القرضاوي.. الفقيه الوادع أم السياسي الراديكالي؟

القرضاوي.. الفقيه الوادع أم السياسي الراديكالي؟

[caption id="attachment_55248752" align="aligncenter" width="620"]اسماعيل هنية يقيل يد يوسف القرضاوي اسماعيل هنية يقيل يد يوسف القرضاوي[/caption]


يحاول القرضاوي جاهدا إبقاء نفسه مرجعية سنية تعتمد على الحشد وتكنيك «التجميع» الأثير لدى جماعات الإسلام السياسي رغم تراجع دور الاتحاد العالمي الذي يرأسه والذي كان يهدف إلى سحب البساط من المؤسسات الدينية العريقة التي يتهمها بالانحياز إلى السلطة، كالأزهر، ويرشق الحكومة الانتقالية المصرية بسهام الإدانة على خلفية سياسية.
وبإزاء هيمنة القرضاوي على اتحاد علماء المسلمين جاءت المفاجئة بانسحاب العلامة الفقيه الكبير والمقدر في الأوساط السلفية بسبب متانته العلمية الشيخ عبد الله بن بيه من الاتحاد، معللا ذلك بأن «سبيل الإصلاح والمصالحة يقتضي خطابا لا يتلاءم مع موقعي في الاتحاد»، وهو ما يعني بعبارة أخرى خروج الاتحاد من الأهداف الإصلاحية إلى خطاب سياسي أحادي الاتجاه.


[inset_right]يحاول القرضاوي جاهدا إبقاء نفسه كمرجعية سنية تعتمد على الحشد وتكتيك «التجميع» الأثير لدى جماعات الإسلام السياسي[/inset_right]


لم تقف أخطاء القرضاوي السياسية عند ملف «الربيع العربي» التي واجهت انتقادات عدة حتى من المقربين من الشيخ، بل استمر الشيخ في استدعاء تصلبه السياسي ودعمه لخيار «الإخوان» حتى بعد السقوط المدوي في مصر والتراجع الكبير في تونس ومواقع أخرى.
الشيخ هذه المرة أطل من النافذة السودانية وتعامل مع الاحتجاجات المتنامية في صفوف الناقمين على حكم البشير الذي تعاظم نقده في الداخل بعد تراجع وأفول آيديولوجية الإسلام السياسي بازدواجية غريبة، معتبرا أن ما يحدث احتجاج جماهيري يزول بالحوار وتجنب العنف وليس الاحتكام للعملية الانتخابية! في وقت انقسم فيه السودان وذهب نصفه وتحالفت كل القوى السياسية ضد حكم البشير، ولم يتركب المحتجون أي أعمال عنفية كالتي يقوم بها حلفاء الشيخ في مصر بعد سقوطهم؛ من حرق الكنائس وتعذيب الموالين للحكومة والتنكيل بهم.



شخصية محيرة





الدكتور يوسف القرضاوي الفقيه المتسامح الأبرز منذ عقود والذي ساهم في قلب بنية الهرم السلفي الحركي بفتاوى وآراء متسامحة فقهية في وقت كانت فيه الفجوة بين الفقهاء التقليديين وإيقاع العصر تزداد اتساعا، متيحة المسرح لصعود فئات دينية أقل حضورا وتأثيرا من الدعاة ونجوم الفضائيات ورموز جماعات الإسلام السياسي القادمين من خلفيات غير شرعية.

شخصية الدكتور الشيخ القرضاوي محيرة جدلية على أكثر من مستوى، بدءا بالتحولات التي خاضها في حياته، وهذا ما يفسر حجم الرأسمال الثقافي الذي خلقه القرضاوي لنفسه منذ أن مارس دور تجسير العلاقة بين العلماء والفقهاء التقليديين وبين جماعات الإسلام السياسي.
نجح القرضاوي جدا في تلك المرحلة المبكرة من حضوره وعبر بوابة التسامح الفقهي من «شرعنة» الحالة الإخوانية في تمثلاتها للسلطة، بدءا بتجربة الجماعة الأم، ومرورا بتجربة حماس والسودان، ووصولا إلى الموقف من الثورات التي تعامل معها الدكتور ببراغماتية سياسية تجاوزت كل الأطر والحدود بين ما هو ديني وسياسي في شخصية الدكتور الذي يعد مثالا جيدا يستحق الدراسة في ازدواجية الديني والسياسي.


