انهيار اليمن الواحد بحروب طائفية انقلابية

انهيار اليمن الواحد بحروب طائفية انقلابية

[caption id="attachment_55252333" align="aligncenter" width="620"]زعيم حركة (أنصار الله) عبد الملك الحوثي زعيم حركة (أنصار الله) عبد الملك الحوثي[/caption]


شكل حضور «أنصار الله»/ «حزب الله» اليمني المستنسخ مفاجأة مدوية في الأيام الماضية بمشروعه الانقلابي الذي استغل تردي الأوضاع في اليمن وانشغال العالم بـ«داعش» ليعيد ترتيب الأوراق والأولويات والمكونات السياسية ونفوذها في صنعاء حيث مركزية العاصمة التي لا يمكن تمرير أي أجندة في اليمن دون السيطرة عليها.
استغل الحوثيون/ «أنصار الله» تردي الأوضاع اليمنية لينفذوا ككل المنظمات والتيارات الأصولية التي تمثل أسوأ نماذج الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني عبر بوابة الملفات الاجتماعية الحقوقية، وكان من أبرزها قضية رفع أسعار الوقود؛ القضية الشعبية الأبرز في تثوير الحالة اليمنية منذ سقوط نظام علي عبد الله صالح الذي بدا مقامرا بصمته على تمدد الحوثيين نكاية في حكومة هادي القادمة على أكتاف «الربيع العربي» الهزيلة.

تنسدل جدائل هذا التنظيم العنيف والسياسي الذي يتحرك بتوازن ما بين حضوره السياسي والآيديولوجي وتمثيله الأمين لأجندة إيران في المنطقة، لكن بخصوصية محلية، إلى الانسلاخ الذي عرفته الطائفة الزيدية في اليمن عن جلدها والتحول من «التشيع المتسنن» كما كان يقال إلى «التشيع السياسي» المنتمي إلى مرجعية إيران، في محاولة للوصول إلى خصوصية تجربة «حزب الله» اللبناني.
هذا الانسلاخ يمكن رصد بداياته مبكرا، إلا أنه على مستوى المسار التنظيمي بدأ في مطلع التسعينات عندما أراد الحوثيون تدشين منتجهم الأصولي الجديد «الشباب المؤمن» في منطقة صعدة (240 كلم شمال صنعاء)، وهي منطقة ذات أغلبية شيعية كاسحة تقودها مرجعية دينية قوية ومتماسكة وموحدة تتمتع بكاريزما الزعامة الدينية التي يفتقدها الإسلام السني المتذرر منذ منتصف التسعينات حين أضعفت التنظيمات الأصولية التابعة للإسلام السياسي على المؤسسات الدينية التقليدية بمرجعياتها.
بدر الدين الحوثي هو الأب الروحي للحوثيين وأحد أهم مراجع المذهب الزيدي الجارودي في اليمن الذي ينحو إلى التجديد ورفض التقليد ودعا إلى محاربة علماء الزيدية التقليديين بسبب تقصيرهم في التقارب مع المذاهب غير السنية وأبرزها المذهب الاثنا عشر الجعفري الذي يشكل نسغ ومركزية المذهب الشيعي في العالم.

غادر بدر الدين الحوثي اليمن بعد حرب الانفصال في 1994، وتلك هي الفترة التي قويت فيها شوكة التنظيمات المتطرفة الأصولية السنية واكتسحت اليمن بسبب دعمها للنظام الذي استغل تجييشها للحالة اليمنية باتجاه الوحدة بقيادة حزب الإصلاح وفلول العائدين من أفغانستان الذي شكلوا بدايات «القاعدة في جزيرة العرب» الذي ينشط في المناطق الجنوبية من اليمن حتى الآن.

[caption id="attachment_55252334" align="alignleft" width="371"]بدر الدين الحوثي بدر الدين الحوثي [/caption]

استقر بدر الدين الحوثي بصحبة ابنه حسين الحوثي الذي يعد بمثابة سيد قطب الزيدية من خلال تنظيراته المباشرة على النص القرآني باتجاه إنتاج خطاب أصولي متشدد ينزع إلى النفس الانقلابي ويستغل بوابة الاجتهاد المشرعة في المذهب الزيدي، وبقي الحوثيان؛ الأب والابن، في إيران حتى عام 2002 قبل أن يعود الابن الثائر المتشبع بروح الثورة الإيرانية إلى صعدة ويعلن تغييرا جذريا وحاسما يشرح استراتيجيه الجديدة وهي الانتقال من الزيدية الهويّاتية المتنافسة مع بقية التنظيمات الأصولية السنية في اليمن إلى استنساخ تجربة «حزب الله» اللبناني. ومن هنا كان لزاما الانسلاخ من الذات ولو بشكل رمزي عبر تغيير الاسم من «الشباب المؤمن»، بما يحمله من رمزية الاعتزاز بالهوية الزيدية في مقابل هويّات دينية متفجرة في اليمن بعد انهيار مشروع اليمن الواحد بإدارة دولة منهارة، إلى «أنصار الله» الاسم المرادف لـ«حزب الله» في الاشتقاق القرآني والجرس والدلالات الرمزية لاسم التنظيم.


انشقاقات عقائدية




لم يستطع بدر الدين الحوثي ولا ابنه القفز على الهوية الزيدية التقليدية الرافضة لغلو المذهب الاثني عشري من وجهة نظر عقائدية محضة فلا الزيدية تعترف بتسمية الاثني عشرية لأئمتهم، ولا المذهب الجعفري، كما هو معلوم، يسمي ويعترف بإمامة زيد بن علي الذي تنتسب إليه الزيدية، هذا عدا مسائل كثيرة تتصل بالعصمة والرجعة والتقية والبداءة والموقف من الانشقاق المبكر بين الصحابة، وهذه مسائل جعلت من الزيدية التقليدية تتراجع أمام أطروحات حسين الحوثي الثورية، وإن كانت لم تصمد أمام كارزيماه عند أتباعه بسبب نفسه الثوري الجديد الذي أيقظ في الزيدية الرغبة في الانتقال من أقلية مضطهدة إلى مكون سياسي وعقائدي صلب يستطيع التفاوض واللعب بمصير بلد بحجم وتنوع اليمن.
اصطدم حسين الحوثي مع علماء الزيدية وحدثت بينهم مساجلات علمية وفكرية كبيرة موثقة في إعلام الزيدية اليمنية مثل صحيفة «الأمة» ومنتديات على الإنترنت، بل أصدر علماء الزيدية التقليديين بيانا مهما في التحذير من ضلالات الحوثي، وكانت هناك شخصية حاسمة ومرجعية كبرى في المذهب الزيدي ساهم رحيلها في تمدد الزيدية الثورية واحتضار الزيدية التقليدية المعتدلة.



تلاشي الزيدية المعتدلة





الشيخ العلامة مجد الدين المؤيدي، واحد من أهم مرجعيات الزيدية التقليدية المعتدلة، ظل صامدا حتى رحيله في 2007 تجاه حالة التثوير للزيدية باتجاه التقارب مع الاثني عشرية في إيران، وصرح أكثر من مرة لطلابه ولوسائل الإعلام أن ظاهرة «الحوثي» غريبة على الجسد اليمني الواحد، وأن محاولة إشعال فتيل الأزمة مع السنة في اليمن هو بداية لعصر جديد لم تعرفه اليمن من قبل حيث تتعايش المذاهب السنية بجوار الزيدية المعتدلة رغم المماحكات الفقهية والعقائدية، إلا أنها لم تكن لتتجاوز عتبات الدرس الكلامي والجدل الفقهي ليس إلا.
أنشأ الحوثي مذهبا سياسيا جديدا، لكنه كساه بلغة ومفاهيم زيدية، ولذلك هو أقرب إلى الداعية الحركي منه إلى الفقيه الراسخ؛ فهو يمثل «سيد قطب» الحركة الزيدية، ويعتمد أتباعه على تراث ضخم من الصفحات الهزيلة التي جرى تفريغها من محاضراته وخطبه الصوتية وجمعها في كراسات يتداولها أتباع التنظيم.
وهنا ملاحظة هامة يمكن رصدها بسبب تكررها في كل النماذج الذي عاشت فيها المذاهب والمدارس السنية والشيعية الكبرى تحولات من الإسلام التقليدي إلى السياسي، حيث تجري القطيعة مع التراث والمرجعيات الكبرى بكل ما تحويه من مدونات فقهية وعقائدية لها قيمتها وامتدادها التاريخي العريق، إلى منتجات جديدة رخوة وهزيلة علميا عادة ما تكون أشبه بالوصايا والتعاليم للمرشد والقائد الجديد. ومن هنا، ساهم حسين الحوثي في تقزيم القامة الزيدية الفقهية بالقفز على تراثها الكبير الذي له تأثيرات على كل المذاهب السنية، إلى مذهب منعزل عن أصوله ومراجعه يستمد أفكاره السياسية من الواقع ويحاول أن يبحث لها عن نصوص قرآنية للاستدلال بأسلوب أقرب إلى الوعظ السياسي منه إلى التأصيل العلمي.

