر مخالف منتقد ومتخوف، رحبت به الشركات، وتخبطت به الجامعات، وقاضاه الأدباء والمفكرون والفنانون، وأقض مضجع الموظفين والخبراء والشركات والدول الكبرى.

لم يكن "تشات جي. بي. تي." أول اكتشاف أو نتاج ثوري للذكاء الاصطناعي، فالتقنية موجودة منذ عقود طويلة خلت، واستخدمت وتستخدم في شتى الميادين منذ أبصر النور أول إنسان آلي، أو "روبوت"، في خمسينات القرن الماضي. يقدر أن 77 في المئة من الأجهزة الالكترونية المستخدمة اليوم مدعومة بالذكاء الاصطناعي بشكل أو بآخر. إلا أن ما قدمه "تشات جي. بي. تي."، وللمرة الأولى، هو قدرة فائقة على التجاوب مع لغة الإنسان المحكية والتفاعل معها والتعلم منها بسرعة مخيفة، وهنا الطامة الكبرى التي استنفرت أبرز الشخصيات العلمية، خصوصا "أهل البيت"من مبتكري الذكاء الاصطناعي التوليدي، أمثال جيفري هينتون وغيره، وكبرى شركات التكنولوجيا العالمية، والحكومات، وقانونيين ومسؤولين عسكريين، للتحذير من الأخطار الوجودية التي تقترن بالذكاء الاصطناعي. فتعلم الآلة هو العنصر الرئيس في الذكاء الآلي وهو الذي ينذر بتبعات مصيرية إذا ما ترك الأمر دون إدارة مناسبة، لا سيما من خلال القوانين والضوابط الفاعلة التي من شأنها أن تحمي البشر من نزعاتهم التنافسية والسلطوية.

ليس الذكاء الاصطناعي، في الشكل الذي بات عليه اليوم، تقنية تقليدية تحتاج الى سنوات لتتطور وتستقر كعهد جديد من الحداثة تنقلب فيه الموازين وتنتقل عبره البشرية من حيز تاريخي إلى آخر بسلاسة. ذلك لأن اكتشافات الماضي التقنية كانت تتطلب قدرا كبيرا من البنية التحتية المادية التكميلية (كخطوط الكهرباء، وأنواع جديدة من المحركات والأجهزة، والمصانع) إلى جانب مهارات وأهداف تجارية جديدة، بينما الكثير من البنية التحتية الضرورية لتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي موجودة بالفعل، كالسحابة، والبرمجيات، ومتاجر التطبيقات، وغيرها من التكنولوجيات المتطورة، التي تسمح باختصار الوقت والجهد والخبرة والنفقات اللازمة للمباشرة في نظم المعلومات الجديدة.

وقد تسارع نمو الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي بمعدل 14 ضعفا منذ عام 2000. ومن الناحية التجارية، لا تعمل شركات تقنية الذكاء الاصطناعي ضمن القواعد المتعارف عليها؛ فأول الوافدين ليسوا بالضرورة هم الفائزين، حيث يبدأ هؤلاء من حيث ينتهي الآخرون ويجري الانتقال إلى حقبات متعاقبة من تطور الذكاء الاصطناعي في ظل منافسة محتدمة وبسرعة مذهلة يمكن أن تحدث تغييرا جذريا لما هو قائم.

سنة واحدة كفيلة بأن تشهد تقدما هائلا وغير محسوب يوازي سنين أو عقودا من الاكتشاف والتمرس في ما يتعلق بالتقنيات التي نعهدها

لنأخذ مثل "تشات جي. بي. تي."؛ بعيد إطلاقه بشهرين، نجح التطبيق غير المسبوق في استقطاب 100 مليون مستخدم، وهو رقم قياسي، وقد أعاد ذلك إلى الواجهة الأبحاث التي قامت وتقوم بها "غوغل"في شأن النماذج اللغوية الكبيرة والتوليدية التي يعتمد عليها "تشات جي. بي. تي."، إلا أنها لم تكن الأولى في هذا النجاح. لكن ما لبثت نماذج مماثلة، ومنها لـ"غوغل" و"مايكروسوفت" و"ميتا" وغيرها ذات خاصيات منافسة، أن أبصرت النور سريعا، مما دفع "أوبن إيه. آي." الشركة الأم وراء "تشات جي. بي. تي." الى أن تطلق نموذجا أكثر حداثة ومرونة لجهة تطويعه لحاجات الشركات الفردية.

