الحوسبة الكمومية ثورة اقتصادية ناشئة

كلفة الكومبيوتر منها لأغراض تجارية 10 ملايين دولار

غيتي
غيتي

الحوسبة الكمومية ثورة اقتصادية ناشئة

طرحت الحوسبة الكمومية (quantum computing) نفسها في الآونة الأخيرة مجالاً متعدد الاختصاصات يشمل جوانب من علوم الكومبيوتر والفيزياء والرياضيات ويستخدم الميكانيكا الكمومية (quantum mechanics) لحل مسائل معقدة بسرعة أكبر بكثير، مقارنةً بالكومبيوترات الكلاسيكية. لكن ما هو الكم (quantum)؟

هو أصغر وحدة في ظاهرة ما، وجمعه كموم (quanta). مثلاً، كم الكهرباء هو الإلكترون. والعبارة لاتينية في الأصل وتعني الكمية (quantity). وتستند الحوسبة الكمومية إلى النظرية الكمومية التي تسعى إلى تفسير الظواهر وفق سلوكيات أصغر وحدة مكونة لها، ويعود الفضل في النظرية إلى الألمانيين ماكس بلانك وألبرت أينشتاين والدانماركي نيلز بور الحائزين جميعاً جوائز نوبل في الفيزياء في الأعوام 1918 و1921 و1922، علما أن بلانك كان أول من طرحها عام 1900.

من النظرية الكمومية اشتُقَّت الفيزياء الكمومية والميكانيكا الكمومية اللتان تدرسان الظواهر ذات الصلة بهما عند مستوى الوحدات الصغرى المكونة لهذه الظواهر. وتقوم الحوسبة الكمومية على الميكانيكا الكمومية، فالأولى تستند، في سرعة معالجتها للبيانات، إلى ثلاثة مبادئ متضمنة في الثانية: التراكب (superposition) والتدخل (interference) والتشابك (entanglement). تطاول هذه المبادئ الوحدة الصغرى في البيانات التي يعالجها الكومبيوتر الكمومي وهي الكيوبت (qubit) النظيرة للبت (bit) التي يتعامل معها الكومبيوتر الكلاسيكي. والتراكب يعني أن قيمة الكيوبت يمكنها أن تكون واحداً أو صفراً أو واحداً وصفراً معاً، في حين أن البت لا تستطيع أن تحمل قيمة غير واحد أو صفر. ويحدد التدخل حالة الكيوبت ليؤثر في نتيجة محددة خلال القياس، وهنا تبرع الحوسبة الكمومية. أما التشابك فهو حين يصبح نظامان كموميان متداخلين أحدهما في الآخر.

غيتي

وفي حين لا تزال الحوسبة الكمومية قيد التطوير، إلا أنها تشكل قفزة نوعية كبرى على صعيد القدرات الحوسبية، وتقدم وعوداً في قطاعات مثل المنتجات الصيدلانية والرعاية الصحية والتصنيع والأمن السيبراني والخدمات المالية. وتفيد الـ"كوانتوم إنسايدر"، النشرة المتخصصة بالقطاع، بأن أكثر من 600 شركة و30 مختبراً حكومياً ووكالة حكومية تطور هذه التكنولوجيا الواعدة. وهذا يشمل شركات عملاقة غنية عن التعريف، مثل "أمازون" و"غوغل" و"هيوليت باكارد" و"هيتاشي" و"آي. بي. إم." و"إنتل" و"مايكروسوفت" ومؤسسات أكاديمية مرموقة مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة أوكسفورد ومختبرات مثل مختبر لوس ألاموس الوطني.

بحوث ومختبرات وشركات

في حين تتركز هذه الشركات والمؤسسات والمختبرات في الولايات المتحدة، ثمة بحوث يُعتَدّ بها في هذا المضمار في المملكة المتحدة وأوستراليا وكندا والصين وألمانيا وإسرائيل واليابان وروسيا. وأطلقت المملكة المتحدة برنامجاً للحوسبة الكمومية. وقبل عامين أسست الهند المهمة الوطنية للتكنولوجيات والتطبيقات الكمومية.

أكثر من 600 شركة و30 مختبراً حكومياً ووكالة حكومية تطور هذه التكنولوجيا الواعدة. وهذا يشمل شركات عملاقة مثل "أمازون" و"غوغل" و"هيوليت باكارد" و"هيتاشي" و"آي. بي. إم." و"إنتل" و"مايكروسوفت".