[caption id="attachment_55252335" align="alignright" width="192"]مجد الدين المؤيدي مجد الدين المؤيدي[/caption]

واحدة من مآزق التمدد «الحوثي» في اليمن هو استغلال النظام السياسي آنذاك بقيادة علي عبد الله صالح الشخصية الأبرز في اللعب كضابط إيقاع بين القوى الدينية المختلفة التي تفترق على غيره وتجتمع عليه لا سيما حضوره القوي في أوساط السلفيين التقليديين من أهل الحديث في دماج في منطقة صعدة، وهي معادلة ومفارقة كانت يستخدمها صالح في الإبقاء على السلفيين في تلك المناطق لإحداث توازن عقائدي طمعا في التوازن السياسي، بينما كان ينظر الزيديون إليها على أنها محاولات إرباك للهوية الزيدية، وبالتالي ساهم تمدد الصحوة السلفية التي قاد شقها العلمي أهل الحديث بدماج والسلفيون في اليمن، وشقها الحركي والسياسي حزب الإصلاح المحسوب على «الإخوان»، في تفريغ الزيدية التقليدية من محتواها وإضعافها وبالتالي تحول الأجيال الجديدة من شباب الزيدية باتجاه مقولات الحوثي في مواجهة الحصار المناطقي والسلفي والإصلاحي برعاية حكومية لأسباب تتصل بمدى قرب أو بعد هذه التنظيمات من استراتيجية علي عبد الله صالح في مراحل حكمه المختلفة، وقدرته على ارتداء قبعة حامي الهوّية الزيدية التي تشكل نصفه الأول، والمحافظ على الخطاب السلفي المهيمن على معظم مناطق اليمن، في تراجع للمدرستين الشافعية والزيدية التقليديتين.



الاحتماء بالقبيلة





اتجه حسين الحوثي بداية إلى القبائل طارحا فكرة تنظيمه الجديد «أنصار الله» الآن، وترافق ذلك مع تدشين مؤسسات خيرية وتعليمية على طريقة «حزب الله» في الجنوب اللبناني، وساهم تراجع وإخفاق الدولة إلى تحول منطقة صعدة إلى ما يشبه فكرة المجتمع المنفصل أو الدولة داخل الدولة.
وفي اشتداد ضربات الولايات المتحدة لتنظيم القاعدة في اليمن وتركيزها على مسألة الإرهاب القاعدي، نشطت الحركة الزيدية الجديدة الثائرة في تدعيم صفوفها وإعادة بناء نفسها مستخدمة كل الشعارات التسويقية ومقتفية آثار «حزب الله» وتكتيكاته حتى قيل في تلك الأيام إن عناصر كثيرة من الحزب تسللت على فترات متباعدة لإعطاء التوجيهات والتأكد من تمدد الهوية الزيدية السياسية الجديدة التي اتخذت شعار: «الله أكبر.. الموت لأميركا.. الموت لإسرائيل.. اللعنة على اليهود.. النصر للإسلام».



لحظة المواجهة





تغلب تنظيم «أنصار الله» بقيادة حسين الحوثي على الزيدية التقليدية خلال أعوام من الحشد والتأليب والتثوير للمذهب الزيدي، حيث ساعد تردي الأوضاع، وارتفاع منسوب الطائفية في اليمن، في انتقال الأجيال الجديدة لموالاة تنظيم «الشباب المؤمن» الذي اكتمل عقد مؤسساته المستقلة وقدرته على الاستقلال الذاتي ليس عسكريا فقط، وإنما حتى على مستوى التمويل والتحالفات السياسية المستقلة.
لاحقا ألقت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 بظلالها على الجسد السني بكل تشكلاته؛ معتدليه ومتطرفيه، وحتى المدارس والتيارات التقليدية ذات الطابع السلمي، تأثرت بذلك الحدث، مما أتاح الفرصة للأقليات المذهبية والفقهية الصغيرة لأن تعيد النمو في ظل الحرب على الإرهاب، إما بتقديم نفسها بديلا، أو حتى بمحاولاتها الدؤوب لإعادة الاعتبار لذاتها باعتبارها تجليات معتدلة. ومن هنا بدأت سلسلة من السجالات العنيفة بين الحوثيين الجدد، والسلفيين في اليمن لا سيما أهل الحديث في دماج، وساهم انفلات الوضع الأمني وانتعاش سوق السلاح والتهريب، في تمدد الحوثيين داخل مناطقهم مما استدعى لحظة المواجهة التي اتخذت عدة نسخ ولأسباب مختلفة، إلا أنها جميعا منذ الحرب الأولى في يونيو 2004 التي شهدت مقتل حسين الحوثي قائد التنظيم، ساهمت في تعزيز الانفصال بين الزيدية الجديدة المتحولة باتجاه الإسلام السياسي الشيعي، وباقي مكونات المجتمع اليمني، ولم يستطع حتى علي صالح ولا قبائل حاشد إيقاف هذا النزف، ولاحقا التصدي للاستقلالية التي كان ينظر إليها كعامل للضغط وإيجاد التوازن ضد اجتياح واكتساح حزب الإصلاح الإخواني الذي تزامن مع تضخم دوره السياسي على الدعوي.


فوضى التسليح




وإذا كان من ملمح لافت في مسألة التقارب في تجربة «حزب الله» و«أنصار الله»، فهو التشابه على مستوى التسليح والخبرات العسكرية العريقة. الحوثيون بدورهم أطلقوا صواريخ الكاتيوشا في الحرب السادسة عام 2010، وهي الصواريخ ذاتها التي استخدمها «حزب الله» الذي تشاع الأخبار بأنه بعث بمدربين تابعين له في منطقة صعدة، وثمة تقارير دولية كثيرة ذكرت ارتباط قاعدة إيران العسكرية في إريتريا بمعسكرات الحوثيين التي تستمد السلاح عبر الشواطئ القريبة وأبرزها ميناء «ميدي» وأقرب الموانئ من صعدة، وعادة ما يستخدم المهربون قوارب الصيد التي لا تلفت الأنظار.
أسواق السلاح من جهة أخرى خضعت لسيطرة الحوثيين بسبب قدرتهم على التفاوض والشراء بكميات كبيرة، هناك على سبيل المثال سوق «الطلح» الأهم والأبرز في إمداد المقاتلين من «أنصار الله»، هذا عدا الاستفادة من غنائم الحرب مع الميليشيات الحكومية أو المستقلة.

من أجل تأسيس الانفصال الأبدي لأنصار «حزب الله» النسخة اليمنية، لم يستعجل الحوثيون، بل استغلوا فترة الكمون في مطلع الألفية إلى اللحظة المناسبة لإعلان استقلالهم الفكري والتنظيمي، وكانت معركة 2004 التي أعلن فيها عن مقتل قائد التنظيم، وتلتها حرب مارس 2005 التي قادها الأب بدر الدين الحوثي.. كانت لحظة انصهار الزيدية في الحوثية لأسباب تتصل بطبيعة الانزياحي في المواقف السياسية للأقليات العقائدية، التي تتجه في أوقات الحروب والأزمات إلى الانكفاء على الذات والتطرف والخروج من جسد المجتمع.
الحرب الثالثة في نوفمبر 2005 أكدت على استقلالية الأجنحة الحوثية وتحولها إلى تنظيم عسكري عقائدي مسيّس يستلهم التجربة الإيرانية في نسختها اللبنانية التي يقودها «حزب الله» الأكثر تأثيرا وصيتا بسبب اتكائه على مفهوم المقاومة وسمعته الجيدة في المنطقة لدى الإسلام السياسي السني الذي اقترب كثيرا منه في حرب 2006، لكن ذلك كان بعد سنة من طرح الحوثيين لقائدهم الشاب الجديد عبد الملك الحوثي الأخ الأصغر لحسين الرمز المغدور في نظر الحوثيين. بعدها بسنتين اندلعت الحرب الرابعة في تأكيد على أن حالة الغليان اليمنية التي يغفل عنها العالم لم تأت في يوم وليلة، بل كانت سياقا لجدلية وصراع على الشرعية في الشمال اليمني، يقابلها انفصال بطيء عن جسد الدولة الواحدة في الجنوب وتعملق للإسلام السياسي ودخول القاعدة بمنتجها «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» القابع في المناطق الجنوبية الذي يستغل تلك الحروب بين الحوثيين والدولة في تعزيز مناطقه وإعادة الحشد والاستقطاب على اعتبار أن قضيته الأساسية ليست اليمن وإنما استهداف المصالح الغربية في المنطقة ومحاولة التأثير على الاستقرار السعودي.
ورغم أن صراع الحكومة والحوثيين كان على إعادة تعريف «اليمن» الواحد، فإنه كان يتخذ شعارات وأسبابا مختلفة؛ من حماية الدولة، إلى الحرب على محاولات الانفصال، وصولا إلى حماية الأقلية اليهودية في صعدة، التي اتهم الحوثيون بأنهم من وقف وراءها.
وبعد أقل من سنة تحولت الحروب بين الدولة والحوثيين إلى مواجهات ذات طابع «تكسير العظم»، تجاوزت منطقة صعدة لتمتد إلى مناطق يتقاسمها الطرفان لكن يدين غالب أهلها بالمذهب الزيدي التقليدي، فبينما تحاول الدولة استقطاب ما تبقى من الزيدية التي تحولت إلى ما يشبه الهوية القبلية، يحاول عبد الملك الحوثي و«أنصار الله» و«الشباب المؤمن» استقطاب تلك البقية الباقية التي تقبع في مناطق قريبة جدا من صنعاء العاصمة.
لم تعلن الحكومة اليمنية لأسباب تتصل بطبيعة نظامها السابق الذي قاده علي صالح ببراغماتية شديدة وذكية لكنها ذات طابع ابتزازي.. لم تعلن عن علاقة الحوثيين بإيران إلا بعد الحرب السادسة في منتصف 2009 التي أعلنت فيها الدولة آنذاك عن مخابئ للسلاح كبيرة جدا يملكها الحوثيون، لكن جرى اكتشاف أنها إيرانية الصنع وأنها لا تحتوي على الأسلحة الخفيفة فقط، بل شملت صواريخ قصيرة المدى ومدافع رشاشة، وحصلت أزمة السفينة الإيرانية الشهيرة التي كشفت للعالم وجها جديدا للنزاع اليمني ودخول إيران على الخط.



