مناقشة هادئة للطرح "العروبي" الجديد في السعودية

مناقشة هادئة للطرح "العروبي" الجديد في السعودية

[caption id="attachment_55249817" align="aligncenter" width="620"]سعوديون يدلون بأصواتهم في انتخابات المجالس البلدية 2011 سعوديون يدلون بأصواتهم في انتخابات المجالس البلدية 2011[/caption]

لا يمكن للمراقب للشرائح الفاعلة في ساحة التبادل الثقافي في السعودية أن يخطئ ملاحظة مُدخل جديد في الحوارات الدائرة. هذا المُدخل يتمثل في مجموعة من الكتّاب السعوديين الشباب ومن المهتمين بالشأن العام الذين يميزون أنفسهم كـ"عروبيين" ويقدمون خطابًا قوميًّا تبشيرًا لا يتوقف على لافتات أيديولوجية بل يعمل بوضوح كأفكار موجهه لمواقفهم من القضايا العامة محليًّا، والأحداث الهامة إقليميًّا. ومهما كان حجم هذه الظاهرة محدودًا، وأيًّا كان مدى تأثيرها إلا أنها سجلت حضورًا مستفزًا استدعى ردودًا وجدلاً سواء في صورة سجالات مكتوبة، أو حوارات في مواقع التواصل الإلكتروني تأخذ عادة طابع الحدة.

المناقشة التي أقدمها هنا ليست "دحضًا" لوجود هوية عربية، كما أنها لا تنطلق من نزع البعد الهوياتي من الظاهرة السياسية. ما تعنى به هذه السطور هو تأكيد عدم ارتهان الحديث عن الهوية العربية والأبعاد الثقافية للظاهرة السياسية بالصياغات والأسئلة المغلوطة التي يقدمها بعض المعبرين عن هذا الطرح العروبي محليًّا. سيتضح ذلك من خلال تتبع الخلل في هذا الخطاب سواء ذلك الذي ينبع من قراءات الاختزالية للواقع أو من أحكام معيارية مرتبكة في نقاط أساسية أستتبعها باستعراض تصور يتخلص من الإشكاليات التي يختلقها بعض متبني هذا الخطاب.




رؤية "العروبيين"





على الرغم من تنوع آراء المنتسبين لهذا الخطاب في بعض القضايا، وعدم الوضوح الذي يلف تعاملهم مع قضايا أخرى (كالموقف من الدولة الوطنية)، إلا أنه بالإمكان إيجاز أبرز الأفكار التي تدافع عنها هذه المجموعة بحماسة في النقاط التالية : -هنا أتناول بشكل محدد الكتابات القومية الشابة محليًّا كما يقدمونها بغض النظر عن امتداداتها في الفكر العروبي في المحيط الأوسع-:

أولاً: ينطلق تبرير العروبيين للانتماء العربي كهوية سياسية من محاولة تفادي التصورات القومية الكلاسيكية التي تعطي قيمة جوهرانية للرابطة القومية. أي أنهم يشددون على أنه ينبغي علينا أن نكون "أمة عربية" ليس إحياء لأمة وجدت دائمًا في التاريخ، ولا لأن شيئًا ما في اللغة يحتم علينا ذلك، بل لأن رابطة سياسية تكونت خلال المائة وخمسين سنة الماضية تتغذى بالتاريخ والذاكرة المشتركة تجعل "العرب" يدركون أنفسهم كجماعة من البشر تتمايز عن غيرها، الأمر الذي يدفعهم للتضامن ولإدراك مصير مشترك لوجودهم كـ"جماعة سياسية". وهنا يستعينون بأطروحة "بنديكت أندرسون" التحليلية فيما يدعوه بـ "الجماعة المتخيلة". أي أن التبرير للعروبة كهوية سياسية لديهم يستند (أو يُفترض أن يكون كذلك) على معطيات أو مؤشرات من الواقع والتاريخ الحديث.

ثانيًا: يؤكد بعض متصدري الخطاب بشكل متكرر على أن التبرير للعروبة يجب أن لا يخضع لخيارات المصلحة، فليس بالإمكان تحديد المصلحة قبل تحديد الجماعة التي تُبتغى المصلحة لها. فعلى حد تعبير أحدهم "الجماعة السياسية دائمة والمصلحة متغيرة"، وأن على الفرد العربي "التزام سياسي" اتجاه لهذه الجماعة السياسية.

