اهالي الضحايا[/caption]
«10 آلاف دينار لمن يرشد عن مكان مصري مسيحي». هذه عبارة كتبها متطرفون في ليبيا على جدران مبان بمدينة سرت وجدران بعض الضواحي في بنغازي.. وفي درنة التي شهدت أول إعلان لتأييد «داعش» على البحر المتوسط.
رغم وجود عشرات الألوف من المصريين المسلمين والمسيحيين يعملون في هذا البلد الذي يشهد فوضى واقتتالا داخليا، فإن عدد من جرى الإرشاد عنهم للحصول على ذلك المبلغ الذي يزيد قليلا على ستة آلاف دولار، لم يزد على 30 شخصا خلال الأشهر الخمسة الأخيرة.
ويقول صلاح الدين عبد الكريم، المستشار القانوني للجيش الليبي لـ«المجلة» إن المصريين والليبيين أشقاء بغض النظر عن أي شيء آخر. لا يمكن لليبي أن يتاجر في حياة المصري، باستثناء المتطرفين الذين يعيثون في الأرض فسادا ويقتلون الجميع، مستنكرا ذبح «داعش» للمصريين الواحد والعشرين قبل أسبوعين، ويضيف أن التفجيرات التي شهدتها مدينة القبة الأسبوع الماضي، ونفذها تنظيم «داعش» أيضا، اختلطت فيها دماء الليبيين مع المصريين.
هزت عملية الذبح الوحشية الرأي العام المصري والليبي. يقول السفير عاشور أبو راشد، مندوب ليبيا لدى الجامعة العربية، إن الأمر أصبح يتطلب تكاتفا عربيا لمواجهة هذه الهجمة، لأن الإرهاب إذا نجح في ليبيا فسيواصل طريقه إلى دول أخرى ولن يستثني أحدا. وقدم في حديث مع مجلة «المجلة» تعازيه في الضحايا المصريين والليبيين الذي سقطوا على يد «داعش» في سرت وفي القبة، وجاءت التعزية تحت عنوان يلخص كثيرا من المعاني: «الصمت المريب للمجتمع الدولي تجاه الأزمة الليبية».
منذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بدأت «المجلة» جولة على مراحل في الداخل الليبي، ولوحظ ازدياد صعوبة الحركة بين المدن وعلى الطرق السريعة بسبب عنف المواجهات بين ميليشيات المتطرفين والجيش الشرعي الذي يقوده اللواء خليفة حفتر.
على شبكة الطرق الطويلة التي يصعب تأمينها تنصب ميليشيات المتطرفين واللصوص الحواجز لتوقيف المسافرين وقتل الخصوم وسرقة الأموال والممتلكات.. وما دمت أعزل من السلاح، فلن يساعدك أحد.
في سوق مدينة طبرق تجد مع كل طلعة شمس عشرات المصريين ممن عبروا الحدود وجاءوا إلى هنا، حيث أول محطة لنقل العمال إلى باقي المدن الليبية. ومع ذلك، كما يقول محمد زينهم، وهو صاحب مطعم مصري في هذه المدينة التي تبعد عن الحدود المصرية بنحو 150 كيلومترا فقط: «نحن نطمئن لإخوتنا الليبيين. هم أهلنا.. كلنا هنا ضد المتطرفين».
وعلى عكس المدن التي تسيطر عليها الميليشيات المسلحة، توجد على جدران المدارس والمصالح الحكومية في «طبرق» و«البيضاء» و«شحات» و«كمبوت»، وباقي مدن الشرق، شعارات بالألوان السوداء والحمراء والبيضاء تدعو الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للتدخل من أجل محاربة المتشددين بعد أن زاد نفوذهم وأصبحوا يهددون مستقبل الدولة الليبية.
لغز «أبو سعد» وبوابة «قاريونس»
كيف تمكن تنظيم «داعش» من اصطياد المصريين المسيحيين الذين ذبحهم فيما بعد على أحد الشواطئ الليبية.. كانوا 20 مصريا وسودانيا واحدا. العملية جرت على مرحلتين؛ الأولى القبض على 7 مصريين مسيحيين، والمرحلة الثانية القبض على 13 آخرين.. لا توجد تفاصيل عن الطريقة التي جرى بها اقتناص الرجل السوداني ببشرته السوداء الذي ظهر وسط المصريين أثناء اقتيادهم للنحر أمام ساحل أزرق مهجور.