استهداف السعودية





الانكشاف الإيراني في صعدة عقب الحرب السادسة قاد الحوثيين إلى الذهاب إلى أبعد من ذلك واستعراض قوتهم واستهداف السعودية في خطأ استراتيجي سيكلف الحوثيين لاحقا كشف مخططاتهم الصريحة باستنساخ تجربة حزب الله في لبنان وإعادة موضعتها في اليمن، فكانت خطة التنظيم استدراج السعودية في المعركة السابعة بعد الاعتداء على الحدود السعودية ولاحقا التمركز في جبل الدخان القابع على الحدود في إشارة إلى جرأة الحوثيين على ملف الحدود المتفق عليها لكن اللعب كقوة مستقلة عن الدولة اليمنية قادرة على خلط الأوراق، لكن التصدي السعودي القوي الذي رافقته مساندة لا محدودة للدولة اليمنية التي كانت تعيش لحظة انهيار محقق ما بعد الربيع العربي وخروج حزب المؤتمر وعلي عبد الله صالح من اللعبة السياسية ظاهريا لكن الانغماس في الشأن اليمني أكثر فأكثر وإعلان نفسه زعيما حتى بعد رحيله قادرا على التحالف مع مكونات المجتمع اليمني السياسية والتأثير عليها وبها على المنطقة والإقليم.

[caption id="attachment_55252336" align="alignleft" width="206"]مسلحون حوثيون مسلحون حوثيون[/caption]

في مارس (آذار) 2014 وقعت حرب عمران التي ولدت بسبب انهيار الدولة اليمنية وتحول الجيش اليمني إلى جيش مفروز قبليا وطائفيا مما ساهم في اختراقات كبيرة وواسعة وتحول الجيش إلى مجرد ألوية ومدرعات تتبع قوى يمنية مسيطرة على المشهد اليمني، وهو ما فتح شهية أنصار الله إلى التقدم نحو صنعاء على اعتبار أن التاريخ اليمني الحديث برمته يطبخ في العاصمة المركزية، فكما قيل قديما من يمسك بزمام صنعاء يقود اليمن كيفما أراد.
الحرب السابعة كانت إعلانا مبدئيا باستقلال الحوثي الجديد عن الجسد السياسي اليمني وارتهانه إلى ما بات يعرف بالهلال الشيعي والذي يعكس حالة التمدد السياسي لإيران في المنطقة عبر أذرعتها الآيديولوجية التي تزداد قوة يوما بعد يوم بسبب الانشغال بما بعد الربيع العربي، وظهور موجات عنف للإرهاب السني يخلق حالة فراغ على المشهد وينتج تحدياته الخاصة على الأنظمة السياسية المحاصرة بدوائر الإرهاب والعنف والمعارضة السياسية إضافة إلى تجارب استنساخ أحزاب عقائدية على طريقة حزب الله وأنصار الشريعة أو حتى إيجاد منافذ عبر مشاريع إغاثية وتعليمية في مناطق جديدة من أبرزها القرن الأفريقي.



الاستقواء بإيران





المفارقة هو عدم استقواء الحوثيين بإيران ظاهريا في محاولة ذكية لإنتاج أنفسهم كجزء من نسيج المجتمع الزيدي اليمني بحيث لا يجري الالتفات لهم من قبل المجتمع الدولي والأنظمة الإقليمية وجيران اليمن المكترثين بأمره، بينما يقدمون أنفسهم في الداخل كحماة للهوية الزيدية وفي ذات الوقت يستلهمون تجربة حزب الله بكل مفرداتها مع تواصل مباشر مع كل القوى السياسية لا سيما الاشتراكيين والناصريين الذين يرون التعامل مع الإسلام السياسي الشيعي جدوى أكثر من نظيره السني الذي يعاني من أزمة فهم التعددية السياسية وما يمكن تسميته اليقين السياسي المبني على شرعية الشارع المطلقة.
خرج الحوثيون من عباءة الآيديولوجيا الضيقة إلى رحاب التحالف مع القوى السياسية باعتبارهم ندا لا يستهان به تنظيميا وعسكريا بعد 7 معارك لم يستطع وقفه لا النظام ولا «الإصلاح» والميليشيات المتحالفة مع «القاعدة» وجماعات التطرف بقيادة علي محسن الأحمر الأخ غير الشقيق لعلي عبد الله صالح الذي تعزى له أدوار كبرى في المهمات القذرة بين المكونات السياسية المختلفة، لكنه عاد فاستغل لحظة الربيع لينقلب على كل رفاق الأمس.

[caption id="attachment_55252337" align="alignright" width="300"]نصر الله نصر الله[/caption]

السؤال الذي يطرحه تمدد الحوثيين باتجاه صنعاء ثم احتلالها بشكل أقرب إلى المسرحية الهزلية، هو ذات السؤال الذي جرى طرحه مع داعش، لماذا تتغلغل هذه القوى ذات العدد والعدة الأقل من جيوش الدول النظامية بهذه السرعة ولماذا تنهار العواصم العربية أمام تلك الميليشيات؟
من الصعب حقا الإجابة الوثوقية عن سؤال بهذا الحجم يفترض معرفة الأسباب والدوافع غير المعلنة للمكونات السياسية داخل اليمن أو حتى في الأقطار التي سقطت سريعا، لكن يمكن القول إن عددا كبيرا من القوى الفاعلة على الأرض لا تتدخل إلا حين تمس مصلحتها الخاصة، كما أن «إطلاق اليد» الذي تلعبه الأنظمة السياسية لمجموعة مسلحة متطرفة على حساب مجموعة أخرى ودعمها لتصفية الخصوم بهذه الطريقة، أصاب بنية الجيوش النظامية بانهيارات وانكسارات عميقة.


[blockquote]
في الحالة اليمنية تكمن الإشكالية في تعدد الجبهات المفتوحة أمام النظام السياسي غير المستقر والمشدود تارة إلى النظام السابق بما يحمله من قوة وثقل على الأرض، فالدولة اليمنية لا تسيطر على ما بات يعرف بالحراك الجنوبي وهو تيار ضخم بداخله مجموعات صغيرة تهدف إلى تقويض الوحدة اليمنية ولو في شكلها الظاهري، وتطالب بالانفصال عن اليمن، كما تواجه «القاعدة» في مناطق أبين وما حولها، في ذات الوقت الذي ترقب فيه تمدد الحوثيين حتى قبل وصولهم إلى صنعاء.
القتال على طريقة العصابات تبرع فيه كل المكونات المسلحة في الداخل اليمني، وكان عنصر تفوق الدولة عادة هو سلاح الجو كما كان ملاحظا في الحرب السابعة مع الحوثيين.[/blockquote]



لكن الأكثر أهمية هو غياب مرجعية سنية مؤثرة وبارزة لا سيما بعد تراجع شعبية حزب الإصلاح، وتشرذم التيارات السلفية وخروجها من مشهد التأثير السياسي رغم براعتها في التمدد على المستوى الاجتماعي حتى في مناطق الشمال.
إضافة إلى أن هناك تحالفات كبيرة بين التيارات المناوئة للسلفيين والإصلاح كالتيارات الزيدية التقليدية والتيارات المتصوفة وحتى فلول العائدين من أفغانستان الذين لا يرون في الإصلاح مظلة آيديولوجية فكرية يمكن العمل من خلالها.
الأهم أيضا هو أن حزب الإصلاح يمر بتحولات عميقة كما هو الحال لكثير من تجليات الإسلام السياسي في نسخته الإخوانية، فهي أحزاب مترهلة تعاني من عقدة التمييز الحركي، لكنها الآن تعيد أكثر لحظاتها ضعفا بسبب تحول قياداتها إلى كتلة معارضة نخبوية منفصلة عن الشارع الذي ما زال تحت لحظة ارتباك مما يجري.

وفي تضاعيف الأزمة الحوثية ثمة مجال واسع للحديث عن تحالفات غير معلنة من قبل النظام السابق وأنصاره ساهمت في تمدد أنصار الله حتى لحظة الوصول إلى صنعاء، وإن كانت قد تركزت من حيث الدعم وإطلاق اليد في منطقة عمران.
الحوثيون التقوا إشارات ارتباك المشهد اليمني وضعف الحكومة الحالية فقدموا أنفسهم كثوار من أجل الخبز والحرية ومن هنا استطاعوا النفاذ إلى مجموعات كبيرة من عامة الشعب اليمني غير المسيس ولا الطائفي عبر برامج مجتمعية وإغاثية كبيرة، كما أنهم على مستوى النخب قاموا بجولات تعريفية والتقوا عددا كبيرا من الإعلاميين والصحافيين المناوئين للإسلام السياسي وحزب الإصلاح وأداء الحكومة الحالية التي لم تفعل سوى تعميق الأزمات بصمتها وترددها بل هناك مؤتمرات وورش عقدت برعاية من حزب الله في لبنان خلال السنوات الماضية.



