السباق العالمي نحو إعادة اختراع "الدولة"

السباق العالمي نحو إعادة اختراع "الدولة"

[caption id="attachment_55266351" align="aligncenter" width="955"]تمثال "المرليون" احد اشهر معالم سنغافورة السياحية تمثال "المرليون" احد اشهر معالم سنغافورة السياحية[/caption]

«لقد حافظ الغرب على تفوقه وقدرته الخلاقة بسبب نجاحه المتكرر في إعادة اختراع الدولة» بهذه العبارة يختتم جون ميكلثويت رئيس تحرير مجلة الإيكونوميست» وأدريان وولدريدج محرر الشؤون الإدارية في نفس المجلة كتابهما المشترك «الثورة الرابعة: السباق العالمي نحو إعادة اختراع الدولة (The Fourth Revolution: The Global Race to Reinvent the State)».

الفكرة المحورية لهذا الكتاب المهم والصادر في شهر مايو (أيار) الماضي هي أن العالم بشكل عام والغرب تحديدا يواجهان معضلة في أداء الحكومات والتي تعاني من قصور فاعليتها ومن الأعباء المالية وبالتالي فإن تغييرا كبيرا أو ثورة في صيغة الدولة الحديثة هو أمر ضروري.
ويعتبر المؤلفان أن نجاح الحضارة الغربية في اختراع صيغة للدولة الحديثة في القرن السابع عشر وفيما بعد تطوير هذه الصيغة عبر ثلاث ثورات فكرية ضمن لهذه الحضارة الريادة أمام باقي منافسيها. لكن هذه الحضارة تواجه تحديا كبيرا في العصر الحالي بسبب عيوب إدارية وسياسية في صيغة «دولة الرفاهية» التي تمثلها هذه الحضارة وطبيعة العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن مما قد يسمح بتفوق لصيغ أخرى للدولة تمثلها نماذج أوتوقراطية سياسيا ولكنها فاعلة وناجحة اقتصاديا وتقنيا كالصين وسنغافورة.


عجز الحكومات بسبب الديمقراطية




يعدد المؤلفان مجموعة من الأسباب لتراجع فاعلية الأداء الحكومي أو العجز الحكومي اليوم منها: تضخم الجهاز الحكومي وارتفاع معدلات الإنفاق الحكومي بالنسبة لإجمالي الناتج المحلي، والافتقار إلى الكفاءات البيروقراطية في الأجهزة الحكومية والشلل الذي يصيب الكثير من الحكومات الغربية بسبب عيوب في العملية الديمقراطية نفسها. والسبب الأخير تحديدا خصص له المؤلفان فصلا كاملا بعنوان «العجز الديمقراطي». وفيه يجادل المؤلفان بأن بعض عناصر قوة الديمقراطية تتحول أحيانا إلى عوامل ضعف تعيق الحكومات في أداء مهامها.

فعلى سبيل المثال بإمكان نائب عن ولاية أميركية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها النصف مليون كولاية (ويومينغ) أن يعطل إصدار تشريعات وقرارات تمس 300 مليون مواطن أميركي عبر ممارسة المناكفة السياسية «filibustering» في جلسات مجلس النواب. بالمقارنة مع هذا، فإن حكومات الدول الآسيوية المتقدمة كالصين وسنغافورة لا تواجه مخاطر الشلل السياسي. فالتشريعات والقوانين والمشاريع الجديدة يتم اعتمادها وتنفيذها دون معاناة مع المناكفات السياسية والجدل الآيديولوجي بين الأحزاب.

[caption id="attachment_55252137" align="alignleft" width="120"]غلاف الكتاب غلاف الكتاب[/caption]

والفضل في ذلك يعود إلى الفلسفة السياسية والاجتماعية التي تبناها ديكتاتور سنغافورة الصالح لي كوان يو. حيث ينسب إليه المؤلفان القول بأن ما تحتاجه أي دولة هو النظام «discipline» أكثر من الديمقراطية وأن الحكم الرشيد يعتمد على نخبة من المتعلمين الصالحين ولا يعتمد بالضرورة على رأي الغالبية. وهذا ما سعى الصينيون لتطبيقه بعد انهيار الشيوعية حول العالم عام 1989. إذ يتحدث المؤلفان باستفاضة في الفصل المعنون بـ«البديل الآسيوي» عن تجربة الحزب الشيوعي الصيني الذي تبنى رأسمالية الدولة فيصفانه بأكبر «إدارة موارد بشرية» في العالم بسبب احتفاظه بملفات لكل القيادات الاقتصادية والعلمية والإدارية في البلاد مما يسمح باختيار الأكفأ منهم لقيادة المناصب والشركات الحكومية.

