فيشر: انقسمت أوكرانيا.. وأصابع الاتهام تتوجه إلى الاتحاد الأوروبي!

فيشر: انقسمت أوكرانيا.. وأصابع الاتهام تتوجه إلى الاتحاد الأوروبي!

[caption id="attachment_55250226" align="aligncenter" width="620"]المستشارة الالمانية انجيلا ميركل والسياسية المعارضة للرئيس الاوكراني المعزول ،رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو- صورة ارشيفية 2011 المستشارة الالمانية انجيلا ميركل والسياسية المعارضة للرئيس الاوكراني المعزول ،رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو- صورة ارشيفية 2011[/caption]


لقد بان هذا التقارب واضحا عبر كثرة تمثيل ألمانيا الدبلوماسي في أوكرانيا، فإلى جانب سفارتها في كييف لها ممثلية قنصلية في دونسيك وممثليات في شركيف ولفيف وأوديسا وسيمفروبول مقابل سفارة أوكرانية في برلين وقنصليات عامة في فرانكفورت وميونيخ وبلدة أوبر فينتر بالقرب من بون، وممثليتان فخريتان في ماينز وليبزيج. وكل هذه المدن إن في ألمانيا أو أوكرانيا إما صناعية وإما لها موقع تجاري ومالي وتقني مهم. كما يعيش في ألمانيا 40 ألف أوكراني.

والجالية الألمانية في أوكرانيا تزيد عن 30 ألفا، معظمهم من رجال أعمال أو منتدبين من الحكومة الألمانية للإشراف أو إقامة مشاريع إنمائية، وإذا ما دل ذلك على شيء فإنه يدل على الأهمية الكبيرة للعلاقات الاقتصادية الثنائية، حتى إنه في بعض المجالات يشابه عمق العلاقات بين ألمانيا وروسيا. ولقد زاد هذا الاهتمام منذ الثورة البرتقالية حيث دعمت برلين السياسيين المعارضين بكل الوسائل.
فكل الحكومات المتعاقبة في ألمانيا، إن في عهد الاشتراكيين والخضر أو المحافظين وحتى المحافظين والاشتراكيين اليوم، لم تخفف من هذا الدعم، في نفس الوقت كانت تعمل مع الحكومات الأوكرانية الموالية لروسيا على تطوير العلاقات على كل الأصعدة، لكن مع الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا.

لكن في عام 2004 عندما أعلن عن فوز فيكتور يانوكوفيتش الموالي والصديق المخلص للرئيس الروسي بوتين كرئيس للوزراء، اعترضت ألمانيا علنا متهمة السلطات هناك بتزوير نتائج الانتخابات ضد المرشح المعارض فيكتور يوتشينكو، ودعّمت موقفها بالحكم الصادر عن المحكمة العليا في أوكرانيا، وهذا جعلها تظهر علنا دعمها السياسي للمعارضين، من بينهم يوتشينكو ويوليا تيمونشنكو، والسبب أن ألمانيا رأت فيهما التيارات التي يمكنها أن تغيير خط أوكرانيا وتتغلب على تبعيتها لروسيا وتفتح المجالات لتصبح أوكرانيا أكثر ميولا إلى الغرب منه إلى الشرق، ولقد نجحت المساعي الداخلية والخارجية (وخصوصا ألمانيا) لإيصال يوتشينكو إلى سدة السلطة ما بين 1999 و2001. ومع هذا التغيير عادت العلاقات الطبية بين البلدين حسب ما كان مخططا له وأصبحت العلاقات الاقتصادية ممتازة وزادت الاستثمارات الألمانية، كما زاد حجم التبادل التجاري بين البلدين والتعاون العلمي والثقافي، وفي مجالات حيوية أخرى لكن أيضا في عهد رئيس الوزراء المخلوع فيتكور يانوكوفيتش الذي أعيد انتخابه عام 2010.


حلف شمال الأطلسي




رغم هذا التطور الإيجابي ظلت ألمانيا، التي تعتبر في حلف شمال الأطلسي من القوى المهمة، تنظر إلى ترسانة السلاح لدى أوكرانيا بقلق وبأنها عنصر عرقلة في وجه أي تقارب بين هذا البلد والأطلسي، مع ذلك أعطى التعاون الأوكراني الألماني ثماره بأن أصبحت كييف تميل إلى الحلف فوقعت في عام 2002 خطة عمل وتعميق للتعاون، لكن لم تكتفِ برلين بذلك، بل سعت لإدخالها إلى الأطلسي لتكون عضوا كاملا. هنا تصدى الرئيس يانوكوفيتش بشدة للفكرة وحاول التقليل من شأنها لأنها أزعجت روسيا، ما دفعه إلى القول بأن التقارب الحالي بين الاثنين (الناتو وأوكرانيا) يكفي.