تقول معلومات من مصادر في بنغازي، عن عملية التوقيف الأولى، إن بوابة يسيطر عليها عناصر من تنظيم «أنصار الشريعة»، واسمها «نقطة قاريونس»، تقع على الطريق بين بنغازي وإجدابيا، هي من رصدت سيارة الأجرة.. السيارة كانت قادمة أساسا من طبرق متوجهة إلى سرت عبر المحور الجنوبي لبنغازي. ومن بين العناصر الخمسة التي تقف في البوابة، متطرف مصري يكني «أبو سعد»، وكان ينتمي في السابق لجماعة الإخوان المسلمين بمصر.
تنظيم «أنصار الشريعة» في ليبيا ظهر أصلا قبل سنتين، حين انسلخ عن كتيبة يترأسها مجموعة من المتشددين، اسمها «كتيبة راف الله السحاتي». وهذه الكتيبة الأخيرة سبق أن انشقت أيضا عن كتيبة أسسها «إخوان ليبيا» أثناء الانتفاضة المسلحة ضد حكم معمر القذافي، واسمها «كتيبة 17 فبراير».
أصبحت «أنصار الشريعة» وغيرها من جماعات متطرفة، تعمل بالتنسيق مع قادة في «الإخوان» الذين كانوا يحكمون ليبيا في عامي 2012 و2013. وبعد خسارة الجماعة وأنصارها للانتخابات النيابية، وتضييق الجيش الخناق على المتشددين، أعلن فرع «أنصار الشريعة» في درنة الواقعة على بعد نحو 300 كيلومترا إلى الغرب من الحدود المصرية، موالاته لـ«داعش» أواخر العام الماضي. بدأ التنظيم، منذ ذلك الوقت، في استقطاب مجموعات أخرى من المتطرفين لرفع رايته، من بينها مجموعة سرت التي قامت بذبح المصريين المسيحيين.
في ما يتعلق بتفاصيل الواقعة.. حصل التنظيم أولا على أسماء المصريين السبعة من بوابة «قاريونس»، ولا أحد يعرف إن كانت عناصر البوابة قد تقاضت مبالغ مالية أم إنها تعمل أساسا مع هذا التنظيم الذي كان قد بدأ ينتشر غربا، حيث سبق أن نفذ عملية ذبح لطبيب مصري وأسرته في سرت نفسها، وقام أيضا بعملية إرهابية في فندق بالعاصمة طرابلس.
[caption id="attachment_55252957" align="alignleft" width="300"]
شيخ الازهر وبابا الاقباط [/caption]
تضيف معلومات استقتها «المجلة» من مصادر مختلفة من بينهم رجال أمن ليبيون وشخصيات من زملاء المختطفين وعدد من ذويهم، أن عناصر من «داعش» حصلوا من «بوابة قاريونس» على تفاصيل الرحلة، وأن «أبو سعد» المصري هو من اكتشف أنهم مسيحيون وعدهم صيدا ثمينا، وقام على الفور بالإبلاغ بخط سير الضحايا دون أن يدروا أن أيامهم في الدنيا أصبحت معدودة.
وعليه انتظر الدواعش سيارة المصريين في كمين نصبوه لهم في منطقة صحراوية مهجورة على الطريق السريع، أي قبل مدخل مدينة سرت بنحو 50 كيلومترا.
وجرت العملية الثانية لاختطاف باقي المصريين وعددهم 13، قبيل الفجر في الغرف التي كانوا يستأجرونها ضمن مجمع سكني في مدينة سرت يقيم فيه مسلمون ومسيحيون. تشير المصادر إلى أن أيا من أبناء سرت، أو المصريين المسلمين، لم يتورط في الإبلاغ عن المصريين المسيحيين، لأنهم كانوا يعملون لدى عائلات بالمدينة لديها موقف رافض لحكم المتطرفين أو وجودهم في سرت مسقط رأس القذافي ومكان مقتله في خريف 2011.