نشرة "كوانتوم إنسايدر"

وتقدر شركة "ماركتس إن ريسرش" الأميركية لبحوث السوق أن سوق الحوسبة الكمومية بلغت قيمتها عام 2021 نحو 395 مليون دولار، وترجح "بلومبرغ" أن تقفز هذه القيمة إلى أكثر من خمسة مليارات دولار بحلول عام 2030. ولم تستبعد شركة "تك تارغت" الأميركية لبحوث السوق أيضاً أن تتحول هذه التكنولوجيا إلى "عامل مزعزع" (مقوِّض) في مجال الحوسبة فور نضجها، ذلك أن الشركات الناشئة التي تجري بحوثاً في هذا الصدد تتكاثر حول العالم، لكن معظم الخبراء يتوقعون أن تمر سنوات قبل أن تؤتي الحوسبة الكمومية ثماراً عملية.

Shutterstock

يعود أول كومبيوتر كمومي إلى عام 2011 وهو من إنتاج شركة "دي وايف سيستمز"، وأصدرت "آي. بي. إم." نسختها، "كوانتوم سيستم وان"، عام 2019، وأتبعتها بأكبر كومبيوتر كمومي حتى اليوم، "أوسبري"، في نوفمبر/تشرين الثاني 2022. وفي حين لا تزال الشركات مترددة في صنع كومبيوتر كمومي أو في امتلاكه، توفر شركات مثل "أمازون" و"مايكروسوفت" خدمات حوسبة كمومية عبر الإنترنت. وسبب التردد هو التكلفة، فالكومبيوتر الكمومي لأغراض تجارية المؤلف من 50 كيوبت قد يكلف ما يصل إلى 10 ملايين دولار. ولا تزال الكومبيوترات الكمومية تتضمن كومبيوترات كلاسيكية تشغلها وترسل إليها التعليمات. وهي تتطلب طاقة كبيرة لتشغيلها وتبريدها.

تتميز الكومبيوترات الكمومية بسرعتها المدهشة مقارنة بنظيرتها الكلاسيكية، مثل تحليل البيانات المالية، وبوعودها في تحقيق قفزات نوعية في مجالي الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي. 

قدرات متفوقة

تتميز الكومبيوترات الكمومية بسرعتها المدهشة مقارنة بنظيرتها الكلاسيكية (مثل تحليل البيانات المالية)، وبقدرتها على معالجة عمليات معقدة (مثل إجراء حسابات معقدة كثيرة في الوقت نفسه)، وبتشغيلها عمليات محاكاة معقدة (مثل محاكاة تفاعلات بين الجزيئات (molecules)، وبوعودها في تحقيق قفزات نوعية في مجالي الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي. لكنها لا تزال تعاني من مشاكل، فأي اضطراب في النظام قد يلغي العملية كلها، ولا تزال الكيوبتات قاصرة عن التصحيح التلقائي للأخطاء خلافاً للبتات، ولا تزال البيانات المخرجة عرضة للإفساد عند تسلمها، لكن تقنيات جديدة بدأت تعالج هذه المشكلة الأخيرة. وتحل تقنيات جديدة أخرى نتجت من بحوث مكثفة في السنوات الأخيرة مشاكل مثل أمن الكومبيوترات الكمومية وتخزين المعلومات الناتجة منها. وكأي تكنولوجيا ناشئة، لا تزال الحوسبة الكمومية توفر فرصاً وتثير أخطاراً، لكن البحوث كفيلة حل المشاكل.
لا تُعَدّ الكومبيوترات الكمومية بديلاً محتملاً من نظيرتها الكلاسيكية، إذ ينادي مطوّرو الأولى بها في وصفها وسيلة إضافية تعالج المسائل المعقدة التي تعجز عنها الكومبيوترات الكلاسيكية أو تأخذ وقتاً طويلاً جداً في معالجتها. وإذ ندخل عصر ما يُسمَّى البيانات الكبيرة (big data) حيث تنمو البيانات التي نضطر إلى تخزينها، من المتوقع على نطاق واسع أن تتمكن الكومبيوترات الكمومية من حل المسائل المستعصية (intractable problems) بسبب ضخامة البيانات المدخلة.

للحوسبة الكمومية أهمية بارزة في الهندسة الكيميائية والبيولوجية التي تشمل اكتشاف الجزيئات وتعديلها، وهذا يتضمن الحركة والتفاعل على صعيد أجسام يقل حجمها عن الذرات. والسعي إلى فهم ما يجري على هذا المستوى الدقيق، هو ما دفع الأميركي ريتشارد فاينمان، الذي تشارك جائزة نوبل للفيزياء مع مواطنه جوليان شوينغر والياباني شينيشيرو توموناغا عام 1965 بفضل بحوثهم في الفيزياء الكمومية، إلى طرح فكرة صنع كومبيوتر كمومي قادر على محاكاة تلك الحركة وذلك التفاعل. وللتكنولوجيا الجديدة أهمية أيضاً في التشفير، الذي يعزو كثر تأسيسه إلى "كتاب التعمية" للخليل بن أحمد الفراهيدي في القرن الثامن، فالتشفير يجمع بين الكلمات، كما اقترح الفراهيدي، لكن الحوسبة الكمومية قد تجعل فك التشفير أسهل بكثير مقارنةً بالكمبيوترات الكلاسيكية.