شعارات مستهلكة





قامت فكرة «أنصار الله» على إعادة إنتاج شعارات الثورة الإيرانية وحزب الله بل وإصباغ ذلك بنكهة المقاومة ومحاولة التركيز على قضية فلسطين والمظلومية التي تجد طريقا أسرع إلى قلوب العامة.
«الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، النصر للإسلام» الشعار الذي يفاجئك في كل مكان على السيارات وجدران البيوت وعلى لوحات الإعلان وفي كل مكان فيما يشبه الاحتلال الرمزي المفاهيمي والحضور الطاغي على طريقة حملات العلاقات العامة، وفي المحصلة لم يمت أميركي واحد بسبب الحوثيين بل مئات الأبرياء اليمنيون في الشارع الذين قذفهم القدر أمام مرمى حرب العصابات أو المافيات السياسية، فاللعنات التي يطلقها أنصار الله من الحوثيين لا تصيب إلا اليمنيين الذين ذهبوا وقودا لحرب الارتزاق السياسي.

بداية التسعينات كانت انطلاقة شرارة انتقال الحوثيين من تيار زيدي مناطقي لا يسعى إلى أبعد من التمدد في منطقة صعدة التي تشكل عمقه الاستراتيجي لولا مناوشات السلفيين هناك، لكن بلدة «مران» في محافظة صعدة شهدت ولادة تنظيم جديد على خطى حزب الله استطاع خلال عقدين منا لزمان الإطاحة برأس النظام السابق من خلال التحالف مع المكونات السياسية الأخرى ومنها الإصلاح، ثم وقف على قدميه بمشاركته في الحوار الوطني ٢٠١٣ الذي أقيم في مارس وهدف إلى إعادة ترتيب موازين القوى ما بعد الربيع العربي.
البداية التنظيمية لم تكن ذات بال أو لتلفت أحدا إلى أن هذه المجموعة الحوثية المنشقة عن الزيدية يمكن أن تفعل كل هذا، فأنصار الله كانت مجرد مجموعة شبابية تشكلت في منتدى الشباب المؤمن الذي عقد 1992 على يد «محمد عزان» و«محمد بدر الدين الحوثي» لينهار المنتدى ويظفر حسين بدر الدين الحوثي قتل في حرب 2004 المتشرب لتجربة حزب الله بهذه المجموعة ويقرر تكوين تنظيم جديد يحمل اسم «الشباب المؤمن» ثم أنصار الله لاحقا، ويضطر إلى ترك منصبه في البرلمان اليمني كنائب عن محافظة صعدة، في ذات الوقت يتعاظم دور والده كمرجعية دينية كبرى بعد ضمور واضمحلال دور الزيدية التقليدية التي غاب دورها كما غاب تأثير أبرز رموزها مجد الدين المؤيد.
النظام السابق ساهم في إطلاق يد المجموعات والجماعات الشيعية الزيدية الصغيرة، لإيقاف تعاظم دور حزب الإصلاح الإخواني الذين رأى نفسه شريكا في الحكم والوحدة بعد أدواره الكبيرة التي لعبها في حرب الانفصال والوحدة، وظهرت تنظيمات مثل «الحق» و«اتحاد القوى الشعبية».
في نهاية 2001 انقلب حسين الحوثي على «تنظيم الشباب المؤمن» وأعلن رفض منهجه وأهدافه، وجعل من محاضراته منهجيا ثوريا انقلابيا على طريقة الخميني وسيد قطب في استنباط معان انقلابية ثورية من القرآن الكريم مباشرة فيما يشبه الإحلال المفاهيمي للفكر الزيدي.
تجاوز حسين الحوثي الهادوية الزيدية ليقترب من ولاية الفقيه على الطريقة الإيرانية أو ما يعرف بالتشيع السياسي فيكفر بالنظام الجمهوري والدستور اليمني وينفصل عن مرحلة الارتباط بالأئمة الذين حكموا البلاد لعقود.



صوب طهران





من المتوقع جدا أن يكون لتأثير الثورة الإيرانية الخمينية أدوار بارزة في اليمن منذ الثمانينات، وتشير تقارير كثيرة إلى أن نقطة العبور لليمن كانت مبكرة في عام 1982 على يد فقيه زيدي بارز هو العلامة صلاح فليتة في محافظة صعدة الذي أنشأ على أثر ذلك اتحاد الشباب 1986 ودرست فيه مواد عن الثورة الإيرانية ومبادئها.
إلا أن الانفصال عن الجسد اليمني تأخر حتى 1990 بسبب إعادة التغلل عبر الدستور الجديد لليمن الذي يكفل التعددية السياسية وحق الأحزاب في الإعلان عن نفسها وهو ما طبّق على مصطبة الفرز الطائفي والحركي في كل التجارب العربية، واستفادت حركة الحوثيين التي كانت تعمل قبل ذلك بشكل سري من الانفتاح السياسي، وبزوغ نجم «حسين الحوثي» لتكرار تجربتها فانسلت حركات وتيارات محسوبة على الإسلام السياسي الشيعي أو الزيدي مثل حزب الثورة الإسلامية، وحزب الله، وحزب الحق، واتحاد القوى الشعبية اليمنية.
التمدد السياسي والنديّة التي ظهر عليها أنصار الله في مؤتمر الحوار الوطني مارس 2013 كانت كفيلة لتجاوز مرحلة الحوثية المبكرة ودخول أنصار الله كطرف سياسي مستقل يقارع بقية الأحزاب ويطمحون للتحول إلى مظلة كبرى للإسلام السياسي الشيعي في اليمن، ومن هنا نشأت بنية تحتية للحوثيين في صعدة فيما يشبه الدولة المستقلة المنفصلة، وأنشأت معسكرات تدريب على مستوى عال مكنت الحوثيين من الصمود طيلة الحروب السبع، كما مكنته من إحكام السيطرة على عمران ومنها اتجه نحو صنعاء.


[caption id="attachment_55252338" align="alignleft" width="228"]حارس مسلح من انصار الحوثي يراقب الاوضاع من خارج احدى البنايات التابعه لكوادر الجماعة حارس مسلح من انصار الحوثي يراقب الاوضاع من خارج احدى البنايات التابعه لكوادر الجماعة[/caption]


تمدد الحوثيين الآن مختلف عن السابق بسبب حالة «التشيع السياسي» وتحولهم إلى ورقة تفاوضية يمكن أن تستخدمها إيران، لكن هذا سياق سياسي وليس دينيا، وتديين الصراعات السياسية في بلد كاليمن قد يوقع المنطقة كلها في كارثة لا تحمد عقباها، لا سيما أن القبيلة رغم كل مساوئها هي الضامن والإطار الاجتماعي الذي يمنع من تكون ميليشيات آيديولوجية؛ لذا نرى حتى «القاعدة» هنا تتلبس الحالة «القبلية»

ما يجري في اليمن، ويحدث في مواقع أخرى، هو استحقاقات ما بعد الربيع العربي، هو شأن سياسي محض لا علاقة له بالإسلام، فضلا عن الإسلاميين، والفرق بينهما كبير، فالسلفيون في اليمن وفي دماج هُجِّروا ولم نر تلك الحماسة في نصرتهم، بل لم يتكلم عنهم أحد قبل الثورة أبدا؛ لأن حزب الإصلاح «الإخواني» كان على وفاق مع جماعة الحوثيين، بل تحالف لإسقاط نظام صالح، من جهة ثانية فإن قبيلة حاشد المستهدفة هي في الأصل قبيلة زيدية وإن كانت فيها عوائل منتسبة للسنة ديانة، ولكنها ما زالت زيدية قبليا، وعليه فإن الصراع هو صراع على السلطة بين أقوى مكونين سياسيين لا يؤمنان بمشروع الدولة حتى إبان وجودها وتوحدها مع علي صالح، الصراع بين الزيدية الصحوية التي تمثل الإسلام السياسي الزيدي، والزيدية القبيلة التي تمثل سلطة العسكر، وبينهما طبعا حزب الإصلاح الذي يشكل التجربة الإخوانية للإسلام السياسي الذي يستثمر أيضا في القبيلة مثله مثل الحوثيين، وليس في بناء الدولة كما تحاول باقي المكونات السياسية دون دعم وكما تعيش باقي المناطق في غياب عن الفعل السياسي بحكم سيطرة الجهوية ومركزية صنعاء، وهذا ما يجهله «دعاة الموت» لأسباب تتصل بأن كل مواقفهم منذ حرب الخليج ليست دعما للإسلام أو الدين كما يقال، بل للإسلام السياسي، ولو تأملنا كثيرا من النزاعات والمظالم التي طالت فئات سنية مسلمة سلفية كما حدث بين حماس والسلفيين، ويحدث في مناطق أخرى كاليمن والسودان وغيرهما، لا نجد إلا الصمت المطبق بدعوى عدم الدخول في الفتنة، لكن حينما يستهدف «الإخوان» بما يمثلونه من شره على السلطة يحضر الدفاع عن الإسلام وهنا الكارثة.