يقول مينا عادل، أحد أقارب الضحايا: «عملت من قبل في سرت، في سلام.. أنا مسيحي، والعائلة الليبية التي كنت أقوم ببناء بيت لها في جنوب المدينة من قبيلة (فرجان).. قبيلة مسلمة ككل القبائل الليبية. كانوا يعاملونني مثل أي ليبي ومثل أي مسلم، رغم وجود إعلانات على الجدران تطالب بالوشاية عنا مقابل أموال.. ما بين 5 آلاف و15 ألف دينار للرأس الواحدة. كنت أشعر أنني في حماية أهلي وكنت مطمئنا، إلى أن رجعت إلى مصر لزيارة أسرتي. حين علمت بخبر المذبحة قلت إنهم ليسوا ليبيين وليسوا من أهل سرت. أعتقد أن هؤلاء القتلة الذين يخفون وجوههم أعداء لليبيين والمصريين أيضا».
لماذا المسيحيون المصريون؟ في الحقيقة المذابح طالت كذلك ليبيين من المسلمين الذي قادهم حظهم العاثر لتقاطعات الطرق التي يسيطر عليها المتطرفون. جرى إعدام مصريين مسلمين في ملعب الكرة في وسط درنة أواخر العام الماضي على يد «أنصار الشريعة» قبل أن تتحول إلى «داعش». كما نفذ المتطرفون عمليات اغتيال بالمتفجرات والسيارات المفخخة والقنص بحق رجال جيش وشرطة وسياسيين وإعلاميين في عموم ليبيا.
فتنة إخوانية بحجة موقف بابا الأقباط
نغمة استهداف المسيحيين، كما يقول محمد زعلوك، الناشط الحقوقي في بنغازي، اقترنت أساسا بخسارة الإخوان في مصر الحكم، وإشاعة جماعة الإخوان في كل من مصر وليبيا أن البابا تواضروس بابا الأقباط المصريين كان على رأس الداعمين لخارطة الطريق التي أعلنها رئيس مصر عبد الفتاح السيسي حين كان وزيرا للدفاع.
يضيف زعلوك قائلا لـ«المجلة» إن «هذه عملية خبيثة لبث الكراهية ضد قطاع من المصريين، رغم أن الملايين من الشعب، مسلمين ومسيحيين، خرجوا في الشوارع والميادين ليعلنوا رفضهم لحكم الإخوان كما رأينا على شاشات التلفزيون يوم 30 يونيو (حزيران) 2013. ولا تنس أن شيخ الأزهر وأحزابا كثيرة أعلنت تأييدها لتحرك الجيش وقتها لحماية الثورة والدولة من خطر الفوضى».
تقول مصادر أمنية ليبية إن المئات من عناصر جماعة الإخوان ومتطرفين مصريين آخرين فروا عقب ثورة يونيو إلى ليبيا، وانخرطوا في صفوف الميليشيات في درنة وبنغازي وسرت وطرابلس وغيرها. لا تستبعد هذه المصادر أن يكون من بين هؤلاء المتطرفين جواسيس، مثل «أبو سعد»، يشون بأبناء وطنهم الذين يعملون في ليبيا، ويفتحون الطريق أمام الميليشيات لتنفيذ عمليات قتل ضدهم انتقاما من حكام مصر الجدد.
قوات قبلية ألقت القبض على 6 من دواعش درنة أواخر العام الماضي وكان من بينهم اثنان من المتطرفين المصريين.. جرى تسليمهم للجيش الليبي الذي اضطر لمبادلتهم بعشرات من أبناء طبرق ممن كانوا رهائن لدى «داعش» في درنة. كما أن مفجر السيارة المفخخة في مدينة البيضاء قبل 3 أشهر مصري الجنسية.
آخر من جرى القبض عليهم من المصريين المتطرفين رجل يدعى مجدي محرم، عندما قاد سيارة مفخخة لضرب «نقطة الاستيقاف» التابعة للجيش الليبي في بلدة إجدابيا. انفجرت السيارة قبل النقطة وأصيب وجرى إسعافه قبل إحالته إلى التحقيق لدى السلطات المختصة.
[blockquote]
محضر التحقيق:
استجواب «داعشي» مصري
محضر التحقيق مع «محرم»، الذي أجراه عسكريون من السرية المقاتلة لـ«كتيبة الجوارح» شرق ليبيا، يقول إنه يبلغ من العمر 27 عاما، ومن مواليد مركز «إطسا» بمحافظة الفيوم الواقعة جنوب القاهرة، وإنه انضم لـ«داعش» في درنة بعد أن فر إليها متسللا عبر الحدود المصرية - الليبية. أقام في منطقة «المخازن» على أبواب درنة قبل أن يلتحق بالتنظيم المتطرف الذي حول المدينة لإمارة ترفرف عليها الأعلام السوداء.