تجربة الحكومة الصينية



لبناء كادر بشري ضخم من البيروقراطيين الأكفاء، أنشأت الحكومة الصينية عام 2005 في ضواحي مدينة شنغهاي أكاديمية الصين للقيادات العليا. ورغم أن الأكاديمية تقع تحت إشراف الحزب الشيوعي الصيني فإن مناهجها لا تكترث بآيديولوجيات الحزب بقدر ما تهتم بتطوير القدرات الإدارية للنخب الصينية من أجل إعدادهم لتقلد مناصب عليا سواء في الحكومة الصينية نفسها أو في الشركات المملوكة من قبلها. ويقول المؤلفان إن الصين عندما بحثت عن تحديث اقتصادها وتطوير منتجاتها فإن أعين قياداتها اتجهت نحو أميركا والغرب ولكنها عندما بحثت عن الحكم الرشيد والإدارة الفعالة فإنها اختارت وجهة أخرى وهي سنغافورة. لكن مع هذا، لا يخلو النموذج الصيني للدولة والتنمية من عيوب خطيرة. أحدها كما يجادل المؤلفان هو أن تراجع النمو السكاني بسبب القوانين التي تحد من الإنجاب سيخلق مشكلة اجتماعية مستقبلا حيث إن عددا كبيرا من السكان من كبار السن لن يجد من يرعاهم وبالتالي ستضطر الدولة إلى تقديم المزيد من الإنفاق المالي والخدمات الاجتماعية لهم أي الاتجاه نحو المزيد من صيغة «دولة الرفاهية» التي يمثلها الغرب اليوم وفي نفس الوقت يعاني من ضغوطاتها على فاعلية أداء حكوماته.



أطوار الدولة الحديثة





في الفصول الأولى للكتاب، استعرض المؤلفان ثلاثة أطوار للدولة الحديثة نشأت عبر ثلاث ثورات فكرية في العالم الغربي. بداية من الدولة - الأمة ذات السلطة المركزية التي تتحكم في المجتمع وذلك في القرن السابع عشر عبر نظريات توماس هوبز ومرورا بالدولة الليبرالية في القرن التاسع عشر والتي تهدف إلى ضمان الحرية الشخصية والاقتصادية للفرد والتي نظر لها الاقتصادي البريطاني جون ستيوارت ميل وانتهاء بدولة الرفاهية التي تلتزم بتقديم الخدمات الاجتماعية والاقتصادية للمواطن والتي قامت على أفكار بياتريس ويب بعد الحرب العالمية الثانية. بوادر التحول الرابع للدولة الحديثة ظهرت في سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي على يد رئيسة الوزراء البريطانية المرأة الحديدية مارغرت ثاتشر والرئيس الأميركي رونالد ريغان اللذين تبنيا ثورة عالمية ضد تضخم الأجهزة البيروقراطية وزيادة الإنفاق الحكومي وارتفاع الضرائب. فبدأت مارغريت ثاتشر عهدها بخصخصة الخطوط الجوية البريطانية وشركة الاتصالات وبالتالي قلصت من حجم الحكومة وإنفاقاتها وهو الأمر نفسه الذي سعى إليه الرئيس ريغان. لكن هذه الثورة لم تكتمل لعدة أسباب منها طبيعة النظام الديمقراطي نفسه والذي سمح لأحزاب المعارضة في إعاقة الكثير من التشريعات التي تقترحها الحكومات.

واليوم يرى المؤلفان أنه مالم يتم إعادة هيكلة نموذج الدولة الغربية فإن ذلك سيشكل خطرا على الديمقراطية نفسها حيث إنه كلما تحملت الدولة المزيد من الالتزامات الاقتصادية والاجتماعية تجاه المواطنين عجزت عن تنفيذها بسبب التحديات الاقتصادية العالمية أو شح الموارد أو ارتفاع عدد السكان وبالتالي يزداد سخط الناس عليها وعدم اقتناعهم بها وربما عدم اقتناعهم بفاعلية النظام الديمقراطي نفسه. وهذا بالتحديد ما حدث في اليونان وإيطاليا أثناء أزمة اليورو قبل عدة أعوام حيث استبدلت حكومات ديمقراطية منتخبة بأخرى تكنوقراط تحت ضغوطات الاتحاد الأوروبي. كما أن نسب العضوية في الأحزاب الرئيسة في الدول الغربية تتراجع كما في بريطانيا حيث يشير المؤلفان إلى أن نسبة الأعضاء المنتمين للأحزاب الرئيسية في بريطانيا اليوم هي 1% بالمقارنة مع 20% في الستينات الميلادية.