[caption id="attachment_55250211" align="alignleft" width="300"]ميخائيل ساكاشفيلي ميخائيل ساكاشفيلي[/caption]


مقابل هذا الرفض واصلت ألمانيا دعمها للقوى المعارضة الأوكرانية التي أبدت استعدادا للتعاون أكثر مع حلف الأطلسي إذا ما تسلمت القيادة في كييف، فما كان من الحكومة هناك إلا أن حاولت إسكاتها بكل الوسائل، منها سجن المعارضين، من بينهم يوليا توموشينكو، بتهم مختلفة، وكانت إحدى القيادات التي شاركت في الثورة البرتقالية عام 2004.
ولقد حاولت برلين حتى عام 2010 حث أوكرانيا على رفع مستوى التعاون بينها وبين الناتو دون نجاح، فهي (أي ألمانيا) كانت تريد أيضا ضمان المظلة الدفاعية الأميركية التي سوف تقام عند الحدود الغربية مع أوكرانيا ذات العلاقة الطيبة مع روسيا. فحدود أوكرانيا الغربية تشارك فيها المجر وسلوفاكيا وبولندا التي ستتحول حدودها على طول مئات الكيلومترات إلى حقول ستزرع فيها صواريخ دفاعية أميركية وأجهزة مراقبة، وهذا ما ترفضه روسيا بشدة رغم التعاون المحدود مع الناتو. إلا أن اهتمام واستعداد ألمانيا لدعم التغييرات في أوكرانيا له وجه آخر لا يقل أهمية عن المظلة الدفاعية الأميركية، بل قد يتعداها، وهو تحكم روسيا بالغاز الذي يمر في أوكرانيا عبر أنابيب إلى بلدان غرب أوروبا وفي مقدمتها ألمانيا التي ما زالت تعتبر الغاز طاقة لا يمكن الاستغناء عنها، إن للاستهلاك الحياتي أو للمصانع ومجالات أخرى حيوية، عدا عن ذلك فإنها طاقة نظيفة.
والمشكلة ليست مباشرة بين روسيا وأوروبا، بل بين روسيا وأوكرانيا، وتشتد أو تنفرج حسب سياسة رئيس الوزراء وحكومته في كييف. ولقد بدا الخلاف الروسي الأوكراني في مارس (آذار) عام 2004 حيث ألغت موسكو شكل التعاون التجاري القديم بهدف تغيير الأسعار الرخيصة للغاز لأوكرانيا مقابل مرور الأنابيب في أراضيها، فكما هو معروف فإن 80 في المائة من الغاز الروسي إلى أوروبا يمر في الأراضي الأوكرانية.


العلاقات الاقتصادية والتجارية




وفي أكتوبر (تشرين الأول) عام 2007 اشتدت المشكلة بين الطرفين، فطالبت روسيا أوكرانيا بوجوب دفعها ديونا تبلغ 900 مليون يورو (قاربت اليوم المليار يورو) حتى نهاية الشهر السابق الذكر، فوعدت القيادة الأوكرانية بالالتزام بالدفع، لكن الخوف أصاب ألمانيا من أن تمارس موسكو ضغطا غير مباشر على أوروبا لاستعراض عضلاتها عبر توقيف ضخ في أنابيب الغاز المارة في أوكرانيا إليها، فهي ما زالت تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي، وأول إشارة كانت ولفترة قصيرة تراجع حجم تدفقه نحو 25 في المائة، ما أخاف الألمان وأعاد إلى الأذهان الصور المخيفة التي تصدرت وسائل الإعلام عام 2008 عن توقف الغاز عناوين الصحف العريضة «شتاء من دون غاز وموت من البرد». هذا الشبح دفع بالكثير من البلدان الصناعية وفي مقدمها ألمانيا للبحث عن مصادر إضافية، وكانت هي وراء فكرة عدم الاعتماد على مصدر واحد للغاز والنفط، بل تنويع المصادر لتفادي أية مشكلات، إلا أن ذلك يتطلب الكثير من الوقت.
والحرب الخفية بين الاتحاد الأوروبي وموسكو تتجسد أيضا باتفاقية الشراكة بين هذا الاتحاد وأوكرانيا، فالاتفاقية لا تعالج فقط العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الطرفين، بل وتدعو إلى إنشاء منطقة تجارية حرة وتعميق التعاون السياسي، وتنص على إقامة تعاون وثيق إن على صعيد السياسة الخارجية والقضاء والحقوق الأساسية، إضافة إلى ذلك سوف يأتي وقت لا يحتاج الأوكراني إلى تأشير دخول إلى بلدان أوروبية منها ألمانيا، وبهذا يخف نفوذ روسيا على أوكرانيا، إلا أن موسكو نسفت توقيع أوكرانيا على هذا الاتفاقية مع أن كل الأجواء كانت محضرة له مما زاد من المشكلات الداخلية وأصبحت القضية حجة بيد المعارضة الأوكرانية لزيادة الضغط على حكومة كييف، بعدها حصل ما حصل فاندلعت الاشتباكات الخطيرة في شوارع كييف. في هذه الأثناء برز المعارض الألماني الجنسية الأوكراني الأصل بطل العالم في الملاكم فيتالي كليتشكو، وتردد أنه برغبة من برلين سافر إلى كييف للمشاركة في المظاهرات الاحتجاجية.