اليمن المهمل





رغم أن اليمن، لأسباب تتصل بطبيعة التراتبية القبلية وعلاقتها بالمكونات السياسية والاجتماعية، يبدو في الظاهر أنه من أقل البلدان تضررا من مرحلة ما بعد «الربيع العربي»، وذلك استنادا إلى طريقة تسليم الرئيس السابق علي صالح للسلطة، وإلى أرقام ضحايا العنف، إضافة إلى عدم تصدر اليمن المشهد الإخباري كما هو الحال في مواقع أخرى، فإن كل ذلك قراءة مغلوطة ومباينة للواقع اليمني، قراءة خدّاعة جعلت من المجتمع الدولي يتناسى أزمة هذا البلد الذي يعيش أزمة تفكك لم تشهدها دولة حديثة من قبل، وليس في هذا أي مبالغة قدر أن اليمن عاد إلى حالة ما قبل الدولة، بالعودة للقبيلة وللهويات الدينية الصغيرة والمناطقية والجهوية، في تأكيد على أن هذه المكونات كانت مندمجة ومتعايشة رغم خصوصيتها التي لم تتخلّ عنها. طبعا المؤشرات على تدهور الحالة اليمنية أبعد من هيمنة «القاعدة» في الجنوب، والتمدد الإيراني عبر تضخم حالة الحوثيين الذين لم يعرفوا «التشيع السياسي» إلا أخيرا؛ بل كانوا أقرب إلى الوجه الآخر من الإحيائية الدينية التي شملت المنطقة، وكانت السلفية رأس الحربة فيها. تدهور اليمن في تفكك مفهومه الرئيس وهويته الأساسية والتعايش الذي كان يصبغ كل هذه الألوان والتفاصيل الصغيرة.

في الأيام السابقة أصدر السلفيون في دماج بيانا مهما، اعترفوا فيه بانهزامهم من المعركة، ووضعوا شروطا محزنة طالبوا فيها السلطات بالانتقال إلى منطقة تهامة في الحديدة، وأن تؤمن الحكومة انتقالهم وتبني مدارسهم التقليدية، بعد أن فقدوا «دماج» منذ أن أسس فيها مقبل الوادعي واحدة من أهم المدارس الحديثية تأثيرا في العالم الإسلامي، في فترة بدايات الصحوة، السلفية المقبلية، وهي حركة إحيائية غير مسيسة وُلدت مع تيار أهل الحديث المعاصر الذي تكون بالتوازي مع نهضة محمد عبده ورشيد رضا، وفجّره ليكون عابرا للبلدان الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني وتلاميذه، وكان أحدهم الراحل مقبل الوادعي مؤسس السلفية العلمية في دماج، والشخصية المثيرة للجدل، حيث ينتسب إلى المذهب الزيدي نسبا، لكنه أحد أكثر الشخصيات في تيار السلفية العلمية صلابة وتزمتا وهجرا للسياسة.



انهيار الدولة





لكن انكشف مفهوم الدولة في اليمن وصعود منطق القبيلة، بعد أن كان علي عبد الله صالح ضابط الإيقاع بين مختلف الأطراف الدينية، بحكم الازدواجية ذاتها التي عاشها الشيخ مقبل، ولأسباب تتصل بأن الوضع بين الزيدية وأهل السنة الشافعية (المدرسة التقليدية المقابلة)، أو حتى بعد ظهور حالة «أهل الحديث» الجديدة نسبيا في بداية الثمانينات بعد رحيل مقبل الوادعي من السعودية، كان وضعا ممتازا على مستوى التعايش الديني تحت مظلة الدولة، وإن كان الجدل العقائدي والفقهي محتدا، وهذا شيء آخر.
ضحايا العنف بين الحوثيين والسلفيين بلغوا المئات، وأصابع الاتهام تطال الطرفين، وإن كان السلفيون قد انحازوا إلى مربع اللاثورة بالانسحاب والخوف من الفتنة وطاعة ولي الأمر، وانحاز الحوثيون إلى الوضعية الجديدة من «التشيع السياسي» الذي جعلهم يشعرون بالتفوق وباستعادة منطقة ظلت تاريخيا حصنا حصينا لهم.
إلا أن ما جهلوه هم والسلفيون أن كسر حالة التعايش هذه سيكون له انعكاسات هائلة على عموم المكونات الاجتماعية في اليمن، التي كانت مرتبطة جهويا ودينيا بأحد هذه المكونات الدينية، مثل ارتباطها بالقبيلة والجهة والمنطقة، وهي محددات للانتماء السياسي في بلد متنوع كاليمن يسير بتهور شديد نحو المزيد من الانقسام والتشرذم في ظل صراع الديكة السياسي، وإهمال كوارث حالة «اللاحسم» تلك.
اليمن بدا تماسكه الظاهر بعد الربيع بسبب أن مفهوم الدولة لم يكن قويا قبله، بل كان أقرب إلى الحكومة المركزية في صنعاء، التي كانت تعكس دور الوساطة لباقي المناطق، عبر بسط نفوذها العسكري والاقتصادي، إضافة إلى ارتباط مشاريع التنمية والمساعدات الدولية بالتحالف والولاء مع حكومة صنعاء، وهي حالة غريبة منذ عهد الإمام يحيى، لم تستطع ثورة الضباط تجاوزها.



تفكك المكونات السياسية





أزمة اليمن الآن في تفكك البنى الأساسية للمكونات السياسية بشقها الديني والقبلي والجهوي، فهناك أزمة الحوثيين والسلفيين بالتزامن مع تغلغل «القاعدة» في الجنوب وبناء ما يشبه الدولة، إضافة إلى رغبة الجنوبيين في الانفصال، وكل ملف من هذه الملفات الملغومة يمكن أن يسهم في تفجير الوضع في بلد الـ60 مليون قطعة سلاح.
لمصلحة اليمن يجب أن يتدخل المجتمع الدولي لوقف صراع الديكة وحالة الشخصنة السياسية، حيث السلطة تبنى على العلاقات الشخصية عبر هيبة الدولة من جهة، المستمدة من التحالف مع سلطات أخرى منفصلة ككيانات مستقلة ومتصلة في الوقت ذاته بما تستمده من منح وامتيازات هائلة من الدولة، بل وحتى من الخارج، على اعتبار قوة تأثيرها في صنع القرار السياسي.
معضلة اليمن في إقامة شرعية سياسية جديدة خارجة عن منطق الصراع بين مراكز القوى، هذه الشرعية تُبنى على أساس المواطنة التي تحققها صيغة توافقية تمثل كل أبناء اليمن من أقصى جنوبه إلى شماله، يتزامن ذلك مع إقامة اقتصاد منتج يقوم على خطط سليمة لمعالجة الفقر والتردي العام في الأوضاع. اليمن بحاجة إلى رؤية إنقاذ سياسية حتى لا تتحول المساعدات الدولية الشحيحة أصلا إلى وقود لمزيد من الحرائق السياسية.

غياب الدولة

اليمن نموذج مصغر ومهم جدا لدراسته باستفاضة لما يمكن أن تكون عليه الأوضاع في ظل غياب مفهوم الدولة الحديثة، وهو ما يجعل المراقبين للحالة اليمنية يتوقعون تحولا ما غير معلوم توقيته أو مداه.
يبدو العنوان لكثير ممن يجهلون تفاصيل الشأن اليمني الغائب عن المشهد السياسي ضربا من المبالغة أو التهويل، لكنه ليس كذلك إذا أخذنا في الاعتبار أن هذا لسان حال بعض الجنوبيين الذين لا يرون في الحضور الإيراني المتصاعد في الجنوب إلا مساهمة في تحريره من ربقة الشمال، وليس اختراقا لسيادة اليمن أو احتلاله سياسيا!
إذن هل ستحتل إيران جنوب اليمن أم ستحرره؟ هذا يعتمد على طريقة فهمنا للتحرير والاحتلال، حيث يمكن إحلال معنى بدل آخر إذا ما علمنا أن «الاحتلال» قد انتهى إلى أشكال وأنماط أخرى كاختراق السيادة وخلق «دولة» داخل الدولة، كما هو الحال في لبنان سابقا، أو من خلال التحالف التبعي القائم على سيادة مذهبية كما هو الحاصل في العراق، وفي شكل ثالث يأتي الاحتلال عبر أشكال اقتصادية يمتزج فيها الطائفي بالتنموي، كما في حالات كثيرة في أفريقيا نجحت إيران في خلق مساحات جديدة أو على الأقل تحييد دول كثيرة تجاه مشروعها السياسي، الذي انتقل من حالة «تصدير الثورة» إلى بناء تحالفات وثيقة متدرجة وعميقة.