يمكن أن ينسب هذا التطويع إلى مفهوم "دمقرطة الإبتكار"  (Democratizing Innovation) الذي صاغه إريك فون هيبل من معهد "ماساتشوستس" للتكنولوجيا، والذي كان، منذ منتصف سبعينات القرن العشرين، يبحث ويكتب عن إمكان قيام مستخدمي المنتجات والخدمات بتطوير ما يحتاجون إليه بأنفسهم بدلا من الاعتماد ببساطة على الشركات للقيام به.

ديانا استيفانيا روبيو

أربع مسائل تتحكم بالذكاء ومستجداته

أمام هذا المشهد، ربما يعجز العقل عن تصور واضح لمستقبل الذكاء الاصطناعي المتغير دائما، إلا أن هناك أربع مسائل قد تفرض تأثيرا ما، يسمح للبشر بالحفاظ على السيطرة على هذه التقنية.

أولى هذه المسائل، هي التقنية نفسها، هل ستتيحها الشركات المطورة للجميع، وعلى نحو كامل، أم ستبقى حكرا على هذه الشركات بادعاء أن ذلك سيمكنها من التحكم بها درءا للأخطار التي يمكن أن تنجم عن استخدامها، خصوصا في ظل عدم الاستعداد الكافي لإدارة هذه الأخطار المحتملة وكيفية تجنبها؛ من الأخطار السيبرانية والسلوكيات المتحيزة وانتهاك الخصوصية، إلى سيطرة الخوارزميات على عقول البشر وتلقينهم معلومات مضللة أو خطيرة، مثل كيفية صنع سلاح بيولوجي، إضافة إلى سرقة نصوصهم وفنونهم ورسوماتهم وأشعارهم، وكذلك وظائفهم بمئات الملايين ربما، والأسوأ من ذلك، تدمير وجودهم.

أما المسألة الثانية، فهي ليست بجديدة، وتطرح عند كل مفترق تقني يثبت أداء أكثر فاعلية وإنتاجا من البشر يدفع لاستبدالهم بالآلة، فهل سنرى مثلا خمسة ملايين مبرمج هندي بلا وظائف خلال عامين، كما يدّعي الرئيس التنفيذي لشركة "ستابيليتي إيه. آي." في لندن، كون البرامج تنشأ ذاتيا بالذكاء الاصطناعي؟

المسألة الثالثة وهي الأهم، تتمثل في الضوابط والقوانين التي ستحكم عمل الشركات المنتجة للذكاء الاصطناعي وللتقنية نفسها، على أن تكون نافذة وعادلة وفق معايير تطبق على نحو جماعي بدءا من الرقابة وصولا إلى المحاسبة.

المسألة الرابعة والأخيرة ترتبط بالبشر أنفسهم وكيفية تعاملهم مع الآلة، ومدى تمتعهم بالمسؤولية الأخلاقية عند استخدامهم تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي ومواكبتهم تغيراتها، والاستفادة مما توفره من قيمة لإدارة شؤونهم بطريقة أسهل، وتحسين معيشة البشر الى الأفضل.

نيكولا فيراريس

ماذا يحمل المستقبل بين معسكرين؟

لا يعلم، حتى العلماء، حقيقة ماذا يحمل مستقبل الذكاء الاصطناعي، ومن الصعب التنبؤ بشكل مطلق كيف سيكون عليه العالم في 2024 أقله، لأن سنة واحدة، كفيلة بأن تشهد تقدما هائلا، وغير محسوب يوازي سنين أو عقودا من الاكتشاف والتمرس في ما يتعلق بالتقنيات التي نعهدها. 

كما أن جهوزية الشركات الكبيرة لاعتماد الذكاء الاصطناعي التوليدي قد تكون أضحت متقدمة جدا، بعد أن أمضت معظم العام المنصرم في مرحلة تجريبية لهذه التقنية. وقد ضخ أصحاب رؤوس الأموال الاستثمارية أكثر من 36 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي التوليدي في 2023، أي أكثر من ضعف ما كان عليه في عام 2022. 