لكن هل يحتاج الأمر إلى وقوف ألمانيا إلى جانب المعارضة الأوكرانية ومساندتها بلا حدود، حتى إنها وافقت على ترشيح كليتشكو نفسه لرئاسة الجمهورية في أوكرانيا، ولم تتردد المستشارة ميركل عن استقباله في ديوان المستشارية مع وفود من المعارضة الأوكرانية، من بينهم رئيس الوزراء الحالي ارزنيج يزنجوك، وكانت أكبر داعمة للسياسية المعارضة يوليا تيموشانكو وأرادت أن تحضرها إلى ألمانيا للعلاج الطبي يوم كانت في السجن وكانت مع إرسال وفد طبي كي يجري فحوصات طبية لها ولم ترفض الحكومة الأوكرانية ذلك.

وفي هذا الصدد يقول تقرير تحليلي لمؤسسة التجارة والاستثمارات في بون قد تكون أسباب هذا الدعم الكبير سياسية لكنها بالدرجة الأولى اقتصادية، فتنازل أوكرانيا المفاجئ عن اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لم يسبب صدمة لجزء كبير من المجتمع الأوكراني، بل للشركات والمصانع الألمانية التي تطالب الآن وفي خضم الإرباك الأمني والسياسي في أوكرانيا بوضع أطر ضمانات وإصلاحات لتحمي نفسها، وهذا ما وعد به وأعلن عنه رئيس الحكومة الجديد يزنجوك ذو التوجه الغربي، لكن الوضع لا يوحي حتى الآن بأنه سوف يستقر في القريب المنظور، ما يهدد الكثير من المشاريع الأوروبية الألمانية، وقد يؤجل توقيع أية اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبية بضع سنوات. وأول إشارة على ذلك إظهار رجال الأعمال وممثلين عن الاقتصاد الألماني في كييف خشيتهم من احتمال تأجيل الكثير من المشاريع والاستثمارات التي كانت متوقعة إلى أجل غير مسمى وإلى حين توفر الأجواء والشروط الملائمة التي تدفعهم إلى الطمأنينة. وحسب رأيهم أيضا «حتى ولو جرى توقيع عقود جديدة فيجب الانتظار عامين أو أكثر إلى حين وضع قواعد جديدة، لكن الأمر الحاسم اليوم هو حل الأزمة في أوكرانيا سلميا».