- قال له المحقق: أين كنت تقيم في درنة؟
- فأجاب: في معسكر داخل مزرعة في جنوب المدينة.
- ومن كان معك؟
- فقال: أنا كنت ضمن مجموعة تتكون من 10 آخرين بينهم مصريون، لكن المعسكر فيه مجموعات أخرى لم نكن نختلط بها.
- ومن المسؤول عنك؟
- أجاب: أبو حبيب الليبي. هو أمير الجماعة والمسؤول عن المعسكر.
- ومن كان يدربكم؟
- فقال: مصري اسمه أبو حمزة كان يدربنا على استخدام السلاح. الأسلحة التي تدربت عليها الكلاشنكوف والـ«آر بي جي»، لكن لم أستكمل التدريب على أعمال التفجير.
- ومن كلفك بالقيام بعملية تفجير نقطة إجدابيا؟
- أجاب: الأمير أعلن عن أنه سيجري تنفيذ عملية ضد الجيش في نقطة إجدابيا.. وأنا كتبت اسمي للقيام بالعملية، لأن النقطة تتبع اللواء خليفة حفتر ومن يقفون فيها يتبعونه، لأن حفتر طاغوت ومن يناصرونه طواغيت.
[/blockquote]
ومما قاله «محرم» أيضا أنه لم يأت من درنة إلى إجدابيا بالسيارة التي نفذ بها العملية، بل إن عناصر «داعش» الذي يعمل معه، هي التي أتت به من درنة عبر طريق بنغازي حتى سلمته لرجل آخر في إجدابيا يدعى «خالد الليبي» في الأربعينات من العمر ومعه السيارة المفخخة. يضيف أنه ركب بجوار خالد حتى وصل إلى مسافة 5 كيلومترات قبل «بوابة الاستيقاف»، وهناك سلمه السيارة ليتولى تفجيرها في البوابة.
وربما لقلة خبرته في تفجير المفخخات لم يتمكن من تنفيذ المهمة على الوجه الأكمل، حيث وقع الانفجار قبل البوابة وأصيب في ذراعه ووجهه. وألقي القبض عليه، وتم إسعافه تمهيدا لمحاكمته.
لم تكن ليبيا تعرف كل هذا العنف خلال مدة حكم القذافي. كان يعمل فيها نحو مليوني مصري. تراجع هذا العدد إلى مئات الألوف.. لكن أعمال التفجيرات والاختطاف ووجود مصريين في أوساط المتطرفين، دفع آلاف العمال للعودة إلى بلادهم، خاصة بعد مجزرة ذبح المصريين في سرت.
مسلمون يحمون المسيحيين من دواعش سرت
كان المصريون السبعة الذين ألقت عناصر «داعش» القبض عليهم أولا، في طريقهم للإقامة في المجمع السكني نفسه الذي يضم عشرات المصريين من المسلمين والمسيحيين في تلك المدينة التي تعرضت لأكبر عملية تخريب بقذائف المدفعية وقصف الطيران أثناء محاصرة القذافي فيها.
يقول مصدر أمني ليبي إنه يبدو أن عناصر «داعش» مارسوا بحق أولئك المصريين السبعة صنوفا من التعذيب لكي يكشفوا لهم عمن يريدون الذهاب إليهم في المجمع السكني. وعليه، وبعد نحو 5 أيام من التنكيل، توجهت سيارات سوداء تحمل شعارات تنظيم «داعش» إلى المجمع الذي هو عبارة عن عمارة من 3 طوابق في قلب المدينة.
كانت الساعة الثانية والنصف فجرا حين سمع ميلاد ناجح، أحد المصريين المسيحيين من سكان المجمع، خبطا على باب الغرفة المجاورة لغرفته.. وصوتا ذا لهجة مصرية يقول آمرا: «افتح يا عاطف».
المجمع السكني هو في الحقيقة مجموعة من الشقق.. تتكون كل شقة من 5 غرف. ويقيم في كل غرفة من 3 إلى 6 من العمال.. يعيشون بعضهم مع بعض دون تفرقة بين من هو مسيحي ومن هو مسلم. يخرجون في الصباح الباكر ويتوزعون على أعمالهم في أرجاء المدينة.. هذا يرص الطوب، وذاك يوصل الكهرباء، وهذا يخلط الإسمنت، وذاك يمد مواسير المياه.. وغيرها من أعمال البناء. في المساء يعودون مع لسعات برد الشتاء ليريحوا أبدانهم من يوم عمل شاق.