ثالثًا: الدولة بالضرورة منحازة لهوية معينة إذ إنها في أبسط خصائصها تميز بين مواطنيها وبين غير المواطنين في الحقوق والواجبات، علاوة على أنها تكرس عناصر ثقافية معينة تعكس تاريخ ورموز "الأمة" التي تعبر عنها.









[blockquote]نقاشات العروبيين في السعودية سجلت حضورًا مستفزًا في مواقع التواصل الإلكتروني أخذت عادة طابع الحدة[/blockquote]





رابعًا: "نحن" العرب نعاني من أزمة في الهوية تتصدر -بل وتسبب لدى البعض- في مشاكلنا السياسية. وليس ضروريًّا أن تأخذ الهوية السياسية العربية شكل الوحدة الشاملة في دولة من المحيط إلى الخليج. إذ يمكن أن تبقى الدول دون هوية خاصة، بحيث تظل دولة كالمغرب مثلاً تحكم "الشعب العربي" في منطقة جغرافية تسمى المغرب.

خامساً: "الإسلام دين وليس هوية سياسية" والرابطة الإسلامية تخلق هوية مفتتة سياسيًّا سرعان ما تتحول إلى هويات طائفية.

وهنا لن أقوم بصياغة هذه المناقشة للأطروحات على طريقة "تفنيد الحجج" بل سأتناولها بالنقاش في ثنايا النقاط التالية التي تمثل إشكاليات عريضة يعاني منها الخطاب:



التعامل القَلِق مع الدولة والهوية الوطنية ("القطرية")





ليس غربيًا أن يكون موقف القومي العربي الكلاسيكي محسومًا تجاه الدولة "القطرية صنيعة الاستعمار"، أن يعاديها ويحملها كل آثام التاريخ وتبعات التخلف فحسبها جرماً أنها "تفتت الأمة العربية الخالدة". سيكون في عدائه هذا في أتم الاتساق مع خطابه وتبريراته لوجود هذه الأمة كحقيقة ثابتة خارج تغيرات التاريخ. إلا أن هذه الدولة "القطرية" وهويتها ستسبب إرباكًا حقيقيًّا للعروبيين المعنيين بالمناقشة هنا؛ إذ إن الهوية "القطرية" لا تمثل عائقًا للمشروع سياسيًّا فحسب، بل إن حقيقة وجود هذه الدولة وهويتها يهدد تماسك خطابهم فكريًّا. إن مجاراة المقولات السوسيولوجية في مجال القومية دون إدراك مآلاتها يدخلهم في مأزقين من التناقض والانتقائية تتمثل في:
(1) محاولات الرفض الملتوية للهوية القطرية. ففي ذات الوقت الذي ُيلحق فيه العداء للظاهرة "القطرية" سيراد لها أن تستمر كمؤسسات مفرغة من الهوية (مقولات مثل: دولة قطرية بدون هوية قطرية). وهو الأمر الذي يتضارب مع تأكيدهم المستمر على استحالة وجود دولة دون هوية ودون تمييز في جدالاتهم مع الطرح السياسي الليبرالي.
(2) والمأزق الآخر والأهم يتجلى في التبرير "التخيلي" الانتقائي للهوية العربية كهوية سياسية وحيدة. فحين يقول العروبيون أن القومية العربية هي الأمة (بأل التعريف)؛ لأنها حاضرة في المخيلة الجمعية ما الذي يمنع الهوية القطرية -إذا حضرت في المخيلة- من تكتسب ذات الشرعية، وأن تكون أساسًا لأمة؟

