بصمة الذكاء الاصطناعي ثورية... وكربونية

انتشاره ينذر بمزيد من الانبعاثات والرهان على حلول "ذكية" لتغير المناخ

Dave Murray
Dave Murray

بصمة الذكاء الاصطناعي ثورية... وكربونية

أثار الصعود السريع والمتنامي للذكاء الاصطناعي والاستهلاك المتزايد والتطور الهائل للتكنولوجيا، مخاوف من اتساع البصمة الكربونية لتلك الصناعة وعدم مراعاة خطورتها في مجال البيئة وتغير المناخ. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي تقدمها شركات التكنولوجيا الكبرى للحد من البصمة الكربونية، قد تزيد انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في الآونة المقبلة بسبب تقنيات الذكاء الاصطناعي، ولا سيما في مراكز البيانات. ومن المتوقع في حلول عام 2025 أن تستهلك تقنية الذكاء الاصطناعي كأحد فروع صناعة تكنولوجيا المعلومات، ما يصل إلى 20 في المئة من الكهرباء في العالم، مما يساهم بنحو 5,5 في المئة من انبعاثات الكربون العالمية.

تجاهل الأثر البيئي

في ظل السعي المحموم لصناعة التكنولوجيا لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، وزيادة استخداماته لتحسين جودة الحياة والأعمال، وتقليل الوقت المطلوب لإنجاز العمل وزيادة الإنتاجية ومعالجة التحديات الملحة، تجاهلت الشركات المستثمرة في هذا المجال الاعتبارات البيئية التي تؤثر بدورها في التغيرات المناخية والعواقب البيئية المرتبطة بالبصمة الكربونية للذكاء الاصطناعي. إلا أن تلك مسألة أساسية كون شبكة الإنترنت مسؤولة عن 1,6 مليار طن سنوياً من انبعاثات الغازات الدفيئة، في ظل عدم اهتمام شركات التكنولوجيا العملاقة بالأمر على خلفية الصراع والمنافسة في عرض برامج جديدة وتسويقها لزيادة الاستهلاك، مما يتطلب مزيدا من الطاقة وينتج مزيدا من الانبعاثات.

ليس هناك برامج لتخفيف الانبعاثات المترتبة على الأدوات الإلكترونية الحديثة والمتكاثرة التي نستخدمها، في وقت يطرح موضوع التركيز على الطاقة المتجددة كسبيل للحد من ذلك، وربطها بالخوادم الكبيرة التي تسمح باستخدام الإنترنت ليستفيد منها الذكاء الاصطناعي. ويرى البعض أن زيادة الطلب على الطاقة المتجددة غير كاف وخصوصاً في مجال الطاقة الرقمية.

REUTERS

وتأتي تحذيرات الهيئة الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) من العواقب المدمرة لارتفاع انبعاثات الغازات الدفيئة مع إيعازها بأهمية التوسع في إزالة الكربون بالتوازي مع تنفيذ إجراءات تقليل الانبعاثات. ويُعتبَر خفض البصمة الكربونية جزءاً مهماً من الجهود العالمية لمكافحة تغير المناخ وتجنب تداعياتها المدمرة على الاقتصادات الدولية.

يتسبب تدريب روبوت الذكاء الاصطناعي التوليدي "جي. بي. تي. 3" بانبعاثات كربونية قدرها 552 طناً، ما يوازي انبعاثات سيارة تسير مليوني كيلومتر

دراسة مشتركة لـ"غوغل" وجامعة كاليفورنيا

وتشير البصمة الكربونية إلى مجموع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وغيره من الغازات الدفيئة التي تُنتَج نتيجة لنشاط معين، وتُستخدَم كمقياس لتأثير الأنشطة البشرية والصناعية والأنشطة الأخرى في التغير المناخي. وعندما يقلل الأفراد والشركات والمؤسسات الصناعية في مختلف أحجامهم وتخصصهم، بصمتهم الكربونية، يساهمون في الحد من الانبعاثات الضارة، وبالتالي الحد من تغير المناخ.

يشمل خفض البصمة الكربونية الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، كما أنه يعزز نمو الابتكار والتطوير في مجالات الطاقة المستدامة والتكنولوجيا البيئية. وهناك مقاييس مختلفة تُستخدَم لقياس البصمة الكربونية على مستوى الدول والأفراد والمؤسسات، وتتنوع هذه المقاييس بحسب الأغراض والأهداف التي تخدمها، وتعتمد على مجموعة من العوامل المختلفة مثل استهلاك الطاقة، والنقل، والإنتاج الصناعي، والزراعة، والإدارة البيئية.