[blockquote]
أزمة القرضاوية السياسية تبدأ في الفارق الكبير بين الأداء السياسي وبين الرؤية الفكرية، أو بمعنى آخر تحويره كل ما هو سياسي إلى عقائدي، بحيث يصبح الخلاف معه والاختلاف أزمة غالبا ما يجري تصويرها بشكل تراجيدي، لا سيما أن الجميع يتكئ على تراث الشيخ الفقهي المتسامح، وكيف أنه شكل لكثيرين بديلا آمنا عن التيارات المتشددة التي لا يمكن لآرائها الفقهية والاجتماعية أن تأخذ طابعا عالميا كما هو الحال مع القرضاوي وفتاواه المتسامحة، لا سيما تلك التي تخص المسلمين في المهجر، وهي حالة ليست جديدة أبدا، ليس فقط على مستوى العصر الحديث ونشأة الحركات الإسلامية على أنقاض النكسة العربية، بل حتى على مستوى التاريخ الإسلامي الذي زخر بنماذج فقهية متسامحة ثائرة على المستوى السياسي أو العقائدي، وربما كان الإمام أبو حنيفة والمحدث صالح بن حي في آخرين نماذج على هذه المفارقة.[/blockquote]



البناء الفقهي للدكتور القرضاوي هو الذي قدمه بامتياز للمشهد الديني، وقد كتب عنها الكثير من المؤلفات (رصد كتاب «دليل الباحثين إلى القرضاوي» لمحمد المختار الشنقيطي 161 كتابا 151 بحثا، 160 خطبة، 671 فتوى، كما كتبت عشرات الرسائل الجامعية عن الشيخ، وأكثر من 45 مؤلفا عنه، عدا مؤتمرات كثيرة أغلبها برعاية مركز القرضاوي للوسطية في قطر).



تقديم احتفائي





هذا التقديم الاحتفائي للقرضاوي في طوره الخليجي بعد أن باتت عباءة «الإخوان» ضيقة يطرح السؤال عن استقطاب تأثيره ودوره السياسي أكثر من تفوقه العلمي والفقهي على مجايليه من علماء المنطقة الأكثر تميزا بمعايير التحصيل الشرعي مما يدخل في تسمية وشروط ومواصفات «المجتهد».
القرضاوي بتلك الرعاية الخليجية المبكرة بات مشروعا مستقلا يراد له أن يكون رمزا للمرجعية السنية في مقابل المرجعيات الشيعية، أو بابا المسلمين في مقابل بابا الفاتيكان، وتدعم جماعات الإسلام السياسي هذا التوجه بقوة إلى الدرجة التي يصبح معها مجرد التعرض للقرضاوي نقديا جريمة لا تغتفر، والسؤال: هل بلغ القرضاوي هذا الهدف الذي يحاول «الإخوان» بمباركة قطرية الوصول إليه؟

الإجابة ببساطة لا، ولا يمكن ذلك في المدى المنظور، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن «الإخوان» تحولوا إلى نخب سياسية هرمة منفصلة تماما عن القواعد الشعبية لها التي طالها الكثير من التحولات، هذا إذا ما تجاوزنا عن أن بطاقة مرور القرضاوي نحو شرعية فقيه الأمة تصطدم بعلاقته السلبية جدا بالأزهر كمؤسسة وكشيوخ، وربما كانت تصريحاته تجاه الأزهر وشيخه، إضافة إلى عدد من المواقف والفتاوى ذات المنزع السياسي التي تخالف رؤية الأزهر، سببا في عدم قدرته على كسب ثقة مؤسسة عريقة كالأزهر.
على مستوى الحالة السلفية بتمثلاتها المختلفة: السلفية العلمية والجهادية والإصلاحية، وحتى السلفية السياسية التي تمثلها مجموعات سلفية أعادت النظر في مشروع الديمقراطية والمشاركة السياسية، وأفرزت خطابا سلفيا سياسيا غير تقليدي، كل هذه التمثلات ترفض منح القرضاوي بطاقة العبور الرمزية للحديث باسم الأمة.



شخصية تلفيقية





التيارات السلفية أيضا لا تعترف بالعقل الفقهي القرضاوي رغم تسامحه وفتاواه التي تنشر لدى طبقات الانتلجينسيا الدينية، وهم مزيج متنوع يرى في تسامح القرضاوي الفقهي مخرجا من أزمة الوقوع في المحظور الديني، غير مكترثين كثيرا لخطه السياسي، لكن التيارات السلفية ترى أن شخصية القرضاوي الفقهية هي تلفيقية بامتياز، تقوم على تقديم تنازلات اجتماعية لكسب أكبر شريحة من المتابعين في مقابل آراء سياسية متصلبة وذات منزع ثوري يصل أحيانا إلى حد الافتعال، في كل مؤلفات القرضاوي الفقهية حتى كتابه «فقه الجهاد» الذي شرق وغرب، لا تجد مسالك الفقهاء الكبار كالشيخ أبو زهرة والطاهر بن عاشور، وحتى مشايخ معاصرين كالألباني أو حتى الفقيه الزاهد الشيخ عبد الله بن بيه، فهذا الكتاب يتوسل نتائج متسامحة بأدوات فقيرة من الناحية العلمية.