أجد من المفيد أن نبدأ تتبع خيوط الخلل هنا انطلاقًا من معطياتٍ استعان بها أحد المتحمسين لهذا الخطاب. إذ في دعمه لفكرة استمرار الهوية العربية رغم هزيمة "الأيديولوجيا القومية" وظّف هذا الكاتب مسحًا ميدانيًا رعاه كرسي السادات للسلام بجامعة "ميرلاند" الأمريكية، وركز في مجادلته على الأرقام التي تخدم حجته فيها أهمل أرقام تلك التي لا تصب في صالحها. فبالعودة إلى البيانات التي يقدمها مسح 2008 ربما سيهمّ البعض معرفة أن نسبة من اختار الهوية العربية كهوية أساسية (الأكثر أهمية) تحل ثالثًا (20%) بعد الانتماءات الوطنية (39%) والهوية الإسلامية (36%). أي أن عدد المبحوثين الذين اعتبروا انتمائهم الوطني يسبق الانتماءات الأخرى أكبر من عدد الذين قدموا انتماءهم العربي الأمر الذي يظل مستمرًا في مسوح عامي 2009 و2010 وكذلك في مسوح محكمة أخرى أجريت على دول عربية. ولا يمكننا إذا اخترنا الاستعانة ببيانات هذا المسح أن نتجاهل سؤال أوثق صلة بموضوع النقاش لم يورده الكاتب، حيث سُئل المبحوثون عن "مصلحة من ينبغي على حكوماتهم أن تقدم عند اتخاذ قرار ما". فجاءت نسبة من اختار مصلحة دولهم (38% 50% 31%) على التوالي خلال الثلاث سنوات بينما (29% 22% 23%) قدموا مصلحة العرب. من بين كل هذه المعطيات التي يقدمها المسح كانت الطريقة الوحيدة الذي يظهر فيها نسبة من يعطوا الهوية العربية أولية أعلى هي دمج نسب السؤال الذي يسأل عن الهوية الأكثر أهمية، والسؤال الذي يسأل عن ثاني هوية من حيث الأهمية، كما أن المسح الوحيد الذي يظهر هذه النسبة المركبة للخيار الهوية العربية مساويًا لخيار الهوية الإسلامية هو مسح 2008 والذي أورده المقال رغم توافر مسحين أحدث تظهر فيهما نسبة الأولى أقل.

وعلى أية حال سواء كان اختيار هذا الرقم من بين كل الأرقام المتوفرة في البيانات تجميلاً للحجة أم أن للكاتب مبرراته فإن القيم المتقاربة هذه تعطينا دلالتين مهمتين:
الأولى: أن الهوية العربية ما زالت حاضرة -كما يؤكد العروبيون محقين- .
الثانية: أن موضوع الهوية أعقد من التسطح الذي يدفع بالعروبة في إجابات مبسطة كهوية سياسية قومية وحيدة يتوجب على العربي الاختيار بينها وبين هوية "قطرية" "مفتعلة" يقوم الأفراد بخلقها في عبارات توحي أن هناك ما هو أصيل وما هو مصطنع ما هو أصل وما هو استثناء، وأن مواطن الدولة عربي حتى يقوم "بإعادة تعريف نفسه" كأن ثمة خيارًا سياسيًّا بين أن يكون عربيًّا أو "قطريًا" يفرض عليه.

[caption id="attachment_55249818" align="alignleft" width="300"]بنديكت أندرسون مؤلف كتاب "الجماعات المتخيلة" بنديكت أندرسون مؤلف كتاب "الجماعات المتخيلة"[/caption]

في الحقيقة إذا كان التبرير للعروبة مبنيًا على "التخيل" (وفق مفهوم بندكت أندرسون)، فإن هذه الأرقام إن كانت تشي بشيء في هذا الصدد فهو أننا لسنا إزاء أمة عربية متخيلة فقط، بل هناك أيضًا قوميات "قطرية" مصرية مغربية تونسية..الخ تتمظهر في ذات الزخم. فليس بوسعنا إن قبلنا بالأرقام كمؤشر لتأييد حضور الانتماء العربي ألا نرى روابط أخرى تُمثّل هي الأخرى بقيم مقاربة (إن لم تكن أعلى). إنه واقع مركب لكنه كذلك ليس لأن ثمة جدلاً حول الشكل السياسي الأنسب الذي يعبر عن "القومية العربية" بل لأننا شهدنا ونشهد نشوء نزعات قومية متعددة ومتوازية.