يقول ميلاد ناجح، وهو مسيحي ونجا بأعجوبة من المذبحة: «كنت مع 3 من زملائي في غرفة واحدة من غرف الشقة.. حين سمعت الطرق غير المعتاد في هذا الوقت من الليل، على الغرفة المجاورة، أدركت أن هناك خطرا ما.. كنت الوحيد المستيقظ.. نظرت من أسفل الباب، فرأيت أحذيتهم الغريبة ومواسير بنادقهم. كتمت أنفاسي وانتظرت. بدأوا الطرق من جديد وأخذوا ينادون على الأسماء وكأنهم يقرأونها من ورقة مكتوبة معهم. نادوا أولا على سكان الغرفة المجاورة لغرفتي.. كان فيها زملائي ومنهم عاطف. ألقوا القبض على من فيها».
ثم، كما يقول ميلاد ناجح أيضا، دخل عناصر «داعش» للشقة المجاورة وطرقوا على غرفة صاحبي حنا وغرفة زميلي بيشوي.. كان معه شقيقه ومعه أيضا عدد من أولاد عمنا. كان عدد المجموعة في غرفة بيشوي 6 أشخاص، منهم ملاك الذي فتح الباب وفوجئ بمشهد الزوار..».
أجسام ضخمة مجللة بالسواد في هيئة غريبة في مثل هذا الوقت من الليل، فصرخ من الهلع.. استيقظ باقي سكان الغرف. هنا بدأت عناصر «داعش» في البحث عن المسيحيين بالاسم والأوصاف والقبض عليهم وقيادتهم إلى السيارات التي كانت تنتظر في الشارع المهجور في مثل هذا الوقت من بعد منتصف الليل.
نجا من المذبحة 10 مسيحيين من بينهم يوسف ذكري، أحد سكان المجمع الذي يتذكر قائلا: «حين جاءوا أخذوا يسألون أين الأقباط الذين هنا؟ كانت أسماؤنا معهم. كنت مع اثنين آخرين في غرفة مجاورة.. بدأنا نسمع صوت شد أجزاء الأسلحة التي معهم وهم ينادون على أسماء الأقباط ويهددون من يرفض فتح الباب.. لم أفتح رغم أنه كان بابا غير محكم الغلق. وكذا رفض زملاء آخرون فتح أبواب غرفهم، إلى أن انصرفوا بمن أخذوهم. يبدو أن انصرافهم كان بمواعيد محددة سلفا، لأنه لو كان لديهم مزيد من الوقت لأخذوا كل المسيحيين الباقين».
وعقب رحيل الدواعش، خرج المصريون المسلمون وجمعوا زملاءهم المسيحيين ووزعوهم في غرفهم لحمايتهم من أي هجمة جديدة للقبض عليهم. يقول ذكري: «خوفا من أن يعود الخاطفون مرة أخرى لاعتقالنا، وزع المسلمون المسيحيين على غرفهم. كل غرفة آوت واحدا أو اثنين من المسيحيين. وبقينا نترقب في رعب إلى أن أشرقت الشمس مع السادسة صباحا.. خرجنا ووزعنا أنفسنا على المدينة.. كل واحد في مكان حتى لا يتم اختطافنا، وقبل حلول المساء كنا في طريقنا إلى مصر».
مصريون يتطلعون للعودة بعد الوداع
أدت واقعة ذبح المصريين العشرين والسوداني الذي كان معهم، لغضب في مصر وليبيا والمنطقة والعالم. لقد أقدم «داعش» على الإعدام الجماعي لجنود في العراق وسوريا رميا بالرصاص، كما نفذ عمليات ذبح لصحافيين هناك بشكل فردي، وأحرق الطيار الأردني، لكن هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها بذبح جماعي لعمال بسطاء لا علاقة لهم بالأمور السياسية أو غير السياسية.. يسعون فقط، كما قال الرئيس السيسي، لكسب الرزق وأكل العيش.