إنطلاقا من الواقع الحالي، والانقسام العميق بين معسكرين لمطوري الذكاء الاصطناعي، الأول ممن يعبرون عن مخاوفهم من التطور السريع غير المضبوط لهذه التقنية وبالتالي يدعون لأن تبقى مصادر النماذج، أو "الأكواد" التي يطلقونها خاصة بهم وغير متاحة للاستخدام المفتوح. يقابله المعسكر الثاني، ممن يرون في الذكاء الاصطناعي فرصا لقفزة تقدمية سريعة في شتى المجالات، وبالتالي يعارضون إعاقتها من خلال إتاحة مصادر نماذجهم لأطراف آخرين يمكنهم البناء عليها حيث تفوق فوائدها الإنسانية والعملية والتجارية الأخطار الوجودية التي يمكن أن تطرحها هذه التقنية. فمن خلال هذه النظرية، أطلقت "أوبن. إيه. آي." أخيرا نسخة أكثر تقدما من "تشات جي. بي. تي."، هي "GPT-4"، توفر لمستخدميها، لا سيما الشركات، إمكان بناء برمجيات وتطبيقات دردشة آلية خاصة بهم. كذلك فعلت "ميتا" عبر إطلاق نموذج الذكاء الاصطناعي التوليدي "لاما"، و"غوغل" التي أطلقت في ديسمبر/كانون الأول الماضي نموذج "جيميني".

فالنماذج المفتوحة المصدر تقلد أداء "GPT-4" عندما تدرب بحرفية وانتقائية، وهذا يعتبر أمرا جيدا في تحفيز المنافسة والتوصل إلى نماذج جديدة ومبتكرة في شتى المجالات. لكنه يعني أيضا أن الخطر الكارثي الذي يبقي النخبة التقنية متيقظة أصبح أكثر واقعية.

يقول كبير علماء الذكاء الاصطناعي في "ميتا" يان لوكان، إن النماذج المفتوحة المصادر حفزت المنافسة ومكّنت مجموعة أكبر من الأطراف من بناء أنظمة الذكاء الاصطناعي واستخدامها. إلا أن المنتقدين يخشون أن يؤدي وضع نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي في أيدي جهات فاعلة غير مسؤولة إلى تعزيز أخطار التضليل والحرب السيبرانية والإرهاب البيولوجي. ويعلل لوكان وجهة نظره بتكرار السيناريو نفسه في بداية عصر الإنترنت، وأن هذه التكنولوجيا ازدهرت فقط لأنها ظلت منصة مفتوحة وحافظت على لا مركزيتها.

تحالف الذكاء المنفتح والآمن والمسؤول

هذا المنطق دفع بـ "ميتا" و "أي. بي. أم" إلى إطلاق تحالف الذكاء الاصطناعي مطلع ديسمبر/كانون الأول المنصرم لـ "تعزيز الذكاء الاصطناعي المنفتح والآمن والمسؤول"، وهو عبارة عن تجمع دولي يضم أكثر من 50 منظمة تشارك في أبحاث تطوير التكنولوجيا، من شركات التكنولوجيا والجامعات الرائدة في مجال الأبحاث والوكالات العلمية، وأعضاء مثل شركة "أدفانسد مايكرو ديفايسز" و "ديل تكنولوجيز" و "إنتل" و"ناسا" و"كليفلند كلينيك" وغيرها. أما الهدف الرئيس لهذا التجمع، فهو إكساب "ميتا" النفوذ من خلال الترويج واتباع نهج المصدر المفتوح، ومساعدتها في مواجهة كبار منتجي نماذج الذكاء الاصطناعي ذات المصادر المغلقة مثل "أوبن إيه. آي." و"غوغل" و"أنثروبيك".

المفارقة أن يان لوكان كان قد فاز بجائزة "تورينغ" لعام 2018 إلى جانب زميليه جيفري هينتون ويوشوا بنجيو، عن أبحاثهم في "التعلم العميق" (Deep Learning) لهذه التكنولوجيا. هينتون، الذي كان يلقب برجل الذكاء الاصطناعي الأول لدى "غوغل" قبل استقالته في مايو/أيار الماضي لأسباب تتعلق بمخاوف من "تهور" الشركة في سباق الذكاء الاصطناعي المحموم الذي تنتهجه.

يصر لوكان على أن لا علاقة للذكاء بالرغبة في الهيمنة، إذ "لو كان صحيحا أن أذكى البشر يريدون السيطرة على الآخرين، لكان ألبرت أينشتاين وغيره من العلماء أغنياء وأقوياء، لكنهم لم يكونوا كذلك". فبالنسبة إليه، وهو العالم ذو المكانة الرائدة والموثوق بها في مجال الذكاء الاصطناعي، سيساعد تفوق ذكاء الآلة البشر على مواجهة التحديات الكبيرة، مثل مكافحة تغير المناخ وعلاج الأمراض، معتبرا هذا الواقع مثيرا حيث ستكون الآلة تحت سيطرة الإنسان ومنفذة لأوامره.