لكن لماذا التركيز على الحديث عن الهوية كما هي في الواقع بينما العروبيون يناقشون إشكالية مختلفة: إشكالية معيارية؟ أي لماذا الحديث عما هو "كائن" بينما الدعوة إلى العروبة مسكونة بـ"ما ينبغي أن يكون"؟ بالفعل لن يكون للنقد هنا أي أهمية تذكر إذا كانت الأطروحة العروبية هذه تنطلق من تبريرات ما فوق تاريخية، أي تلك التي تفترض جوهرًا ثابتًا ميتافيزيقيًا أو عرقيًا يتجاوز الزمن، ويجعل من الأمة حقيقة في حد ذاتها. إن تجاوز الخطاب القومي لهذا التصور القومي الكلاسيكي للأمة هو ما يطرح التساؤلات؛ إذ يقدم العروبيون "الأمة العربية" كمعطى تاريخي ظهر عبر تطورات سياسية واجتماعية معينة مكتسبةً ديمومتها من استمرار الشعور بها، وإدراك وجودها من قبل الداخلين في تعريفها أو أولئك المتميزين عنها. بناء على هذه المقدمات، ينتقل الحوار من التبشير الرومانسي بأمة خالدة ذات تاريخ مأسطر إلى محاولة التأكيد على وجود هذه الأمة من خلال حضورها في المخيلة الجمعية من عدمه، أي بالإحالة إلى واقع فعلي. فإذا كانت فكرة القومية العربية تستمد مشروعيتها من كونها حاضرة في المخيلة فما الذي يبرر اعتبار الانتماء السياسي "القطري" والذي سجل ذات الحضور في تلك المخيلة "مفتعلاً"؟ ما الذي يجعل الأولى "أمة" دون الثانية إذا كان شرط وصفها بالأمة ألا وهو الجماعة المتخيلة متحققًا في الحالتين؟ إذا اتفقنا أن الأولى صناعة تاريخية ما الذي يجعل سمة الصناعة في الثانية سلبيًّا ومنفرًا؟ الطريق الأسهل التنصل من هذا الإشكال هو الاستخفاف بالهويات الوطنية والذي تمارسه -إلى هذا الحد أو ذاك- الأطروحات العروبية بشكل مستمر. وهو في الحقيقية يعبر عن قراءة رغبوية تخفق إدراك الواقع والتعاطي معه.



[blockquote]هل من الممكن أن "أنتمي لدولة" دون أن تكون لهذه الدولة هوية ما تميزها عن جاراتها؟ الإجابة ببساطة: لا[/blockquote]



لقد كان واضحًا للجميع أن الثورات العربية ثورات وطنية بامتياز إذ لم يخرج التونسيون خصومًا لـ"الدولة صنيعة الاستعمار" إنما خرجوا لـ"أجل" هذه الدولة مع استحضار رموز وطنية مكثفة.. خرجوا لتونس عربية؟ لتونس إسلامية؟ ربما، لكن الأكيد في جميع الحالات أنها تونس. يمكننا الذهاب إلى أبعد من ذلك بالقول إنه حتى في الدول المفككة بنيويًّا ظل التلبس بالخطاب الوطني معيارًا طاغيًا يصعب تجاوزه؛ بمعنى أنه برغم اهتراء البنية يظل التشبث به -ولو مراوغةً- مهمًا لكسب المعركة السياسية. ففي سوريا يتمسك كلا طرفي النزاع بتمثيله ودفاعه عن "سوريا" و"السوريين" وكذلك يتوسل السياسي الطائفي بالحديث عن مصلحة لبنان الوطن أو العراق الواحد ليدافع عن أجندته. ما الذي يدفع هذا السياسي لأن يسوق مشاريعه ومطالبه بلغة وطنية سوى أن هذه اللغة تكسبه قبولاً وفاعلية سياسية؛ أي أن هناك شرائح مستهدفة ورأيًا عامًا يرى قيمة معيارية في اللغة الوطنية تدفع السياسي لاستثمار هذه القيمة لمصالحه ومصالح كتلته.

ليس غريباً أن نشهد ظهور خطاب الاحتراب الهوياتي في دول منهارة تطحنها الحرب، ما يثير العجب فعلاً -إذا استبطنا مقدمات العروبيين- هو أنه في ظرفٍ كهذا تظل الكتلة الأكبر التي تقاتل النظام تتحدث باسم سوريا في حين تهمش وتلفظ ولو جزئيًا على الأقل التنظيمات التي ذات الطموحات العابرة للحدود كتنظيم "داعش". إذا كان الأمر كما يصور البعض أن هذه الحدود باقية فقط لبقاء الأنظمة التسلطية فإننا نتوقع انهيارها مع تضعضع هذه الأنظمة ونتوقع ألا نرى معارضة تتحدث برابطة وطنية، وهما الأمران اللذان لم يحدثا. الانهيار المؤسف الذي نشهده في دول الهلال الخصيب إن دل على شيء فإنه يدل على أن التعريف الوطني مازال ذا معنى أساسي بالرغم من تداخل التضامن العربي والإسلامي والولاءات الطائفية معه على شكل دعم أو مشاركة فعلية على الأرض.

