أوهام الشاشات.. سياسة ترحيل المشكلة والبحث في السؤال الخطأ

أوهام الشاشات.. سياسة ترحيل المشكلة والبحث في السؤال الخطأ

Crtoon

على وقع الصخب الكبير المرافق لهجمات باريس الإرهابية وما تلاه من ردود فعل حول العالم غير مسبوقة، يولد السؤال: هل ثمة تحيّزات في التناول الإعلامي لموضوع الإرهاب، بحيث تختلف ردود الفعل بتغير أطراف المعادلة سواء الجماعة الإرهابية أو البلد المستهدف؟
سؤال لا يبدو اعتباطيًا إذا ما أخذنا في الاعتبار أن ملف «الإرهاب» من أكثر الملفات السياسية تعقيدًا بسبب ضبابية المفهوم وسرعة إيقاع تطور العقل الإرهابي الذي يتقدم بخطوات عن الجهود في مكافحته والتي لا تتعدى الإدانة والشجب والوعيد بالرد إلى أن تدور عجلة الزمن من جديد ويعود الإرهاب مجددًا ليضرب عواصم العالم بحسب استراتيجيته في قراءة أهدافه ومدى تأثيرها بشكل كبير.
الإرهاب الآن ينتصر عبر الزخم الإعلامي الذي بات أقرب إلى الدعاية المضادة بسبب الرسائل الخاطئة التي يمنحها كل مرة، فبدلاً من قراءة الحدث ومحاولة تحليله على المستوى السياسي، تتسابق القنوات الإعلامية إلى خطف لحظة السبق باتهاماتها قبل حتى استكمال التحقيقات، وساهمت وسائل التواصل الاجتماعي وعلى رأسها «تويتر» في دفع الإعلام نحو سيل من ردود الفعل المضطربة باتت مشكلة مصاحبة لأزمة الإرهاب الذي بات إعلامه يتقدمه، بل بات الملف بضاعة رائجة لمن يريد استغلاله لمصالحه السياسية.


التحيّز الإعلامي




أحد أكبر إشكالات التحيّز الإعلامي في ملف الإرهاب هو تبسيط تناوله، العالم الداخلي لجماعات العنف المسلح كـ«داعش» وقبلها «القاعدة» متشابك ومعقد وكثيف الظلال عكس ما يبدو أنه بسيط ومباشر (أشخاص ناقمون يسعون للتغيير بالقوة)، وبسبب هذا التبسيط في فهم هذه الظاهرة، ينحاز الخطاب الإعلامي عبر تهميش مكون أساسي في المشهد السياسي العالمي وهو «جماعات العنف المسلح»، والتي تختلف عن جماعات الإسلام السياسي وإن كانت منبثقة عنها في الرؤية والتكوين الفكري والقضايا العامة، إلا أنها تختلف عنها باعتبارها جماعات فوضوية ذات منزع عقائدي وليست جماعة سياسية تهدف إلى السيطرة على مفاصل المجتمع عبر شعارات دينية.



جماعات العنف




ومن أزمات التحيّز الإعلامي هو وضع كل جماعات العنف تحت مظلة واحدة دون فهم الفروقات والدوافع بينها، فالجماعات الإرهابية الموجودة ضمن سياق داخلي تختلف عن الجماعات التي تسعى إلى بناء كيانها السياسي الخاص عبر شبكات عابرة للحدود، ولا يمكن فهم الإرهاب فضلاً عن محاربته والقضاء عليه قبل معرفة تلك الفوارق الكثيرة على مستوى الخطاب أو طرائق التجنيد أو حتى حشد الأموال، فهناك فروق جوهرية بين «قاعدة جزيرة العرب»، ومجموعات أخرى كجماعات العنف في سيناء وفي ليبيا وتونس ومالي وشمال أفريقيا وفي القرن الأفريقي، وبالطبع هذه المجموعات تختلف جذريا عن حالة مقاتلي جبهة النصرة أو حتى مثلا عن المجموعات الصغيرة المسلحة في لبنان التي تستهدف بناء توازن مسلح يقابل قوة حزب الله من دون أن يكترث بأكثر من ذلك، وفي كل منطقة من هذه المناطق تختلف جماعات العنف المسلح عن السياق العام لتنظيم القاعدة من حيث استهداف المواقع الغربية ورفع العداء لأميركا والقيام بعمليات كبيرة ونوعية ذات بعد إعلامي.
على العكس تماما تنزع جماعات العنف المسلح المرتبطة بالداخل كسيناء إلى الحفاظ على حدودها الافتراضية للسلطة والسيطرة بحيث لا تبحث أبعد عن هذا الهدف إلا في حالة تقويض مراكزها الجغرافية في سيناء والمنطقة المحيطة بها.
تصورات جماعات العنف المسلح عن ذاتها وأدوارها وطريقة أدائها وطموحها