انتشرت على محطات التلفزيون ومواقع الإنترنت أنباء الواقعة البشعة. بعد عدة ساعات من بث شريط الفيديو للذبح الذي بدا أنه جرى على أحد السواحل الواقعة بين سرت ومصراتة، ردت مصر بقصف معسكرات لمعقل «داعش» في درنة. انطلقت من القاهرة دعوات تلح على المصريين العاملين في ليبيا بالعودة. بدأ عدة ألوف في التوجه عبر الصحراء الليبية إلى منفذ راس اجدير التونسي من جهة الحدود الغربية وإلى منفذ السلوم المصري من جهة الحدود الشرقية.
برز وجه شاب يدعى محمود من محافظة البحيرة بمصر، وهو عائد وسط مجموعة من الشبان الذي وصلوا توا إلى منفذ السلوم. يقول إنه كان يعمل في مدينة البيضاء وإن الليبيين «يعاملوننا أحسن معاملة.. المشكلة في المتطرفين لا غير، وهم خطر علينا وعلى الليبيين أنفسهم».
حتى الوضع الاقتصادي الليبي الذي كان يجتذب المصريين للعمل هناك، تدهور إلى حد كبير، كما يقول العامل محمد إبراهيم، وهو من مركز رشيد قرب محافظة الإسكندرية: «كنا ننتظر الحصول على أجورنا.. منذ الاشتباكات بين الجيش الليبي والمتطرفين التي اشتعلت بداية من أكتوبر الماضي في بنغازي، ونحن نعمل بلا أجر، لأن أصحاب الأعمال أنفسهم ليست معهم أموال في الوقت الحالي». ويضيف: «كنا مع الليبيين ننتظر أن تهدأ الأحداث وتعود الأموال للبنوك. لقد خسرت أجرتي عن الشهور الخمسة الماضية، ومع ذلك رجعت لأنني لا أريد أن أخسر رقبتي أيضا على أيدي المتطرفين. سأنتظر حتى تهدأ الأوضاع وأرجع مرة أخرى. هكذا اتفقت مع صاحب العمل وهو يودعني في موقف سيارات الأجرة».
[caption id="attachment_55252956" align="alignright" width="300"]
العائدون من جحيم داعش[/caption]
ويمر من أمام اللواء محمد متولي، مدير منفذ السلوم البري، ألوف المصريين وهم يحملون حقائبهم على أكتافهم عائدين لأرض الوطن. كان عدد من عبروا إلى داخل مصر حتى أواخر الشهر الماضي يزيد على 12 ألفا. يقول اللواء متولي إن إجراءات وصول المصريين العائدين تمضي بشكل طبيعي. ويزيد: «لا توجد مشكلة. لم نصل لمرحلة النزوح الجماعي للمصريين من ليبيا».
بسبب أوضاع المصريين في ليبيا، أصبح يقع عبء كبير على وزارة الخارجية المصرية وهي تواصل تكثيف اتصالاتها لحماية رعاياها هناك، رغم عدم وجود سفارة أو قنصلية لمصر منذ نحو سنة في ليبيا.
يعمل مسؤولو الخارجية بتنسيق مع خلية أزمة جرى تشكيلها لهذا الغرض من ممثلي الوزارات والأجهزة المعنية بمصر للاطمئنان على تسهيل إجراءات عبور الراغبين في العودة. ودعا السفير بدر عبد العاطي، المتحدث باسم الوزارة، المصريين للابتعاد الكامل عن مناطق الاشتباكات والتوتر واللجوء إلى مناطق أكثر أمنا داخل ليبيا.
وتسببت تحركات وزير الخارجية، سامح شكري، في نيويورك أواخر الشهر الماضي، في ارتباك أطراف دولية تزعم محاربتها للإرهاب خاصة محاربة تنظيم داعش في العراق وسوريا. تحاول دول غربية على رأسها أميركا فرض الإخوان بالقوة، على ما يبدو، على الشعب الليبي، وهو أمر لا يرفضه غالبية الليبيين فقط، بل ترفضه مصر أيضا. لهذا ضغط شكري بقوة على الدول الغربية المنحازة للإخوان، على هامش جلسة الأمم المتحدة بشأن ليبيا قبل أيام.. استخدم نظرية تقول إن من يريد أن يحارب الإرهاب فعليه أن يحاربه على أنه حزمة واحدة
مصر ترى أنه لا يمكن أبدا الاقتناع بأن الإرهاب موجود في العراق وسوريا فقط ويقتصر على تنظيم «داعش» فقط، بينما حين يأتي الحديث عن التنظيمات المتطرفة في ليبيا، بما فيها تنظيم «داعش»، نجد بعض الدول، في إشارة لأميركا وحلفائها، تتجاهل هذا الواقع، وبدلا من أن تشارك في الحرب على الإرهاب الذي يضرب في ليبيا ومصر، نجدها تقول إنه لا بد من اللجوء إلى الحل السياسي والجلوس على طاولة الحوار.. «فأي حوار مع الإرهاب والتطرف؟!».