وإذا كنا هنا نوضح كيف أن أضعف الأمثلة مع النظرة المتفحصة تعطي مؤشرات لوجود الرابطة الوطنية فإن النماذج الأكثر رسوخًا تقدم دلائل تجعل التقليل من وزنها مجرد تمنٍّ أكثر من أي شيء آخر. ففي مصر على سبيل المثال يمكن تتبع ظهور رابطة وطنية مصرية في حقبة تاريخية تسبق أو تزامن بوادر ظهور دعوات قومية عربية في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي. الأمر ذاته يتكرر في المغرب التي يمكن تتبع جذور تشكل الهوية الوطنية فيها منذ مطلع القرن الماضي. أو حتى عند الحديث عن حركات التحرر كحالة الجزائر مثلاً التي وإن كانت لا تنفصل عن سياق التضامن العربي والإسلامي فإنه لا يمكن إغفال البعد الوطني فيها والذي يتم دائما التعامي عنه والتركيز فقط على حالة التضامن العابرة للحدود.



إضافةً إلى الدوافع الأيديولوجية المفهومة، يمكن إعادة هذا التعامي والخلل السائد في تصور الدولة "القطرية" إلى قصور في مفهوم القومية ذاته. إذ كثيرًا ما يتم اختزال القومية في تمظهراتها الصاخبة وفي الأحداث الساخنة التي ترتبط بها. لذلك وضمن اتجاه نقدي حديث في دراسات الإثنية والقومية، يلفت باحثان بارزان أمثال "روجر بروبيكر ومايكل بيلينغ" الانتباه إلى الجزء الأصلب من القومية ألا وهو "المنسي" الذي تحول إلى مقولات وممارسات لا تلفت انتباها. إن هذا البعد العميق من القومية ليس "الراية التي يلوح بها في حماسة واتقاد لكنه العلم المعلق على مبنى حكومي من غير أن يلحظه أحد" كما يعبر "بيلينغ" برمزية. هذا البعد الذي لا يرافقه شعور عارم ولا يبرره وعي فلسفي يكمن كخطاب في الخلفية يوجه سلوكنا السياسي. نأخذ على سبيل المثال لا الحصر الطريقة التي يتعامل بها السعوديون مع مشكلات العمل والبطالة -حيث تطل علينا القومية (الوطنية) - فأيا ما كان الطرح متسامحًا ومنافحًا عن العمال إلا أنه يخضع لتصنيفات "السعودي" في مقابل "الأجنبي" ويرتبط بمصلحة السعودي العاطل عن العمل. أي أن "السعودي" المتفاعل مع الموضوع وإن لم يكن متضررًا سيفكر أولاً في معاناة السعودي العاطل الذي لا يعرفه ربما بشكل مباشر إنما يرتبط به كعضو في الجماعة المتخيلة. إن طغيان التمييز الهوياتي الوطني يطال أثره حتى أولئك الذين ينحازون إلى العامل "الأجنبي" فلكي يدافع عن حقوق هذا العامل عليه أن يمرر حجته عبر هذا المعيار الطاغي؛ فيسعى جاهدا لإثبات أن الاهتمام بالآخرين "الأجانب" لا يضر "بالسعودي" العاطل عن العمل.




فشل في فهم الدولة الأمة "Nation-state"؟





كما سبق أن ذكرت، ثاني نقاط الارتباك في تعامل "العروبيين" مع الدولة الوطنية هو الرفض للهوية "القطرية" مع الإبقاء على الدولة جغرافيًّا. وفي الحقيقة هذا الإشكال يمكن مناقشته في سياق اضطراب نظري أعم في تصور دولة الأمة يسود الخطاب. وسأحاول اختصار هذه الإشكالات في الأربع نقاط التالية:

أ- الهوية "الوطنية" المفرّغة

كبديل واقعي -أو مرحلي لدى البعض ربما- للوحدة العربية الشاملة تحت ظل دولة واحدة يردد بعض العروبيين فكرة مفادها أنه يمكن القبول والعمل من خلال الدولة "القطرية" على شريطة أن تظل هذه الدولة وحدة إدارة جغرافية تمثل "الشعب العربي" في الإقليم الخاضع لها. والفرد في هذه الوحدات ينتمي إلى أمة واحدة وهي الأمة العربية بالإضافة إلى الانتماء "اللاهوياتي" الذي سماه أحدهم بـ"الانتماء للدولة القطرية"، أو يتم في هذا السياق هنا أحيانًا استخدام تعبير "هوية وطنية" لتطابق الهوية العربية وتفرغ من أي عنصر تمييز.