[caption id="attachment_55252339" align="alignleft" width="300"]ملصقات مناهضة للحكومة اليمنية داخل  ءمحل تجاري يملكه حوثي في صنعاء ملصقات مناهضة للحكومة اليمنية داخل ءمحل تجاري يملكه حوثي في صنعاء
[/caption]

التقارير الأمنية لوسائل إعلام أجنبية تفيد بأن إيران كانت تسعى لاستغلال الأراضي اليمنية كـ«محطة» لتصنيع صواريخ وأسلحة متنوعة، بحسب تحقيقات مع مجموعة من عناصر 6 «شبكات تجسسية»، تعمل لحساب الجمهورية الإسلامية، ألقت السلطات اليمنية القبض عليهم أخيرا، ويستند التقرير الصحافي الذي أعدته «CNN» إلى تصريح مصادر أمنية تحدثت عن العثور على معدات يمكن إعادة تجميعها لصناعة صواريخ وأسلحة متنوعة، ضمن أدوات لمصنع، جرى التصريح بإقامته من قبل السلطات اليمنية، في وقت سابق ما بعد الثورة، بهدف الاستثمار.
هذه التصريحات سبقتها تحذيرات كثيرة من الرئيس اليمني بضرورة وقف التدخل الإيراني في اليمن، من خلال تجنيد شبكات تجسسية في سبيل إجهاض التسوية السياسية (المبادرة الخليجية)، التي بدأت إيران حملات واسعة عبر وكلائها الجدد، وهم في الغالب معارضون للنظام السابق وجنوبيون وبعض المجموعات الصغيرة من الناشطين والصحافيين، بالتشكيك فيها، وكأنها مؤامرة خليجية أميركية.
اللافت في الأمر أن هذه المجموعات الجديدة لا تنتمي للتشيع بمفهومه الديني بصلة، فهي ليست ذات خلفية زيدية، وإن كنت أعتقد أن التطابق بين الزيدية والاثني عشرية طارئ وسياسي أكثر من كونه مذهبيا، حيث حدثت تحولات عميقة في «المذهب الزيدي» منذ ازدهار الحالة السلفية في اليمن، وتلك قصة أخرى، إلا أن التشيع اليوم هو سياسي محض ومن أشخاص سياسيين يمارسون البراغماتية السياسية على طريقة من يدفع أكثر، وكجزء من الانقلاب على مفهوم «الوحدة» الذي يعيش أكثر أوقاته ضعفا وهشاشة لأسباب موضوعية تتصل بحقبة الرئيس المخلوع، وأيضا لطريقة تعامل اللقاء المشترك والقيادات القبلية في الشمال مع موضوع الجنوب كتركة وإرث سياسي لا يمكن التنازل عنه أو النقاش حوله.

ما قبل 2004، كان الزائر لليمن بمحافظاته ومدنه لا يلحظ أي فوارق مذهبية بين مكونات الشعب اليمن الغنية والثريّة، بالكاد يمكن لباحث متخصص في الإسلاميات أن يلحظ الفوارق بين الشافعية والزيدية والسلفية عبر المواضيع المطروقة، أو بعض التفاصيل الفقهية التي ما كانت تشكل «هوية» فارقة كما هو الحال ما بعد ذلك، لكن آثار الحروب المتكررة مع الحوثيين أعادت إنتاج هويات دينية صغيرة متصارعة، وبالتالي ولد التحالف على أساس «المظلومية» بين إيران والحوثيين ليصل لاحقا إلى الاستتباع والتحالف السياسي الذي يصل للذوبان.
الحضور الإيراني في اليمن كان متدرجا وبطيئا، لكنه أخذ يؤتي أكله وثماره بسبب سياسة الاحتواء الناعم، حيث الدعم اللامحدود للحوثيين، وإقامة مصالح تجارية مع أطراف في الحكومة وبعض القبائل المحتاجة إلى المال، ومن هنا كان هناك ما يشبه التعتيم الإعلامي عن حقيقة التمدد الإيراني وتقديمه على أنه جزء من الاستثمار، إلى أن جاءت لحظة الحقيقة وتصادم النظام السابق مع الحوثيين وانفجر شلال الأسئلة حول طبيعة العلاقة.
لاحقا، خلال الحرب السادسة (6 حروب كفيلة بتجذير الهوية الحوثية وطمس الزيدية المعتدلة) خرج الدعم الإيراني من قمقمه في صعدة لينتقل إلى جبل مران، ثم يتوسع الأمر عبر تحالفات مع فرقاء سياسيين كانوا يريدون إسقاط رأس صالح، ولو بالتحالف مع الشيطان.



علاقات جنوبية مريبة





التوسع الحوثي قابله توسع إيراني امتد للجنوب، عبر مد اليد إلى قيادات سياسية غائبة عن المشهد السياسي، وبقايا الحقبة الشيوعية، لبعثها من جديد، عبر «المظلومية» التي تنتج هويات جديدة، وهو الأمر الآن الذي يتداوله الجنوبيون دون تمحيص، ولسان حالهم أن الانفكاك عن إرث الشمال لا يمكن إلا عبر القفز على المبادرة الخليجية التي حرصت على يمن موحّد متساوي الحقوق، لكن تطبيق ذلك لا يضمن إلا عودة الأمر السابق في حال استمرار حالة الاحتراب السياسي بين الأقوياء في صنعاء القبيلة وبقايا صالح و«اللقاء المشترك».
هناك أدوار أفريقية أيضا ساهمت في فرش السجادة الحمراء لإيران، خاصة بعد سيطرة الحوثيين على ميناء ميدي. كثير من التقارير تتحدث عن تسهيلات تقدم من دول أفريقيا، على رأسها إريتريا، للسفن الإيرانية، ليجري التوسع لاحقا من قبل الحوثيين، في ظل انهيار الحالة السياسية في صنعاء إلى منطقة حجّة، بالطبع توسّع كهذا ما كان ليسمح به صالح وأنصاره، لولا أنهم يريدون كشف هشاشة الثورة على أمل أن يحضروا مجددا كبديل للفزاعة الإيرانية، لكن بعد فوات الأوان.
والحال أن هناك حديثا أكثر تشاؤما عن إمكانية انقلاب بعض الشخصيات السياسية ذات العيار الثقيل على مشروع الثورة، عبر التحالف مع الحوثيين وإيران، بهدف إحراج المبادرة الخليجية والمجتمع الدولي.
بعيدا عن التجاذب السياسي، هناك عمل اجتماعي وثقافي على الأرض لا يقل فاعلية، وهو أمر لا ترصده عادة التقارير الصحافية المشدودة للمتغيرات السياسية. هناك ابتعاث على أشده لإكمال الدراسات الدينية وبعض التخصصات الأخرى في إيران، وهو يحظى بدخول مجموعات «سنية» من الشباب ممن يرون في ذلك فرصة للخروج من مأزق «الحال الواقف» في اليمن.



أميركا الغائبة





انتشر شعار «الموت لأميركا وإسرائيل» على جدران صنعاء، وبات يتكاثر بطريقة أقرب إلى ملصقات الدعايات الانتخابية، لكن أميركا غائبة عن الحالة اليمنية في منطقها الشامل، لتهتم بإعادة تسليح الجيش والتدريب على ملاحقة «القاعدة» في الجنوب، هذه الصراع الثنائي والمباشر، من شأنه أن يقوي «مظلومية» الجنوبيين الذين يشددون على أن «القاعدة» حالة طارئة ونابتة، وهي وإن كانت ليست كذلك، فإن التركيز عليها وإهمال إقامة علاقات قوية مع كل أطياف المعادلة السياسية في اليمن، من شأنه أن يحوّل المتضررين من إهمال المجتمع الدولي إلى وقود سياسي لحرب أهلية طائفية بدأت بوادرها منذ حالة التصعيد، خلال الأيام الماضية، بين حركة الإصلاح وتيار «أنصار الله»، الذي يمثل الحوثيين، والذي يرفض حتى الآن، متكئا على قوته واستقلاله في مناطقه، إلى أن يتحول إلى حزب سياسي ولاعب فاعل في المشهد السياسي الجديد.



هل خسر الخليج اليمن؟





من يتابع التطور التصاعدي للحالة الإيرانية في اليمن عبر وكلائها بالمطابقة (الحوثيين) أو عملائها بالمصلحة، وهم بعض القادة السياسيين في الجنوب والشمال، يدرك أن خسارة اليمن بتركيبته الحالية ووحدته السابقة واستقراره المأمول ضرب من الأحلام الوردية والتفاؤل الساذج، والقول إن هذا التشظي السياسي في اليمن هو ضريبة «الحرية» والتعددية السياسية التي هي من تباشير «زمن الثورات» مثل تبرير يوسف الفيشي (أبو مالك) عضو المكتب السياسي لـ«أنصار الله»، الذي قال عن انتشار اللافتات المعادية لأميركا في قلب صنعاء، بعد أن كانت محصورة في صعدة ومناطق الحوثيين، إنها تأتي «في إطار حرية التعبير»، وهو إذ قال إنه يفخر بتجربة «حزب الله» في لبنان، نبّه في إشارة رمزية إلى أن عدم «تهديد إسرائيل» (مبرر وجود «حزب الله») لا ينفي أن أميركا موجودة! آه، لكي لا أنسى، في النهاية، أكد الشيخ أبو مالك على «ضرورة الحوار»!

دمج المكونات السياسية هو الحل في اليمن، الحديث عن تذويب القبيلة ومنطقها أمر يبدو أقرب للمستحيل، لكن يمكن ربط هذه المكونات بصنعاء من خلال سلة من الحوافز السياسية والاقتصادية، كما يمكن دمج عناصر القبائل في الجيش لاحقا وبشكل تدريجي، والاستفادة منها كجدار صلد أمام قوة «القاعدة» المتنامية.
الوضع في اليمن متأزم جدا، وليس في هذا أي تشاؤم، هناك كثير من المعلومات المرعبة حول توافد مقاتلين من الصومال، ومن حدود وأطراف اليمن، ومن الخارج، للتمركز في الجنوب، كما أن الأموال الإيرانية المتدفقة على مناطق الحوثيين مكّنتهم من شراء ولاءات لمنظمات ومجموعات من النخب السياسية اليمنية التي تريد الانتقام من نظام صالح، عبر إفشال المبادرة وما تلاها، وبين هذا وذاك ثمة تراجعات حادة على المستوى المعيشي للفرد اليمني، وهو ما يجب أن يجعلنا نقلق أكثر مما يجب.