المعارضة الأوكرانية




لكن القضية التي لا يأتي أحد على ذكرها وكانت تعتبر لوقت قريب منقذا لأوروبا وألمانيا عند الحاجة، ومع ذلك أثبتت العكس تماما، هي مشروع خط غاز نابوكو من بحر قزوين. ففي هذا البحر توجد حقول وفيرة من النفط والغاز الطبيعي (وتشارك فيه تركيا وبلغاريا والمجر والنمسا ورومانيا واتحاد شركات فنترشل الألماني)، وهدفه عندما جرى التوقيع عليه تنويع مصادر الحصول على الغاز الطبيعي وسد الاحتياجات (عند الحاجة)، وكان من المقرر أن يوفر مع مطلع عام 2015 الغاز لبلدان الاتحاد الأوروبي ويمر في تركيا والنمسا، إلا أن المشكلات الإدارية والتنظيمية والتقنية التي تعترضه تثير شكوكا كثيرة بإمكانية بدء عمله حسبما اتفق عليه وفي التاريخ المحدد، بينما يعتبر خط أنابيب ساوث ستريم المنافس له أفضل. فمع أنه سوف يضخ عام 2015 وكحد أقصى سنويا حتى 63 مليار متر مكعب من الغاز من روسيا عبر البحر الأسود إلى جنوب أوروبا وتكاليفه قدرت بـ25 مليار يورو تقريبا، إلا أنه لن يكفي لسد كل الاحتياجات الألمانية بالدرجة الأولى، وهنا تعود لتبرز أهمية أنابيب الغاز الروسي عبر أوكرانيا، التي إذا ما ظلت تخضع لسلطة روسيا فإن مصالح ألمانيا وغيرها الاقتصادية ستكون بشكل أو بآخر مرتهنة أيضا، وهذا سبب وجيه آخر يكشف حقيقة خلفية مساندة أوروبا للمعارضة الأوكرانية.

[caption id="attachment_55250229" align="alignright" width="300"]يوشكا فيشر يوشكا فيشر[/caption]


وهنا لا بد من الإشارة إلى استياء ألمانيا الكبير عندما امتنعت الحكومة الأوكرانية السابقة عن التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، فهذه الاتفاقية التي سوف تعود بالفائدة الكبيرة على الأوكرانيين لكن ألمانيا مستفيدة أكثر من أي بلد أوروبي آخر، خصوصا ما يتعلق بإنشاء سوق تجارية حرة. فهذه السوق ستنشط حركة التجارة التي تعاني اليوم بعض الركود نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية، فحسب بيانات وزارة الاقتصاد الألمانية وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين في النصف الأول من عام 2013 إلى 4.6 مليار دولار تقريبا، إلا أن حجم الصادرات الألمانية إلى أوكرانيا في هذه الفترة تراجع بنسبة اثنين في المائة، أي بقيمة 3.5 مليار دولار، في وقت تسعى فيه ألمانيا لزيادة صادراتها، فقطاع الصادرات هو أهم أعمدة اقتصادها.

ومن أهم صادرات ألمانيا إلى أوكرانيا الآليات الضخمة والسيارات والمنتجات الكيماوية والصيدلية والكهربائيات والإلكترونيات. وعلى هذا الأساس ظلت سنوات تعتبر ثالث شريك تجاري لأوكرانيا بعد روسيا والصين، كما أن قيمة الاستثمارات المباشرة الألمانية هناك تتعدى الـ7,4 مليار دولار، وتحتل بذلك المركز الثاني بعد قبرص. ويركز رجال الأعمال الألمان بشكل خاص على قطاع التجارة والمال وصناعة السيارات وصناعة مواد البناء والخدمات اللوجيستية، إضافة إلى ذلك تعتبر ألمانيا أوكرانيا الموقع الأكثر تطورا مستقبلا لحماية استثماراتها خارج بلدان الاتحاد الأوروبي. ومن ضمن الـ136 دولة التي لها استثمارات مباشرة في أوكرانيا فإن ألمانيا تحتل المركز الثاني وتصل قيمتها الإجمالية إلى 6.2 مليار دولار، فيشكل ذلك 11 في المائة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية، نحو 5.7 مليار دولار يجري استثمارها في القطاع الصناعي الأوكراني منها 4.6 مليار دولار في قطاع التعدين و312 مليون دولار لإنتاج منتجات غير حديدية. إضافة إلى ذلك الاستثمارات غير المباشرة، وضخ المستثمرين الألمان في النصف الأول من عام 2013 أكثر من 37 مليون دولار.

وقد يكون وزير الخارجية الألماني الأسبق يوشكا فيشر أكثر السياسيين الأوروبيين الذي حلل الوضع بوضوح وبصراحة، فهو يقول إن أوكرانيا انقسمت، وأصابع الاتهام تتوجه إلى الاتحاد الأوروبي الذي يدعم القوى الأوكرانية المؤيدة لأوروبا، متجاهلا الاستراتيجية الروسية حيال هذا البلد، وهناك الكثير على المحك، لكن استقلالية أوكرانية عن روسيا تعتبر أيضا عنصرا أساسيا لاستراتيجية أمن أوروبا.



font change