مثل هذا الطرح لا يعدو أن يكون تلاعبًا لغويًا للهروب من مأزق نظري. ما الذي يعنيه أن "أنتمي" دون هوية؟ الانتماء في حد ذاته فعل تمييز، فعل هووي يحدد الـ"نحن" التي أنتمي إليها. انتمائي للمجموعة "س" بالضرورة يميزني عمن لا ينتمي إليها وإن كنا نتشارك الانتماء إلى "ص". وهذا يعني أنه بمجرد حصول هذا الانتماء سياسيًّا فإنه سيعبر بالضرورة عن هوية سياسية.

[caption id="attachment_55249819" align="alignleft" width="300"]إحدى الشعارات المؤمنة بقضية "القومية العربية" إحدى الشعارات المؤمنة بقضية "القومية العربية"[/caption]

وبناء على ذلك، هل من الممكن أن "أنتمي لدولة" دون أن تكون لهذه الدولة هوية ما تميزها عن جاراتها (خصوصًا تلك التي تشاركها الرابطة العربية -دائرة "ص"-)؟ الإجابة ببساطة: لا. وسنجد تأييد هذه الإجابة على السؤال في أطروحات العروبيين أنفسهم في نقاشاتهم مع الطرح الليبرالي الفرداني حيث يتم التأكيد على استحالة حيادية الدولة؛ إذ إن الدولة تحمل في أصل وجودها دعوى معيارية لتمثيل أمة ما. أبسط وأهم تمظهرات هذه الدعوى هو الفصل بين المواطن وغير المواطن في الحقوق والواجبات. فلماذا يعطى المصري حق التصويت في انتخاب المؤسسات السياسية أو أن تتوجب عليه الخدمة في الجيش الوطني؟ لأنه ينتمي للجماعة التي تدعي الدولة تمثيلها وتسمى: مصر. وليس للأردني الذي يشاركه رابطة اللغة والدين أن يترشح للبرلمان المصري أو يصوت للمترشحين له. هذا تفريق هوياتي بامتياز لابد وأن يترافق مع مخيلة جمعية تجمع المصريين كمواطنين لهم حق في الأرض ولهم على الدولة التي تمثلهم حقوق سياسية. أي أن هويتهم الوطنية بالضرورة ستنطلق من كونهم مصريين لا عربًا فحسب.

ما الذي يُدخل الخطاب العروبي في هذه التناقضات عند الحديث عن الدولة وهويتها؟ أتصور أنه امتداد للموقف المرتبك من الهوية الوطنية واجترار رواية تاريخية تربطها بالاستعمار وتصوير تشكل الهوية الوطنية -غير تلك المفرّغة التي يتحدثون عنها- كخصم حتمي لوجود الهوية العربية.



يمكن للهوية الوطنية أن تتضمن في تكوينها بعدًا عربيًّا وإسلاميًّا من المهم تدعيمه والحفاظ عليه لمبررات عديدة، أولها الارتباط الجمعي الحاضر بقضايا تاريخية مشتركة كالقضية الفلسطينية وليس آخرها آفاق التعاون في المجالات الاقتصادية والعسكرية التي تحفزها مثل هذه الروابط. لكن هذا القول يختلف عن الطرح الذي يتحدث بخجل عن هوية وطنية ما يلبث أن يحولها إلى محض جغرافيا أو مرادف لفظي للقومية العربية. إنه بالإمكان تدعيم هذه الأبعاد والمشتركات تمامًا كما تمكنت القوى المحافظة عبر تاريخ تركيا الحديث من تدعيم البعد الإسلامي في الهوية التركية (في رواية "غير رسمية" ضاغطة على المؤسسات) تبدّى في مراحل عديدة. ولعل من حسن الحظ أن الهويات الوطنية في المنطقة العربية لا تحتاج لهذا التدافع من أجل خلق هذه الروابط إذ إنها قائمة وحيوية ويدعمها مؤسسيًا فضاء إعلامي وثقافي موحد.