هل ستبقى تقنيات الذكاء الاصطناعي حكرا على الشركات بادعاء أن ذلك سيمكنها من التحكم بها درءا للأخطار السيبرانية التي يمكن أن تنجم عن استخدامها

يبرز تحدٍّ آخر أمام مسيرة تطور الذكاء الاصطناعي، وهو أن الموارد اللازمة لإنتاج هذه النماذج من مدخلات البيانات إلى القدرة الحاسوبية الفائقة والطاقة الكهربائية والأدمغة، تحتاج حجما كبيرا من الاستثمار. على سبيل المثل، استخدم تدريب GPT-3 3,1 غيغاوات/ساعة من الكهرباء (ما يكفي لتشغيل 121 منزلا في الولايات المتحدة لمدة عام)، وكلف "أوبن إيه. آي." نحو 4,6 ملايين دولار. أما تدريب "GPT-4"، وهو نموذج أكبر بكثير من سلفه، فأكثر تكلفة بما لا يتناسب مع مفهوم الاستثمار والعوائد المالية. علما أن متطلبات الطاقة الحاسوبية تتزايد بوتيرة أسرع من البيانات المدخلة، مما يعني أن تكلفة تدريب هذه النماذج ستصبح باهظة الثمن وبوتيرة أسرع من التحسينات التي قد تطرأ عليها.

ديانا استيفانيا روبيو

تطوران أخيران جديران بالذكر في هذا الإطار. الأول، ما يوفره نموذج "غوغل"، "جيميني"، إذ إن إتاحة الذكاء الاصطناعي التوليدي على الهواتف المحمولة وليس إلزاما من خلال السحابة على الخوادم التي تديرها مجموعات التكنولوجيا الكبرى، من شأنه أن يخفض من تكاليف تشغيل مثل هذه الأنظمة بشكل كبير. أما الثاني، فهو "مشروع سيليكا" الذي تعمل "مايكروسوفت"على إطلاقه، والذي يعمل على تطوير أول تقنية تخزين مستدامة وطويلة المدى في العالم تقوم على تخزين البيانات في زجاج الكوارتز، وهي وسائط متينة ومنخفضة التكلفة ومقاومة للمجالات الكهرومغناطيسية، ولمدة تتراوح بين عشرات إلى مئات الآلاف من السنين. كما أنها تستوعب كثافة بيانات تزيد عن 7 تيرابايت في طبق زجاجي مربع وباستخدام توجيه شعاع الليزر.

 ولكن يبقى انتظار الوصول إلى نقطة تحول ما، تبرر جاذبية الاستثمار في تطوير هذه النماذج، وربما قد نصل إليها انطلاقا من  السنة الجارية.

ومن المهم التذكير بتقنية "الحوسبة الكمومية" التي تعد بقدرة فائقة على تسريع إنجاز الأعمال الحسابية الثقيلة بشكل كبير وأن تكون أكثر كفاءة من الخوارزميات الكلاسيكية لحل المشكلات، وهو ما قد يفضي إلى خفض التكلفة في مقابل رفع أداء نماذج الذكاء الاصطناعي.

الأشد إيلاما مما سبق، خلصت إليه ورقة بحثية نُشرت في أكتوبر/تشرين الأول 2022 في الـ "إيكونوميست"، تقول إن "مخزون البيانات اللغوية عالية الجودة سوف ينفد قريبا، على الأرجح قبل عام 2026". من المؤكد أن هناك المزيد من النصوص الجديدة، لكنها قد تكون متاحة في قواعد بيانات الشركات أو على الأجهزة الشخصية، ولا يمكن الوصول إليها.  

ديانا استيفانيا روبيو

لا نعلم لأي من المعسكرين ستكون الغلبة، بين عصر ظلام أو عصر ذهبي للبشرية، كما قد يصنفه القائمون على تقنية الذكاء الاصطناعي. لكن لطالما عهدنا أن المسار الذي تتخذه الأمور في النهاية يتوقف على حجم الاستثمارات المرصودة لدى الجهتين وعلى مصالح قد ترقى إلى حد حماية الأمن القومي، سياسيا وأمنيا واقتصاديا.

يتبع جزء ثاني: الذكاء الاصطناعي: الآلة شريكا و"البطالة التكنولوجية" ... القواعد والقوانين وسباق التسلح

font change

مقالات ذات صلة