مؤشرات الانبعاثات الكربونية

يجري استخدام مؤشرات مثل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري للقيام بتقدير البصمة الكربونية لكل دولة. وتشير منظمات دولية مثل الأمم المتحدة والمنظمة الدولية للطاقة وغيرها في تقارير دورية، إلى مستويات الانبعاثات الكربونية وتطوراتها على مستوى الدول. تطلق الولايات المتحدة 28 في المئة من تلك الانبعاثات يليها الاتحاد الأوروبي بنسبة 23 في المئة واليابان بأربعة في المئة، ودول منظمة التعاون الاقتصادي بخمسة في المئة وروسيا بـ11 في المئة والصين بتسعة في المئة، ثم الهند بثلاثة في المئة وبقية العالم بـ18 في المئة، ويلاحظ أن الدول المتقدمة هي مصدر 83 في المئة من الانبعاثات أما الدول النامية فهي مسؤولة عن 16 في المئة فقط.

وأوضحت دراسة مشتركة لـ"غوغل" وجامعة كاليفورنيا في بيركلي أخيراً إلى أن تدريب روبوت الذكاء الاصطناعي التوليدي "جي. بي. تي. 3" تسبب بانبعاثات كربونية قدرها 552 طناً، ما يوازي انبعاثات سيارة تسير مليوني كيلومتر. أما خلفه "جي. بي. تي. 4"، فجرى تدريبه على عدد من الإعدادات يفوق النسخة السابقة بـ570 مرة، وهذا العدد سيتزايد مع تطور الذكاء الاصطناعي وتزايد انتشاره وقدراته.

وتؤكد "أمازون ويب سيرفيسز" و"مايكروسوفت" و"غوغل"، كبرى شركات الحوسبة السحابية، أنها ملتزمة أعلى قدر ممكن من كفاءة الطاقة. وتعهدت "أمازون ويب سيرفيسز" حتّى بتحقيق الحياد الكربوني في حلول 2040، في حين التزمت "مايكروسوفت" أن تكون "شركة ذات انبعاثات سلبية وبلا فضلات" في حلول عام 2030.

Shutterstock

لكن بعض الخبراء ينظرون إلى الذكاء الاصطناعي إلى حد كبير على أنه تطور إيجابي، إذ أشاد به برنامج الأمم المتحدة للبيئة باعتباره أداة يمكن أن تحسن فهمنا لتأثيرنا البيئي وتأثيرات تغير المناخ. وفي هذا السياق قال الخبير الاقتصادي وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الدكتور محمد عبد العال لـ"المجلة" إن من الصعب تحديد الأرقام الدقيقة أو النتائج المحددة لتأثير الذكاء الاصطناعي في خفض البصمة الكربونية لقطاع الصناعة بشكل عام، ذلك لأن النتائج قد تختلف تبعاً للصناعة والشركة والتقنيات المستخدمة. مع ذلك، هناك بعض الدراسات والتجارب التي تشير الى إمكان أن يؤدي استخدام التحليل الذكي لبيانات الطاقة إلى تحسين كفاءة استخدام الطاقة في الصناعة بنسبة تصل إلى 20 في المئة.

للمزيد إقرأ: الروبوت أم العقل من يتحكم بالاقتصاد والانسان؟

وهناك العديد من الدول التي استخدمت الذكاء الاصطناعي في الصناعة لخفض البصمة الكربونية. على سبيل المثل، في الصين، جرى اعتماد الذكاء الاصطناعي في العديد من الصناعات الكبرى مثل صناعة الصلب والصناعات الثقيلة. وجرى استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين عمليات الإنتاج وتحسين كفاءة استخدام الطاقة. وفي ألمانيا، جرى تطبيق الذكاء الاصطناعي في صناعة السيارات والصناعات الصغيرة والمتوسطة. وجرى استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين عمليات الإنتاج وتوجيه الصيانة التوقعية للآلات والمعدات. كذلك جرى استخدامه لتحسين كفاءة استهلاك الطاقة وتقليل الانبعاثات. وفي الولايات المتحدة، هناك العديد من الشركات التي تعتمد تقنيات الذكاء الاصطناعي في الصناعات المختلفة من أجل تحسين الكفاءة وتقليل البصمة الكربونية وتوليد الطاقة من مصادر متجددة وتحسين كفاءة الشبكات الكهربائية.