ب- "النظام" ليس هو "الدولة"

تتردد في بعض نقاشات العروبيين فكرة أن تعزيز الهوية الوطنية "القطرية" ليس إلا دعمًا ومباركةً للاستبداد. هذه الفكرة تقوم على استبطان الخلط السائد -بالرغم من بساطة التمييز- بين "الأنظمة" Regimes و"الدول" States: بين الدولة باعتبارها إطار رمزي من اسم وشعب وجغرافيا واعتراف وبين النظام السياسي (أفراد، قوانين، مؤسسات معينة) الذي يحكم في إطارها. وفي حين أن النظام السياسي يدّعي دائمًا ملء ذلك الإطار إلا أن هناك فاعلين آخرين ينافسونه على تلك المساحة دون رفض الإطار كليةً. الأنظمة السياسية كثيرًا ما تتغير إلا أن الإطار يعكس ثباتًا نسبيًّا وإن أخذ مضامين مختلفة. فعلى سبيل المثال مر على الفرنسيين خمس جمهوريات لكنها ظلت فرنسا (بكثير من الجغرافيا)، وتعاقب على مصر استعمار ملكية وانقلاب عسكري وجمهورية اشتراكية ثم نظام ليبرالي فثورة لكنها كذلك بقيت مصر.



[blockquote]الهوية ساحة مفتوحة للتأويل وظهور روايات تاريخية بديلة بالإمكان أن تطور بشكل واعٍ خاصة إذا وجدت دعمًا وتغييرًا مؤسساتيًا من خلال السعي لخلق مجتمع مدني [/blockquote]



ولعل ما هو أوضح من ذلك في بيان تهافت تلك المقولة، هو أن ثورة المصري أو الليبي على استبداد نظامه لم تتطلب ثورة على الإطار (مصر أو ليبيا) بل سعت إلى استبدال صورة الاستبداد من ذلك الإطار. وصف الساعين لخلق هوية وطنية مضادة للاستبداد بالداعمين له وصف مجازف لا يستقيم إلا إذا اعتبرنا الأنظمة حكومات أجنبية محتلة وتعاملنا معها كما يتعامل فلسطينيو الثمانية وأربعين المتمسكين بقضيتهم كاملة مع إسرائيل حين يعارضون الدولة اليهودية وليس النظام فحسب. هل بشار الأسد يحتل سوريا؟ أظن هذا آخر ما يود البعض قوله.


ج- "الفاشية" في كل مكان: الدول تصنع الأمم

من السهل جدًا أن يلتقط أحدهم نصًا لأحد القادة النازيين شدد فيه على سيادة الأمة الألمانية وأن يقرنه جزافًا بحديث لقومي عربي عن السيادة ليخلص إلى أن "القومية العربية حركة نازية". أن يلتقط سمة واحدة متشابهة ويصبغ بها الخطاب كله. هذا بالطبع تسطيح شديد للغاية لكنه لا يختلف بشيء عن الوصف الذي ورد في أحد الكتابات أن من يسعى إلى خلق هوية قائمة على حدود الدولة: "فاشي". في الحقيقة إذا ما أُخذنا بهذا التبسيط سنتفاجأ أن كثيرًا من قوميات العالم ليست إلا صناعة "فاشية".

في كثير من حالات نشأة القومية تاريخيًّا، لم تكن "الشعوب" أو الحركات الأهلية هي من شكّلت أممًا أوجدت لها دولاً. بل العكس أحياناً هو الصحيح. الوحدات السياسية وتطورها في حالات تاريخية عدة هو ما خلق الشعور القومي المشترك. فمثلا لم يمر على فرنسا في تاريخها "مسألة فرنسية" أو دعاة شعبيين لوحدة فرنسا في أمة إنما قامت على قوة الدولة المركزية التي وحدت اللغة وفرضت ثقافة المركز على الأطراف عبر العسكرة وبناء مؤسسات الدولة الحديثة من تعليم ونحوه والتي بلغت ذروتها في العهد النابليوني. ولعل هذا النمط من أنماط نشأة الأمم نجده أكثر وضوحًا في مستعمرات العالم الجديد التي وُجدت في الأساس كوحدات إدارية خلقت منها أمم كالولايات المتحدة وكندا ودول أمريكا الجنوبية. لم تظهر هذه الدول على أسس عرقية أو لغوية إنما على أساس حدود الدولة التي شكلت دول-أمم تستمر أغلبها الآن لحوالي قرن ونصف من الزمان بالرغم من أن أكثر دول أمريكا الجنوبية تتشارك في اللغة الإسبانية والمذهب الكاثوليكي، ولا يكاد يفصل بين الولايات الأمريكية وولايات كندا الناطقة بالإنجليزية أكثر من حدود الدول.