نحو طور رابع للدولة




يستعرض المؤلفان مجموعة من الحلول والأفكار التي قد تساهم في المضي نحو طور رابع للدولة الحديثة. هذه الأفكار ترتبط بالعقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن وترتبط أيضا بالعملية الديمقراطية. فمن ناحية الالتزامات الاجتماعية والاقتصادية التي تقدمها الدولة للمواطنين يطرح المؤلفان أمثلة لبرامج مبتكرة من عدة دول من خارج المنظومة الغربية. هدف هذه البرامج هو تقديم الخدمات الاجتماعية الضرورية للمواطنين ولكن بأقل كلفة أو بطريقة تضمن منفعة متبادلة بين الطرفين الدولة والمواطن. أحد هذه البرامج تطبقه الحكومة البرازيلية لتحويل مساعدات مالية للفقراء مشروطة بإتمامهم لبرامج تدريب أو إرسال أبنائهم إلى المدارس. في هذا البرنامج يستفيد المواطن بشكل مباشر عبر حصوله على المال وتستفيد الدولة بشكل غير مباشر إذ إن ذهاب الأطفال إلى المدارس سيعطيهم فرصا اقتصادية أفضل مستقبلا وسيقلص الفجوة بين الفقراء والأغنياء.

[caption id="attachment_55252144" align="alignright" width="150"]جون ميكلثويت رئيس تحرير مجلة الإيكونوميست جون ميكلثويت رئيس تحرير مجلة الإيكونوميست[/caption]

كما يستعرض المؤلفان فكرة بدأت الهند في تجربتها بهدف تقديم رعاية صحية أكثر فاعلية ولكن بتكلفة أقل ماديا. ففي الهند يوجد 6 أطباء لكل 10000 مواطن ولمواجهة هذا العجز وبدلا من التركيز فقط على تخريج عدد أكبر من الأطباء بما تستغرقه عملية تعليمهم وتدريبهم من وقت وإنفاق، اقترحت وزارة الصحة الهندية استحداث برنامج تدريبي مدته 3 سنوات لتخريج ممرضين قادرين على تقديم الخدمات الطبية الأساسية للمرضى وتشخيص وعلاج الأمراض البسيطة بما يغنيهم عن الذهاب للأطباء. أما بالنسبة للحكم والديمقراطية فيقترح المؤلفان نقل «outsource» القرارات الاقتصادية الكبرى المتعلقة بالسياسات المالية للدولة إلى لجان وهيئات مستقلة قوامها خبراء تكنوقراط. هذا سيعطي فرصا أكبر لقبول هذه السياسات وتمريرها استنادا إلى استقلالية هذه الهيئات عن الحكومة أو الحزب الحاكم. في نفس الوقت فإن المزيد من المشاركة الشعبية مطلوب في القرارات المتعلقة بالمستوى المحلي والبلدي للمواطن ويضرب المؤلفان المثل بالهند مرة أخرى حيث نجح رئيس الوزراء الحالي ناريندرا مودي أثناء حكمه لولاية كوجرات وبفضل السلطات الواسعة المخولة له في خلق اقتصاد صناعي للولاية بات نموذجا يتمنى الكثيرون تطبيقه على مستوى الدولة في الهند.

قد يبدو هذا الكتاب غير ذي أهمية للقارئ العربي حيث يغرق العالم العربي اليوم في موجة من الإرهاب والانهيار السياسي. لكن من الضروري أن نضع في البال أن الأطوار الثلاثة للدولة الحديثة كما يطرحها الكتاب انبعثت من رحم الحروب التي خاضتها أوروبا. فـ(الدولة - الأمة) التي جاء بها توماس هوبز نشأت على إثر الحروب الدينية التي خاضتها أوروبا في القرنين السادس والسابع عشر.
و(الدولة الليبرالية) التي نظر لها جون ستيوارت ميل نشأت في أعقاب الثورة الفرنسية وحرب الاستقلال الأميركية. و(دولة الرفاهية) جاءت في أعقاب الحربين العالميتين. ما يمر به العالم العربي اليوم على صعوبته يشكل فرصة لإعادة بناء الدولة العربية التي انهارت في بعض الحالات وشارفت على الانهيار في حالات أخرى.
font change