العقل السياسي للقرضاوي





العقل السياسي للقرضاوي على النقيض تماما من العقل الفقهي المتسامح، أقرب ما يكون إلى النص المغلق الذي لا يعكس الآراء المتسامحة فقهيا للشيخ، وهذا التناقض بين الشخصية السياسية والفقهية لم يكن نتاج الشيخ وحده، بل هو علامة فارقة ومسجلة لـ«الإخوان» يمكن تتبع جذورها الأولية في شخص المؤسس حسن البنا، لكن خصائص العقل القرضاوي السياسي الجديد تكمن في قدرته على الجمع بين المتناقضات، على مستوى النظرية والممارسة.
كلنا يتذكر على سبيل المثال موقفه الصارم من زيارة القدس بحجة التطبيع، وهي في العمق موقف متحيز تجاه حماس وضد فتح، وكلامه عن المؤامرات الصهيونية يشعر متابعه بأنه يقيم في غزة.



[inset_left]العقل السياسي للقرضاوي على النقيض تماما من عقله الفقهي المتسامح، أقرب ما يكون إلى النص المغلق[/inset_left]



لم تكن خيارات القرضاوي السياسية جديدة كما تعكس ردة الفعل الصاخبة على موقفه الأخير من دولة الإمارات، بل سبق أن طالب على الهواء مباشرة بالاغتيال السياسي وتحمل التبعات، كما في حديث القرضاوي عن القذافي، وهو أمر خطير جدا يرتقي إلى مصاف التحريض المباشر الذي يعد جريمة جنائية مكتملة الشروط، لكن فظائع وجرائم القذافي كانت الوحل الذي غرق فيه تحريض القرضاوي الذي تجاوز التدخل السيادي إلى إصدار فرمانات الإعدام على الهواء مباشرة من برنامج يفترض أنه يناقش «الشريعة والحياة».
اندفاع القرضاوي وراء الإيقاع السياسي لجماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها «الإخوان المسلمون» أوقعه في أخطاء استراتيجية بل كارثية على المستوى طويل الأمد، مثل الهجوم على دولة كالإمارات تحظى بصورة إيجابية جدا في الشارع العربي، سواء في حيادها السياسي أو نجاحاتها التنموية، ويتعاظم حجم وكلفة هذا الخيار المتسرع إذا ما قورن بانحياز الشيخ الكامل لحماس على حساب باقي فصائل المقاومة الفلسطينية، حماس التي تعاني تراجعا حادا في شعبيتها لدى النخب والشارع العربي.

صحيح جدا أن محبي القرضاوي يحمدون له موقفه الأخير من التمدد الشيعي، لكنهم يقفزون على حقيقة أثبتتها مواقف القرضاوي من الملف ذاته منذ بداياته والتي تطرح تساؤلات هامة حول براغماتية موقفه بناء على معطيات جديدة على الأرض تتمثل في تضارب المصالح بين الهلال الشيعي والهلال الإخواني، وليس كما يراه داعموه بخلفيات طائفية.



البراغماتية السياسية





البراغماتية السياسية في ممارسة الشيخ القرضاوي ليست منحصرة في مواقفه الأخيرة ما بعد ما سمي بالربيع العربي والتي قد تبدو متفهمة حيث انتقلت الإسلام السياسي بجماعاته ومنظريه ومفكريه من ضفة «المعارضة» والضحية، إلى منصة الحاكم بأمر الله، بل على العكس لتلك البراغماتية والذرائعية السياسية بمنطق ديني لها نظائر كثيرة من أبرزها التفريق بين حدود المطالبة بين مجتمع وآخر، بل بين دولة رغم أنها متماثلة، فالقرضاوي في رئاسته للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث يرى ضرورة أن يحترم المسلمون قوانين البلاد التي يقيمون فيها، لكن هذا يتناقض مع الرؤية التقليدية الشمولية للقرضاوي حول مسألة تحكيم الشريعة والقوانين، يقول: «إذا كان الله قد حكم على أهل الكتاب بالكفر أو بالظلم أو بالفسق لأنهم لم يحكموا التوراة والإنجيل فهل يكون من ترك القرآن ولم يحكم بما أنزل الله أقل إثما من هؤلاء؟»، لكن هذا التناقض يمكن فهمه إذا ما أدركنا أن صاحب النص الأول هو القرضاوي السياسي، بينما صاحب الفتوى هو القرضاوي العقائدي.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق ما الذي يجعل من فقيه متسامح أن يقوم من خلال منبر الجمعة بالدعوة إلى اغتيال القذافي أو الدعوة للقتال والنفير في سوريا أو التحرك المضاد للاستقرار في مصر والوقوف ضد العسكر وتجريمهم؟

أعتقد أن ثمة عوامل كثيرة ومعقدة لفهم هذا السلوك الثوري، لكن يترشح في الأساس عامل داخلي يتصل بطبيعة فهم القيادات الدينية لدورها، ويتمثل ذلك في عدم رغبة «الإخوان» ودعاة الإسلام السياسي في فقدان الشرعية الدينية بعد أن اهتزت شرعيتهم السياسية كثيرا، لا سيما أن المنافس في سباق الشرعية الدينية أقوى بمراحل منهم وهم السلفيون وبقايا تيارات الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر ومجموعات السلفية الجهادية في باقي الدول، بينما ينافسهم في الشرعية السياسية.

-
-
font change