مجالات جديدة في الذكاء الاصطناعي

ستفتح الحوسبة الكمومية مجالات جديدة في الذكاء الاصطناعي، الذي تُطلَب منه معالجة كم هائل من البيانات ليتطور، وسيكون تطوره أسرع وأكفأ بوجود كومبيوتر يدعم هذه المعالجة ويسرعها. وفي الخدمات المالية، تجهد الشركات المتخصصة في وضع حالات محاكاة تمكن من توقع اتجاهات الأسعار الخاصة بمنتجات مالية معينة، وتعد الحوسبة الكمومية بتسهيل ذلك وتحسينه، فهي إلى جانب سرعة معالجتها للبيانات تستطيع أن تستقبل بيانات أكبر بكثير، مما يعزز احتمالات أن تصيب التوقعات. ويصح الأمر نفسه على البيانات الضخمة الناتجة من عمليات التصنيع، ولا سيما تصنيع الرقاقات الميكروية التي يتقلص حجمها ويتزايد ما تحمله من بيانات يوماً بعد يوم ويتطلب تصنيعها خطوات معقدة كثيرة العدد.

ستفتح الحوسبة الكمومية مجالات جديدة في الذكاء الاصطناعي، الذي تُطلَب منه معالجة كم هائل من البيانات ليتطور، وسيكون تطوره أسرع وأكفأ بوجود كومبيوتر يدعم هذه المعالجة ويسرعها.

يتألف الكومبيوتر الكمومي من جهاز وبرمجية، على غرار نظيره الكلاسيكي، ويتضمن الجهاز سطحاً للبيانات الكمومية (quantum data plane) هو قلب الكومبيوتر ويشمل الكيوبتات والهياكل اللازمة للحفاظ عليها، وسطحاً للتحكم والقياس (control and measurement plane) يحول الإشارات الرقمية إلى إشارات نظيرة تعمل على الكيوبتات في سطح البيانات الكمومية، والبرمجية الكمومية (quantum software) التي تطبق خوارزميات (algorithms) كمومية معينة لتطبيق عمليات كمومية منطقية على الكيوبتات.

ومن المرتقب أن تكون للكومبيوترات الكمومية تطبيقات مختلفة في القطاعات المختلفة، لكن يصعب تصور الوضع الذي سيكون عليه العالم حين تؤتي هذه التكنولوجيا الجديدة ثمارها. غير أننا حين نتذكر كيف غيرت الكومبيوترات الكلاسيكية وجه العالم، ليس من المبالغة القول إن الكمبيوترات الكمومية ستحدث ثورة، ولا سيما أن الباحثين في المجال يتوقعون أن تتمكن هذه الكومبيوترات من إجراء ملايين العمليات الحسابية في الوقت نفسه. هي ستؤثر بكل تأكيد في طرق ابتكارنا عقاقير ومواد جديدة وحماية بياناتنا واستكشاف الفضاء وتوقع الأحوال الجوية وتغير المناخ.

ثورة... وأسئلة وتحديات

وفي حين من المرجح أن تؤدي الحوسبة الكمومية إلى ثورة في معظم القطاعات الاقتصادية إن لم يكن كلها، ثمة علامات استفهام اجتماعية تُثَار حولها، منها ما يتعلق بالعدالة والإنصاف والشمول والمسؤولية في مجالات البيئة والمجتمع والحوكمة وحقوق الإنسان. فهل ستتطلب ضوابط وقواعد لضمان هذه الجوانب؟ كذلك تعد التكنولوجيا الجديدة بتوفير دفاعات سيبرانية غير مسبوقة، لكنها تهدد أيضاً بإطلاق قدرات جديدة في مجال القرصنة السيبرانية. في المقابل تعد الحوسبة الكمومية بتطوير التصويت وإدارة الأزمات والموارد، وتعزيز البرامج الحكومية الساعية إلى توفير هويات رقمية للمواطنين يغطي كل منها مختلف حقوقهم وواجباتهم (حقوق الانتخاب وواجبات تسديد الضرائب).

وإذ تتواصل البحوث في الحوسبة الكمومية وتتسارع، ربما آن الأوان لاستباق نضج هذه التكنولوجيا بالبحث عن التحسينات والمشاكل التي ستنشأ عنها، وذلك من خلال مناقشات بين مختلف الأطراف المعنيين، مثل العلماء والجهات التي تضع السياسات وقادة القطاعات الاقتصادية ومنظمات المجتمع المدني والرأي العام. ويأمل الخبراء في المستقبليات والمؤمنون بالعولمة في أن تمكن الكومبيوترات الكمومية من تحقيق أهداف التنمية المستدامة التي تأمل الأمم المتحدة تحقيقها بحلول عام 2030 وأهداف تصفير الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2050.

font change