لا يمكن الإنكار أن الذكاء الاصطناعي يحمل إمكانات هائلة في مكافحة التغير المناخي، لكن يجب معالجة التحديات والمخاوف لضمان استخدامه بشكلٍ فاعل وآمن

لكن عبد العال أكد من جهة أخرى أن للذكاء الاصطناعي بصمة كربونية في بعض الحالات: "تشير البصمة الكربونية في سياق الذكاء الاصطناعي إلى الأثر الرقمي الذي يتركه نظام الذكاء الاصطناعي فهي تشمل النشاطات الرقمية كلها التي تنتجها التطبيقات والأنظمة الذكية مثل استخدام البيانات، وتحليل السلوك، وتقديم المحتوى، والتفاعل مع المستخدمين".

وأشار إلى أنه "يمكن تطبيق تقنيات التشفير الآمنة لتقليل البصمة الكربونية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وفي الواقع، هناك العديد من الجهود المبذولة حالياً في مجال البحث والتطوير لتحسين الخصوصية والأمان في هذا المجال الحديث جدا بالنسبة إلينا".

في هذا الإطار، قال البروفسور علاء النهري، نائب رئيس المركز الإقليمي لعلوم وتكنولوجيا الفضاء في الأمم المتحدة، في حديث إلى "المجلة"، إلى إحصائية أجريت عام 2020 صنفت الصين أكبر مصدر لانبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في العالم، حيث انبعثت منها كمية قدرها 10,668 مليون طن متري تليها الولايات المتحدة ثاني أكبر مصدر لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون، إذ بلغ إجمالي الانبعاثات 4,713 مليون طن متري في العام، تليها الهند وروسيا واليابان. وبلغ المتوسط السنوي العالمي للبصمة الكربونية للشخص الواحد عام 2020 نحو 6,3 طن من ثاني أكسيد الكربون.

دور الذكاء الاصطناعي في مكافحة التغير المناخي

يشير الذكاء الاصطناعي إلى قدرة أنظمة الكومبيوتر على تنفيذ مهمات لمحاكاة الذكاء البشري، مثل التعلم العميق (Deep learning) ومعالجة كميات ضخمة للبيانات المتعلقة بالتغير المناخي، وتحليلها وتفسيرها، بما يساعد في توقعات التغيرات المستقبلية بدقة أكبر.

كذلك يمكن استخدامه في تصميم النماذج الرياضية للتغيرات المناخية بما يضمن دقة التوقعات المناخية بالكوارث الطبيعية، مثل الفيضانات والعواصف الرعدية والأمطار الغزيرة والانهيارات الأرضية والموجات الباردة والحارة والأعاصير والجفاف والعواصف الترابية أو الثلجية. ويمكنه أيضاً تصميم نماذج للتكيف بسرعة مع التغيرات المناخية وتوفير استراتيجيات فاعلة لتخفيف تداعياتها.

ويمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في إدارة الموارد الطبيعية بطرق غير تقليدية مثل استخدامه في الزراعة المحكمة (Precision farming) لتحسين الإنتاج الزراعي وتقليل انبعاثات الميثان، كما يمكنه تطوير نماذج تنبؤ دقيقة باحتياجات المحاصيل وكيفية التعامل مع فترات التساقط المطري والجفاف، وتطوير وتحسين أنظمة توزيع الطاقة وتخزينها وتحسين كفاءتها، مما يقلل الاعتماد على الوقود الأحفوري وانبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري.

REUTERS
موظفة في شركة Carbfix الأيسلندية الناشئة، تحمل عينات من صخور ثاني أكسيد الكربون المعدنية فيمنشأتها في أولفوس، أيسلندا، 21 نوفمبر 2023.

التكنولوجيا في مقابل الانبعاثات

لا يمكن إنكار أن الذكاء الاصطناعي يحمل إمكانات هائلة في مكافحة التغير المناخي، لكن يجب معالجة التحديات والمخاوف ذات الصلة لضمان استخدامه بشكلٍ فاعل وآمن. ومع استمرار الذكاء الاصطناعي في التقدم، يواجه قطاع التكنولوجيا وصنّاع السياسات سؤالاً مهماً: هل يمكن تحقيق التوازن بين القدرات التحويلية للذكاء الاصطناعي وبصمته الكربونية الكبيرة؟