الاندماج المرعب




التمييز بين نشأة وأفكار وسياق وأهداف كل جماعة هو مفتاح رئيسي في التعامل مع كل جماعة، فالجماعات المحلية الصنع ذات البعد الجهوي والقبلي والاقتصادي مثل سيناء لا يمكن اجتثاثهم من دون تجريف بذورهم الاجتماعية، بينما الأعضاء المقاتلون في مجموعات «النصرة» والقادمون من دول أوروبا لا يمكن إلا اعتبارهم طارئين على المشهد وراحلين بانتهائه، كما أن خطورة الجماعات التي تحولت إلى ما يشبه الدولة كالحالة الصومالية وتقترب منها مجموعات أبين وشبوة أكثر بكثير من المقاتلين الهواة الذين ينفذون عمليات انتحارية فردية أو أولئك الأفراد في المجتمعات الفردية الذين يعبرون عن أزمة هوية معزولة بحاجة إلى اندماج أكثر من إرادتهم للتغيير العنفي.
الجديد الآن في عالم الإرهاب الأسود هو الاندماج المرعب بين الأنماط المختلفة لجماعات العنف المسلح، فحالة «الأرملة البيضاء» المرأة البريطانية التي تقاتل مع الشباب في الصومال تعني دخول نمط جديد من استقطاب النساء (نشرت حركة الشباب الصومالية طلبات عضوية خاصة بالنساء)، كما أن حالة القيام بهجمة في دول مجاورة مع الاستفادة من المركز الرئيسي تعني نمطا جديدا من الدعم اللوجيستي.
الاهتمام بالتضخيم الإعلامي هو هدف مستقل بحد ذاته للعقل الإرهابي اليوم، وهجمات باريس التي أعدت في أكثر من موقع في العالم ونفذت بطريقة مثيرة للرعب تدل على أن عصر الإرهاب الشبكي قد بدأ وأن التخلص من مجموعة من المقاتلين في مكان ما من مواقع التوتر والفوضى لا يعني انتهاء حالة الإرهاب الذي يتجاوز أزمات المنطقة وبسبب الإهمال ليصبح أزمة مستقلة باقية متى ما تم التعامل معها وفق سياقات خاطئة تكرر الفشل الكبير لحملة الولايات المتحدة عقب 11 سبتمبر (أيلول).



[inset_left]يترشح تنامي وصعود موجة الإرهاب في المدى الزمني المنظور بسبب غياب الإجماع الدولي على محاربته[/inset_left]




دورة العنف الجديدة التي سنشهدها ستكون ذات تكلفة عالية، فمن المعلوم في اقتصاديات الأزمات تضخم تكلفة الإرهاب في الدول غير المستقرة على غيرها، لأنه عادة ما يتسم بالإرهاب الفوضوي غير محدد الأهداف ولا الغايات السياسية.
من جهة أخرى يتوقع تحول مكونات سياسية نحو بوابة العنف في ظل استمرار إخفاق احتواء أزمة الاقتصاد وما يتبعها من تحولات اجتماعية، وتقلص الطبقة الوسطى التي يمكن أن تنحاز سريعا لخيارات العنف في ظل حالة «التسييس» التي تعاني منها هذه الطبقة بفعل مصادر التلقي الجديدة والفضاء المفتوح.


إن محاولة البحث عن الإرهاب، وترك سياقاته السياسية المعززة لبقائه، مثل إهمال الملف السوري والتردد في إسقاط النظام السوري مصدر الأزمات الأول في المنطقة بتحالفه مع إيران وجماعات الإرهاب السياسي الشيعية، يدلان على ازدواجية في النظر إلى مآلات الأشياء دون التوقف عند مسمياتها.
وبإزاء التحيّز في النظر إلى الإرهاب تأتي أزمة ترحيل المشكلة وتصديرها للخارج عبر نزع كل السمات والهويّات الصغيرة التي تشكل خلفية هامة للانتحاريين إلى اعتباره شخصًا دخيلاً على الدولة وتمارس لعبة الصورة النمطية بتمرير هذا الأسلوب المخادع في حين أن التفاصيل يمكن أن تفاجئنا بالكثير من المفارقات الصادمة مثل وجود خلايا نائمة أو بحسب التعبير الشهير لوزير الداخلية الفرنسي «الذئاب المعزولة» لم يكن لها أي ارتباط تنظيمي مباشر مع أي تنظيمات إرهابية لكن البحث عن المزيد من البريق الإعلامي تنتسب هذه المجموعات تحت مظلة إرهابية أكبر لإعطاء أكبر مساحة من رد الفعل.

ويترشح تنامي وصعود موجة الإرهاب في المدى الزمني المنظور بسبب غياب الإجماع الدولي على محاربته بعد تحديد مفهومه والنظر إليه بشكل شمولي وليس عبر ردود فعل غاضبة سرعان ما تفقد مفعولها.
ويترشح تنامي موجة «داعش» بسبب حالة العطل السياسي التي أصابت المنطقة فهناك عراق مقسم وغارق في مشاكله السياسية لكنه لا يعتبر الحرب على «داعش» كل أولوياته لأن القضاء على التنظيم سيعني أيضًا إعطاء حصة سياسية عادلة لسنة العراق كما هو الحال مع الإيرانيين الذين يرون في بقاء تنظيمات سنية متطرفة أولوية لعكس صورة تهديد كبير ودخولها كحليف أول في الحرب على الإرهاب مع تمرير أذرعها في المنطقة لخلق مناطق توتر سياسي وإرسال المقاتلين للدفاع عن نظام بشار الذي يتذرع بـ«داعش» للبقاء في السلطة.
وتبقى إسرائيل المستفيدة الأولى من بقاء تنظيمات إرهابية تساهم في تسليط الضوء عليها كدولة تحت مرمى الإرهابيين وهو ما يعكس حجم التفاعل مع القضية الفلسطينية الذي يتضاءل كل مرة مع حجم قطعة الكعكة الإعلامية التي يقضمها فم الإرهاب بسعادة بالغة.

font change