[caption id="attachment_55252340" align="alignright" width="300"]مسيرة مؤيدة للحوثيين مسيرة مؤيدة للحوثيين[/caption]

لقد كان صالح رجل التفاصيل الصغيرة في الداخل، حيث أطلق رجال عائلته والمقربين منه لإحكام القبضة الأمنية والاقتصادية، وحتى العلاقات بين الفرقاء، كما كان رجل الشعارات الكبيرة في الخارج، حيث التلويح والضغط بكارت «القاعدة» للغرب والدول المجاورة، وبث القلق حول انفجار الأوضاع بسبب ما آلت إليه الحالة اليمنية اقتصاديا، حيث استطاع أن يتنصل من مسؤولية الدولة ليجعل المجتمع الدولي يشعر بتأنيب الضمير السياسي تجاه تقصيره في اليمن، الذي بات أكثر خطرا وتهديدا مع هجرة «القاعدة» إليه، وأكثر استقطابا للتحالفات السياسية بعد دخول المحور الإيراني له عبر بوابة الحوثيين العريضة والغامضة.
ومن الجدير بالذكر أن المحور الإيراني بدأ يتخطى ارتكازه على الحوثيين في اليمن لينتقل إلى مجموعات وأطياف من المعارضة النخبوية التي تضم لفيفا غير مؤثر من الصحافيين والناشطين ذوي الميول اليسارية والناصرية، الذين استطاع صالح باقتدار تهميشهم، بل وجعل الشارع الثائر يلفظهم.

أزعم أن دهاء صالح السياسي مكنه حتى من التحكم في إيقاع الثورة، وإن كان خطؤه الاستراتيجي ارتباكه في تقديره حجم أنصاره، وقدرة الغضب السياسي في الشارع على التحول إلى براكين مشتعلة متى ما سال الدم، وإن كان الأكيد أن جزءا من تصاعد الثورة اليمنية كان منوطا بالخارج، وسرعة المبادرة الخليجية ودقتها، ووحدة النسيج اليمني بسبب رافعة القبيلة حتى بين «الإصلاح» و«اللقاء المشترك» والقبائل؛ إضافة إلى الارتدادات «المعنوية» لباقي الثورات على اليمن.
من رئيس مثور عليه، إلى مستهدف بالتفجير، إلى رئيس مؤقت، إلى معزول، إلى حاضر نظاما ومؤسسة، وغائب شخصا، تبدو سيرة الرجل السياسية بحاجة إلى دراسة أوسع، لا سيما أن «حفلة» الأمس رغم رومانسيتها الرمزية فإنها لحظة استحقاقات كبرى لليمن الجديد، بدأت تطلق صافرات الإنذار لدول الجوار، وعلى رأسها بالطبع السعودية المعنية بشكل جوهري وأساسي باليمن. فمسلسل التفجيرات القاعدية الشهير بدأ، والرغبة في الانفصال بدت أكثر من ذي قبل لدى الجنوبيين، وحتى الشارع اليمني بدأ يشعر بأن غنائم ثورته لم تطله أبدا.
في كلمته، قال عبد ربه منصور هادي، الرئيس الجديد: «كل ما أتمناه أن أقف بعد عامين في مكان علي عبد الله صالح، وأن يقف الرئيس الجديد في مكاني، وكل طرف يودع الثاني، وهذه سنة الحياة في التغيير».

التركيز على الرئيس القادم والتمحور حوله هو مطلب الجميع، لكنه ليس ما سيعيد عافية اليمن، فالاستحقاقات الأمنية والاقتصادية والوحدة أهم بكثير من أي تغييرات شكلية، نحن نعلم أنها لم تطل ولن تطال الجيش، وإن كانت هناك عمليات تنظيف واسعة لمرافق الدولة تشبه إلى حد ما طريقة «الطلاق الإيجابي» الذي حدث مع الرئيس.

هذا الطلاق الإيجابي تصر المعارضة على تصويره خلعا، وتمضي في المطالبة بضرورة هيكلة القوات المسلحة وإقصاء عائلة صالح عن الجيش والأمن، وكما جاء على لسان أحد أقطاب المعارضة: «لقد انتخبنا هادي ليكون رئيس اليمن لا موظفا عند علي عبد الله صالح».
أعتقد أن ثمة مغالطات كبيرة في فهم طبيعة علاقة الرئيس بالمكونات السياسية للمجتمع اليمني، وهو أمر يكاد ينفرد به اليمن دون غيره، وهو ما تحدثت عنه في مقال سابق عن مفهوم الشكلانية السياسية في اليمن، وأنها قائمة على «قبلنة» الدولة الحديثة أكثر من تمدين القبلية، وهو نموذج إلى حد كبير يشبه مشروع الأسلمة الذي تتبناه جماعات الإسلام السياسي، وإن كان بشكل أكثر انفصالا عن أي رؤى آيديولوجية ضيقة.
من جهة ثانية، فإن بقاء عائلة الرئيس، وهو شكل من أشكال بقاء الرئيس نفسه، بات مطلبا أميركيا بالدرجة الأولى، بعد أن شكلت تهديدات عودة «القاعدة» إلى المشهد جدية أكبر خلال الأسابيع الماضية، والأمر مرشح للتصعيد متى استطاعت «القاعدة» تنفيذ ضرباتها وخلق الفوضى من جديد.

الرؤية الأميركية الجديدة لليمن تتلخص في إيجاد خطط طويلة المدى لإعادة تأهيل المؤسسات العسكرية بطريقة تمكنها من التصدي لـ«القاعدة»، وهي خطط تذكرنا بأخطاء الأميركيين في أفغانستان، وذلك بالتركيز على الأمن وإغفال مسببات انفجار الأوضاع، وهي اقتصادية بامتياز في اليمن، كما أن مغامرة الأميركيين بإرسال فرق عسكرية صغيرة لإنفاذ ضربات لـ«القاعدة»، أو حتى نشر طائرات من دون طيار، ستؤدي إلى نتائج كارثية، بل ستسهم في خلق شرعية جديدة لـ«القاعدة»، بينما تحسين الأوضاع، وهو الحل الأصعب والأطول، سيجعل اليمنيين بفعل ميكانيزم الشرعية القبلية يطردون «القاعدة» بأنفسهم.
صحيح أن الحل ليس بهذا التبسيط، لكن «القاعدة» في اليمن كيان تجري تغذيته من الداخل والخارج للعب به أكثر من إحداث تغييرات شاملة أو تأسيس دولة خلافة وإمارة إسلامية على طريقة العراق وأفغانستان.


أين أصدقاء اليمن؟




أصدقاء اليمن الحقيقيون اليوم هم من أخرجوا البلاد من مأزق الانهيار بفعل الثورة، ورغم كل ما قيل عن المبادرة الخليجية فإنها كانت ضمانة سياسية واقعية، أفرزت هذا الوضع الذي يعد الأكثر نجاحا على مستوى الثورات، لكن اليمن اليوم بحاجة إلى أصدقائه أكثر مما مضى، فالثورات يمكن أن تولد من جديد بسبب ضغط السلطة المركزية ووقوف البلد على الحافة اقتصاديا، هذا إذا ما تجاهلنا التضخم الحوثي في منطقته والمعزز بتحالفات جديدة مع اليسار الثائر على هوية الثورة الإصلاحية، إضافة إلى ارتباك الجنوب بين تطلعاته للمرحلة الجديدة وانقسامه كمكون سياسي بين هويتين، الأولى انفصالية تعيش على أحلام الماضي، لكنها لا تملك مشروعا سياسيا واضحا ومحددا، والثانية تخص مجموعات قتالية أوسع من أن تصنف كـ«قاعدة» تريد أن تسيطر على مناطقها الخاصة وتقيم فيها ما يشبه الاستقلال أو حتى الارتباط غير المركزي بصنعاء.
وكما أسهمت المبادرة الخليجية في إعادة الدور الاستراتيجي لدول الجوار في اليمن بعد سنوات من القطيعة والارتباك وسوء الفهم، كان أبرز ما فيها استثمار النظام السابق للأزمات لتثبيت وضعيته بوصفه ضامنا وحيدا لاستقرار اليمن، فإن الأهم الآن هو إطلاق حزمة من المبادرات الاقتصادية والمشاريع التنموية لانتشال اليمن من الحافة.

في التجربة اليمنية للثورة الكثير من الدروس والعبر بالمعنى السياسي في علاقة الديني بالسياسي بالقبلي، وعن بلد مسلح بما يزيد على 60 مليون قطعة سلاح، لكنه الأكثر سلمية وتماسكا في ضبط ردود فعله. قديما كان المهاجرون اليمنيون يهددون أبناءهم بتهجيرهم لمقاربة شظف العيش والرجولة والمسؤولية بقولهم: «من لم يعلمه الزمن يعلمه اليمن».
ظل مفهوم «السلطة» في اليمن في مرحلة الرئيس علي عبد الله صالح لغزا محيرا؛ حيث شكل الدولة الحديثة ببناها الرئيسة، من دستور وأحزاب ومعارضة، في مقابل مضامين سلطوية لا تنتمي إلى واقع السياسة كما يجري تداولها بالمعنى المعاصر، حيث تكرس مفهوم الشخصنة السياسية بوصفه حالة فرادة يمنية، فالسلطة تبنى على العلاقات الشخصية عبر هيبة الدولة من جهة، المستمدة بالتحالف مع سلطات أخرى منفصلة ككيانات مستقلة، ومتصلة في الوقت ذاته بما تستمده من منح وامتيازات هائلة من الدولة، بل وحتى من الخارج على اعتبار قوة تأثيرها في صنع القرار السياسي.