طرح النهري حلولاً لمجابهة التغيرات المناخية والتكيف معها من خلال تضافر دول العالم كلها لإبقاء درجة الحرارة العالمية دون 1,5 درجة مئوية فوق تلك المسجلة قبل الثورة الصناعية وعدم استخدام الوقود الأحفوري (الفحم والبترول والغاز) واستخدام الطاقة الجديدة والمتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وإنتاج الهيدروجين الأخضر والأمونيا الخضراء. ولفت الى أن مصر تسير على هذا النهج فتعمل على توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية في محطة بنبان بأسوان (1,465 ميغاوات، وتتسع لقدرات تصل إلى 2,000 ميغاوات) وكذلك طاقة الرياح في مزارع الرياح بالزعفرانة وجبل الزيت - البحر الأحمر (1,625 ميغاوات) وحالياً تقوم بإنشاء مصانع لإنتاج الهيدروجين الأخضر والأمونيا الخضراء في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقناة السويس (العين السخنة) بشراكات عربية ودولية.

في المقابل أكد استشاري الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي المهندس روماني رزق الله، لـ"المجلة"، أن كل عملية ذكاء اصطناعي تصدر 500 طن من الانبعاثات الكربونية إذا استخدمت الطاقة التقليدية للكهرباء، إذ أن الذكاء الاصطناعي يحدث انبعاثات ويؤثر في مُعامِل الكربون، لأن الذكاء الاصطناعي آلة والآلات والكومبيوتر يجري تعزيز ذكائها بإضافة برامج وعمليات بطريقة معينة. "وهذا ينتج انبعاثات، وهذه الآلات بعد فترة يجري التخلص منها واستبدال آلات جديدة بها، وقد تحدث انبعاثات أخرى بيئية، فتلك الأجهزة تحتاج إلى التبريد وإعادة التدوير، كما أن تطبيقات الذكاء تستهلك كميات مضاعفة من الطاقة".

كل عملية ذكاء اصطناعي تصدر 500 طن من الانبعاثات الكربونية إذا استخدمت الطاقة التقليدية للكهرباء

روماني رزق الله، مهندس استشاري للتحول الرقمي

كيفية تقليل الأخطار على البيئة

وفق وكالة الطاقة الدولية (IEA)، فإن المصادر الرئيسة لانبعاثات الكربون هي توليد الكهرباء والصناعة والنقل. ويمثل قطاعا الكهرباء والنقل 40 في المئة و21 في المئة من انبعاثات الكربون على التوالي، بينما يستهلك قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أربعة في المئة، وهناك تقديرات أخرى تشير إلى أنها تبلغ 10 في المئة من الكهرباء العالمية. وأفادت الوكالة أن الذكاء الاصطناعي هو أداة يجري من خلالها تحويل الآلات لتحلل البيانات وتجيب عن المعلومات من خلال مجموعة من البيانات تصل الى 175 مليار معلومة لكي تصل هذه الآلة الى الذكاء. وإذا كانت مراكز البيانات قوام عالمنا الرقمي، فهي تطرح بتزايد انتشارها تحدياً بيئياً كبيراً وسط المخاوف حيال البصمة الكربونية للقطاع التكنولوجي. فهل يأتي الحل من الذكاء الاصطناعي أم ستزداد الأمور تعقيداً الفترة المقبلة؟

REUTERS
وحدة BioPod، عبارة عن دفيئة عالية التقنية يتم التحكم فيها بواسطة الذكاء الاصطناعي.

تعتبر مصر إحدى الدول العربية السباقة التي أولت اهتماماً كبيراً بخطط العمل لمكافحة تغير المناخ، ولم يكن إطلاق الاستراتيجيا الوطنية للتغيرات المناخية 2050 وليد انعقاد مؤتمر المناخ في شرم الشيخ أو رئاستها لمؤتمر الأطراف "COP27" العام المنصرم، لكنها كانت تعمل لتجسد الإجراءات العملية لتحقيق التكيف للقطاعات المتضررة وتخفيف الانبعاثات من القطاعات المسببة لها. كما أن لدى مصر أربعة مشاريع ضخمة ممولة من صندوق المناخ الأخضر، بالتعاون مع بنك الإعمار الأوروبي، لتمويل مشاريع خاصة بالطاقة الجديدة والمتجددة والتأكد من أن تلك المشاريع تحقق التكيف وتعمل على تخفيف آثار تغير المناخ. كما تلتزم مصر اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ، وكذلك اتفاقية باريس، وهما اتفاقيتان ملزمتان للدول كلها خفض الانبعاثات للحيلولة دون الوصول الى 1,5 درجة مئوية إضافية.

font change

مقالات ذات صلة