يشعر كثير من المصريين بعد أن قطعوا مئات الكيلومترات للوصول إلى منفذ السلوم، بالفخر للضربة التي وجهها الطيران المصري بالتعاون مع الجيش الليبي، لمعاقل «داعش» في درنة وقرب سرت. ويقول جمال، وهو عامل بناء من مركز قلين بمحافظة كفر الشيخ: «أنا وكل من معي نشعر بالسعادة لأن الرئيس السيسي لم ينتظر كثيرا ورد لنا اعتبارنا فورا.. نعم الضربة الجوية ردت لنا كرامتنا. المصريون والليبيون ضد (داعش)، وسنتعاون للقضاء عليه، ونعود إلى أعمالنا في ليبيا».
ويتعاون الجيش المصري مع الجيش الليبي منذ جمع شتاته على يد حفتر مطلع العام الماضي. ويقول اللواء عبد الرزاق الناظوري، رئيس أركان الجيش الليبي، في مقابلة سابقة مع «المجلة»، إن ضربات حلف الناتو أيام الحرب ضد القذافي دمرت نحو 90 في المائة من قدرات الجيش.
ومع ذلك، تمكنت اتفاقات التعاون بين البلدين من تسريع وتيرة بناء القوات المسلحة الليبية. ويوجد تنسيق وتبادل للمعلومات. ووفقا لمصادر عسكرية في بنغازي، قامت القوات الجوية الليبية بتمهيد الأرض ودكت المضادات الأرضية لـ«داعش».. كان التنظيم ينصب مجموعة من مدافع عيار 23 مللم و14 مللم فوق أسطح عدة عمارات مجاورة لمنطقة المعسكرات جنوب درنة. وكان يستعد لاستخدام صواريخ أرض جو أيضا. ويضيف المصدر العسكري الليبي: «قمنا بخمس غارات متتالية دمرنا فيها هذه المضادات.. وبعد دقائق أكمل المصريون المهمة، ودكوا حصون الدواعش على من فيها».
وفي كلمته أخيرا كشف السيسي عن أن الضربة العسكرية المصرية استهدفت 13 موقعا بعد أن جرى تحديدها بدقة، داعيا إلى تشكيل قوة عربية موحدة لمواجهة الإرهاب.
ويقول المستشار القانوني للقوات المسلحة الليبية، صلاح الدين عبد الكريم، لـ«المجلة» إن المصريين والليبيين عائلة واحدة في الضراء والسراء.. «كلنا نقف معا في مواجهة التطرف.. الليبيون شعروا بالصدمة من سلوك (داعش). جميعنا نشعر بالحزن، ولهذا نتعاون مع أشقائنا المصريين من أجل مساعدتنا في القضاء على هذه الآفة المتعطشة للدماء. الأمن القومي الليبي جزء من الأمن القومي المصري.. ولن نسمح ليد الإرهاب بأن تفرق بيننا أو نتركها لتهدد مصيرنا المشترك ومستقبلنا الواحد».
يضيف المستشار عبد الكريم أن حادث تفجير «داعش» سيارات مفخخة في مدينة القبة، سقط فيه 47 من المواطنين الليبيين وعدد من المصريين.. «لقد اختلطت دماء الضحايا، فالإرهاب لا يفرق بين مصري وليبي ومسلم ومسيحي. أشعر بالحزن العميق وأواسي أسر الضحايا من البلدين، وسننتصر على هؤلاء الظلاميين في نهاية المطاف».
رهانات على المستقبل
تحتاج ليبيا لمساعدات ضخمة من أجل القضاء على الإرهاب وعلى «داعش». منذ مقتل القذافي لا يوجد في هذا البلد جهاز مستقل للمخابرات العامة (بدلا من الجهاز الحالي الذي يسيطر الإخوان على مكاتبه) ولا توجد مخابرات عسكرية، ولا أمن داخلي (مثل أمن الدولة)، ولا جهاز للأمن القومي. كما يعاني الجيش من نقص الأسلحة بسبب الحظر الدولي المفروض عليها منذ 2011.