معادلة الشيخ والرئيس اليمنية كانت تقوم على مراعاة كل جانب لخصوصيات الطرف الآخر، فللحزب الحاكم حقه في طرح رؤيته عبر أشكال وأنماط مدنية حديثة، إلا أنها لا يمكن أن تصطدم بمكون القبيلة الأساسي المبني على نظام المشيخة القائم على الولاء المطلق، ولو على حساب مفهوم المواطنة الذي يقتضي في أبسط أشكاله وصوره عدم التمييز بين أفراد المجتمع على أسس عشائرية، ومن هنا تحولت شبكة العلاقات بين السلطة والمناطق المركزية التي توجد فيها تكتلات قبلية على أساس المحاصصة السياسية والاقتصادية وحتى مراعاة الخصوصية لمنطق القبيلة الاجتماعي حتى في أبسط الأمور، كتعارض مسائل الأخذ بالثأر وتعقب الجناة مع مسألة مبدئية كسيادة القانون، فالهبات تتدفق من السلطة إلى مركزية القبيلة بحسب ما تمثله تلك القوى من أوراق ضغط، وقل مثل ذلك في المشاريع التنموية والتعيينات للوظائف الحكومية، ومن هنا يمكن فهم آلية تبادل مراكز القوى في بلد مسلح كاليمن، وفي أوضاع ثورية كهذه، دون أن تسجل حالات تمرد مسلحة أو حوادث بلطجة نوعية ومتكررة؛ لأن الضامن لانفجار كهذا هو مدى انكسار التوازن الذي تمثله القبيلة مع السلطة، حيث العلاقة القائمة على تبادلية نفعية لحفظ النسق العام للدولة.


تداخل الجغرافيا بالتاريخ




الحديث عن اليمن شائك ومربك جدا، فعوامل الجغرافيا تتداخل بالتاريخ، وحالة الفوضى المرشحة في اليمن منذ عقود ليست إلا جزءا من ارتباك «الهوية» الحديثة بمعناها السياسي والاجتماعي، ورافده الديني في اليمن المعاصر، يضاف إلى ذلك كم هائل من الجهل بالتفاصيل اليمنية من قبل الباحثين والمحللين ومراكز الأبحاث، وأثره على الواقع، فهذا البلد المستعصي على الفهم بسبب حالة الغياب والتغييب التي عاشها بوصفها جزءا من ذلك الارتباك الكبير، يقف الآن على شفير الانفجار ليعيد تشكيل نفسه من جديد وبتسارع لا يمكن التنبؤ بمداه أو آثاره، فالوضع في اليمن قد تجاوز بخطره مسألة رحيل الرئيس علي صالح.

إذا كان من عبارة يمكن أن توجز الحالة اليمنية فهي أنه بلد قائم على إدارة التناقضات، بحيث أصبحت جزءا من اللعبة السياسية التي مارسها نظام الرئيس صالح بجدارة كما المعارضة والقوى الكبرى وعلى رأسها القبيلة بطابعها اليمني الخاص، حيث لا يشبهها سياق قبلي آخر في المنطقة، تلك التي شكلت، ولا تزال، البنية الأساسية، أو بتعبير آخر: المادة الخام للتناقضات التي يجري تشكيلها من قبل الداخل والخارج.
أبرز هذه التناقضات، إذا جاز لنا انتزاع مصطلح فلسفي، هو «الشكلانية»، وهو هنا مستعار لسياق سياسي واجتماعي؛ حيث بنية الدولة قائمة على شكل حديث كجمهورية ديمقراطية فيها أحزاب فاعلة، وبرامج انتخابية، ومعارضة قوية، وتحالفات بين قوى معارضة بكل أجنحتها من أقصى اليمين الإسلامي إلى أقصى اليسار الاشتراكي، الذي كان، إلى عهد قريب، دولة مستقلة، وما زال يفكر، حتى بعد الوحدة، بمنطق الحزب الدولة؛ حتى في ظل انحسار قاعدته الشعبية بسبب بقاء إرثه الكبير وذاكرته الجمعية.

الشكلانية على مستوى الدولة في اليمن تتجاوز هيكل الدولة، كما في تجارب عربية أخرى، إلى حدودها ومنطقها الداخلي، فهي أقرب ما تكون إلى سلطة مركزية مطلقة قائمة على إدارة التحالفات القبلية التي صبغت وجه الحياة السياسية والاجتماعية، فتراتبية الاقتراب من السلطة قائمة على مدى قوة القبيلة وتمددها داخل الحزب الحاكم وداخل قوى المعارضة كالإصلاح، وداخل النسيج الاجتماعي ومدى قدرتها على الاستقلال الجغرافي بحيث تتحول إلى ورقة ضغط على العاصمة صنعاء، الممثل السياسي للإدارة المركزية، بحيث تصبح باقي المحافظات غير المدنية كتعز، أو المهمشة كالساحل، أو شبه المستقلة كالجنوب، مجرد انعكاسات للعبة التحالف تلك، وهذا لا يعني أن تسيير الأمور على مستوى الاقتصاد والحياة اليومية لا يخضع لمنطق الدولة المدني، إلا أنه مندمج في منطق القبيلة المتحالفة مع المركز؛ وهذا ما يفسر سهولة استقلال مناطق القبائل بحكم تسلحها بما يشبه الدولة داخل الدولة بمعناه الحرفي متى ما ضعف التحالف، بل وقطع إمدادات النفط أو اختطاف السياح وجعلهم أوراق ضغط على القرار السياسي، وهو ما يجعل ثورة اليمن، رغم سلميتها وصبرها الطويل، لا تشكل سوى أداة جديدة لدخول سوق التحالفات السياسية؛ حيث لا مستقبل لها في ظل الرغبة في إسقاط النظام الذي لا يعدو أن يكون دولة شكلانية موجودة في الأذهان وليس الأعيان، كما يقول أهل المنطق، وهو ما يفسر سيطرة الإصلاح عليها الذي لا يعني، كما يخطئ كثيرون، سيطرة «الإخوان» الجماعة الأم بالضرورة، رغم أن الإصلاح هو امتداد لحركة «الإخوان» تاريخيا، إلا أنه في ظل تناقضات وارتباك الهوية الحديثة لليمن تحول إلى شكل جديد من الإسلاموية القبلية؛ إذا ما أخذنا في الاعتبار أن حركات الإسلام السياسي، وأمها جماعة الإخوان، قامت على شكل حديث ومدني من التشكل الاجتماعي، وهو مناقض للمحافظة القبلية التي في كل تجلياتها العربية تقريبا محايثة للخطاب السلفي غير المسيس، وهو ما جعل جزءا من تناقض الحالة اليمنية انحياز التيارات السلفية إلى سلطة الرئيس علي عبد الله صالح طوال العقود الماضية رغم ممارسته للشكلانية الديمقراطية المرفوضة لدى المدرسة السلفية، التي كانت في الانتخابات التعددية تفتي بوجوب بيعة «الأخ الرئيس» باعتباره ولي الأمر الذي لا يجوز الخروج عليه، يقابله انفتاح تيار الإصلاح على التعاطي السياسي المتجاوز، حتى لـ«إخوان» مصر والمغرب، بتحالفه مع الحزب الاشتراكي في تجسيد للشكلانية التعددية رغم أن قوة الإصلاح مستندة بشكل كلي إلى قوة القبيلة، قبيلة حاشد بزعامة عائلة الأحمر، حيث يشكل الحزب بمؤسساته وطريقة إدارته لعمله الاجتماعي ما يشبه الدولة على غرار «حزب الله»؛ لو استثنينا الجانب العسكري.


[blockquote]

مناطق انتشار الحوثيين




صنعاء

سنة ونصف السنة من الحصار لكوادر وأنصار «حزب الله» والمتعاطفين مع شعارات الحوثيين، لا سيما خفض أسعار مشتقات البترول، أقيمت المخيمات في أحياء استراتيجية في قلب وأطراف العاصمة مثل الحصبة، الصباحة، حزيز، كما تعرف عددا من المناطق الأخرى الخاضعة لسيطرة حزب المؤتمر الشعبي وأنصار النظام السابق ذات الحصار بالخيام المدعومة بالكامل.

آزال
إقليم آزال تشكل حديثا في التقسيم الفيدرالي الجديد في اليمن على أساس جغرافي مذهبي في المناطق التي يشكل فيها الزيدية أغلبية ساحقة مثل: صعدة، عمران، ذمار.

صعدة
أصبحت منطقة تابعة للحوثيين بالكامل بعد الحرب على السلفيين وإزالة أهم مدرسة للإحيائية السلفية «دار الحديث الشريف في دماج» من أتباع أهل الحديث، المدرسة التي أسسها الراحل مقبل الوادعي أحد أهم رموز السلفية المعاصرة.

الجوف
يسيطر الحوثيون على منطقة الجوف بعد معارك ضارية مع الجيش المدعوم من اللجان الشعبية.

ما زال حزب الرئيس السابق المؤتمر الشعبي يكتسح محافظة عمران، وقد انتشر فيها الحوثيون بتحالف بينهم وبين النظام السابق للالتفاف على تعاظم دور آل الأحمر بعد الثورة.

باقي المدن
المدن ذات الأكثرية السنية من أتباع المذهب الشافعي والمناطق السلفية يحضر فيها الحوثيون ولكن بشكل سياسي، مكونين تحالفات مصلحية براغماتية مع المناوئين للسلطة.
[/blockquote]

font change