د - هوية الدولة ليست نصًّا حكوميًّا

لعل ما هو أكثر أهمية من الحديث عن منشأ الأمم -والذي يقوم في كثير من الأحيان برعاية مؤسسة مركزية قهرية- هو ملاحظة أن روايات هذه الأمم ليست ثابتة عبر الزمن كما أنها ليست محتكرة كليًّا. كما ذكرت سابقًا، إطار الدولة الذي يصنع المجال السياسي لا يتضمن فقط الأنظمة وأشكال الحكم بل يشمل أيضًا الصراع على معنى أن تكون ضمن هذا الإطار. ما معنى أن تكون أمريكيًّا؟ هذا السؤال أخذ معاني مختلفة في فترات زمنية مختلفة ولدى فاعلين مختلفين. فعلى المستوى المؤسساتي (القوانين والتشريعات)، لم يكن لذوي الأصول الإفريقية أن يدخلوا في هذا التعريف الأمر الذي تغير بعد الحرب الأهلية وتحرير العبيد. على مستوى الخطاب الشعبي غير الرسمي، يظل تعريف من هو الأمريكي ساحة للصراع إذ يحاول الناشطون السود أن يؤكدوا وجودهم في رواية لدولة يهيمن فيها الرجل الأبيض. كما يحاول بعض المسيحيين المتشددين التأكيد على "مكون" مسيحي يهودي للهوية الأمريكية يدفعون به لمواجهة ما يسمونه "الخطر الإسلامي" في مقابل أولئك الذي يدعمون سردية أمة المهاجرين. وبالمثل يمكن تتبع التحولات في الهوية البريطانية في محاولات حكومة حزب العمل لتقديم تعريف للبريطاني متعدد الثقافات، ومقاومة أحزاب اليمين لهذا التحوير.

إذا كانت هوية الأمة خاضعة لديناميكية التنافس بين الروايات والتأويلات وليست قيمة ثابتة وملازمة، فلا معنى إذن من التنقيب في جذور موضوعية للحكم على هوية ما أو لاعتماد رواية تاريخية سائدة كسمة أصيلة في هذه الهوية كما يفعل البعض. حيث يعبر أحدهم أن "الترويج للهوية السعودية لا يمكن أن ينفصل عن الترويج لما تتضمنه من تحيزات ثقافية ودينية". هذا التعبير ذاته -والذي يطرح في سياقه كوصف موضوعي يعارض به من يريد خلق روايات بديلة للهوية السعودية- هو أحد هذه الروايات، بل ربما تُعد منسجمة ومؤكدة للرواية القائمة.


هناك العديد من النماذج لدول أخذت هوياتها مضامين مختلفة لا يكاد يجمع بينها وبين أطوارها السابقة شيء ذو أثر. هل يتحتم على دولة كالنمسا نشأت على أساس كاثوليكي أن تتحيز ضد الأغلبية النمساويين الذين يعرفون أنفسهم كملحدين اليوم أو غير الكاثوليك الذين يشكلون أكثر من ثلث السكان؟ إن الفرق كبير للغاية بين معنى أن تكون نمساويًّا في القرن التاسع عشر ومعنى أن تكون نمساويًّا في القرن الواحد والعشرين. إن الهوية ساحة مفتوحة للتأويل وظهور روايات تاريخية بديلة بالإمكان أن تطور بشكل واعي خاصة إذا وجدت دعمًا وتغييرًا مؤسساتيًّا من خلال السعي لخلق مجتمع مدني والدفع باتجاه المزيد من المشاركة السياسية. إن الأوصاف اللاتاريخية التي تلصق بها الهوية الوطنية "صنيعة الاستعمار وربيبة الاستبداد" ليست إلا حلقة من سلسلة التشنج الأيديولوجي غير المبرر تجاه الدولة الوطنية الذي يعاني منه هذا الخطاب القومي.

إن هذا الحديث عن الهويات الوطنية قد يحفز أسئلة مهمة لدى القارئ: إلى ماذا يقودنا التأكيد على أن الهويات الوطنية –برغم قصورها- حاضرة؟ ما علاقتها بالهويات العربية والإسلامية؟ وهل نحن أمام معضلة اختيار بين هويات سياسية متعارضة؟ هذا ما سنتناوله في مقال قادم نواصل فيه مناقشة الأطروحة العروبية، ونخلص بناءً على هذه المقدمات النظرية إلى تصورات أكثر نضجًا.
font change