ومن مقر إقامته في القاهرة، يبدو السفير عاشور أبو راشد، مندوب ليبيا لدى الجامعة العربية، غاضبا من حادثي ذبح المصريين ومن تفجيرات القبة، ومن خطر الإرهاب في بلاده والمنطقة. يقول في مقابلة مع «المجلة»، إن «المنطقة كلها أصبحت مهددة، ويبدو أننا أصبحنا أمام مؤامرة علينا أن نستيقظ لها، ولا يكتفى بأن يتم إلقاء العبء على دولة دون غيرها، لأن هذا الموضوع لا يخص دولة بذاتها، ولكنه يخص الجميع، والأمر أخطر بكثير مما يظهر على السطح». يضيف أن العرب يجب أن يستيقظوا بشكل جاد، لأنه توجد مخاطر كبيرة بشأن المستقبل إذا لم يلتئموا كوحدة واحدة ويتركوا خلافاتهم، فالتهديد لم يعد يقتصر على الدول التي تشهد الإرهاب الآن فقط، إنما هو يمس كل الدول العربية حتى المستقرة منها.. «نعلم جيدا أن هناك خلايا نائمة في تلك الدول، وتتحين الفرص حين تتاح لها، لإظهار أجندتها.. الأمر خطير جدا ويستدعي بالفعل توافقا عربيا كاملا، ولا ينبغي ترك الأمر لمصر وحدها ولا للإمارات وحدها ولا لليبيا وحدها، في مواجهة الإرهاب.. هذه المواجهة يجب ألا تتحملها دولة وحدها».
ويشدد أبو راشد على أن الخطر أصبح «يمس عقيدتنا الإسلامية بالدرجة الأولى، ويمس أسس هذه العقيدة، وللأسف لم يتصد أحد لهذا الأمر، وأنا أحمل المسؤولية المرجعيات الإسلامية والعربية؛ الدينية بالذات، لأنه يجب عدم ترك الأمر للمواجهة الأمنية، لأنها وحدها لا تكفي رغم أهميتها».
وتقدم أبو راشد، بالتعازي، مثل كثير من القادة الليبيين، في ضحايا تفجيرات القبة وذبح المصريين في سرت، قائلا إنه رغم هذه الحوادث البشعة، فإن صمت المجتمع الدولي تجاه الأزمة الليبية يبدو مريبا، داعيا إلى «فضح هذا المخطط ضد الوطن العربي، لأنه إذا نجح المخطط في ليبيا، فلن تسلم منه باقي الدول.. لكن حتى لو تركنا وحدنا فسنظل نواجه الإرهاب للنهاية».
وعن الموقف الأميركي تجاه الأزمة الليبية، يقول إنه «موقف غامض جدا» لأنه كان يبدو، من القراءة العامة، أن الأميركيين ما زالوا يراهنون على جماعة الإخوان وأن يكون لها دور في مواجهة التطرف، و«هذه قراءة خاطئة تماما، لأنهم لا يدركون أن هؤلاء جميعا في سلة واحدة».
ويشير إلى أن الأميركيين ما زالوا يراهنون على ما يسمى «الإسلام السياسي» بعد الربيع العربي، على خلاف إرادة شعوب المنطقة.. «الربيع العربي بعث برسالة واضحة؛ هي أنه لا يمكن أن ينتهج هذا المنهج العنيف وأنه يبحث عن الحرية ويبحث عن الإسلام الحقيقي». ويقول إن «مخطط الرهان على الإخوان يجري في ليبيا باعتبار أن فيها فراغا أمنيا.. الإخوان هم من يتحملون المسؤولية التاريخية عما يجري، لأنهم هم من بدأوا قضية التكفير. هم إقصائيون بطبيعتهم، وكل التنظيمات التي خرجت نابعة أساسا من فكر الإخوان.. كل الأسماء التي تسمعها من (القاعدة) حتى وصلت إلى (داعش) الآن، كلها مصدرها الإخوان.. أنا على يقين من أن هؤلاء على باطل.. كيف يعطون لأنفسهم الحق في القتل؟!».
