السعودية والخليج نحو سياسات حزم ذاتية

السعودية والخليج نحو سياسات حزم ذاتية

[caption id="attachment_55253728" align="aligncenter" width="620"]اوباما لدى مغادرته السعودية اوباما لدى مغادرته السعودية[/caption]

[blockquote]
ما لا يمكن أن تغفره المنطقة لأوباما هو تلك السياسات التي أعادت ثورة الخميني للمشهد بقوة ومنحتها سلطة شرعية عبر اتفاق نووي طبخ على عجل ودون ضمانات [/blockquote]



رغم كل التكهنات حول زيارة أوباما واختياره لهذا التوقيت على طريقة «إني مودع» محاولاً إعادة تلطيف الأجواء مع دول الخليج بعد سلسلة من التحرزات التي اتخذتها هذه الدول تجاه سياسة/ عقيدة أوباما في المنطقة، والتي تهدف إلى الإقلال من الحضور الأميركي، ومحاولة توزيع جغرافيا المنطقة بين الدول الأكثر نفوذًا، وعلى رأسها نظام طهران الذي يصرّ أوباما رغم اتهاماته له بدعم الإرهاب والتدخل في الشؤون الداخلية لدول ذات سيادة بأنها طرف أساسي لا يمكن تجاوزه.
حاول أوباما القدوم إلى السعودية محملاً بكثير من فرص إعادة الدفء لعلاقة ظلت وستظل تاريخية بكل المقاييس رغم ما شابها من ضمور وفتور وحتى بعض العتب بسبب سياسات أميركية جديدة، وأيضًا بسبب اليقظة/ الحزم السعودي تجاه التجاوزات الإيرانية وتضخم مناخ الإرهاب وتراجع هيبة الدولة القطرية لصالح صعود الميليشيات، وفي خضم الزيارة بعد أن اشتعلت الأسئلة حول طبيعة الاستقبال والملفات المطروحة إضافة إلى الزخم الشعبي في التعليق على الزيارة وتوقيتها طرح أوباما رؤية قد لا تبدو مباينة للعقيدة التي كرسها في مقالته الطويلة في مجلة «أتلانتيك»، حيث أكد أن الولايات المتحدة مصرّة على اسهتداف تنظيم داعش، وأنها بصدد زيادة التعاون الأمني مع قادة دول الخليج لتعزيز قدرات الدول من ناحية دفاعية وللسيطرة على تمدد «داعش» في مناطق التوتر وشل قدرتها على إرسال مقاتلين أو القيام بعمليات داخل دول الخليج أو تركيا التي باتت مرمى نيران كل الميليشيات المسلحة، عطفًا على موقعها، إضافة إلى التردد الطويل في اتخاذ مواقف حازمة حيال تلك التنظيمات التي تعمل على الأراضي الملتهبة في العراق وسوريا.



إيران تحت السيطرة




أوباما سعى جاهدًا هذه المرة إلى بعث الطمأنينة لقادة دول الخليج حول نشاطات إيران وأنها تحت السيطرة، كما أكد التزام بلاده بحماية أمن الخليج رغم الاتفاق النووي الذي لا يعني، بحسب تصريحات أوباما، ترك إيران تعبث بأمن المنطقة أو تقوم بإرسال الدعم إلى أذرعها المسلحة في لبنان واليمن وخلاياها النائمة في دول الخليج والمغرب العربي والسودان وعدد لا بأس به من دول أميركا اللاتينية التي تعيش ازدهارًا لتنظيمات تابعة لنظام طهران وأبرزها حزب الله.
الملف الأكثر ارتباكًا في الرؤية الأوبامية هو ملف الأزمة السورية والذي تصر دول الخليج وعلى رأسها المملكة أنه من المستحيل بعد انقضاء هذا الوقت وهدر كل هذه الدماء البريئة وسنوات التجريف الذي قام بها النظام السوري تجاه مؤسساته وشعبه أن يكون نظام الأسد جزءًا من أي حلول مقبلة أو حكومة انتقالية يرى أوباما أنها الحل الوحيد لتسيير شؤون البلد ووقف الحرب، بينما ينأى هذا الحل بنفسه بعيدًا بسبب عدم وجود أي صيغة توافقية ولو مبدئية بين الأطراف الفاعلة في سوريا أو حتى بين الدول التي تخوض معاركها بالوكالة عبر الأراضي السورية، كما أن دعوة أوباما للحرب على «داعش» أضاف لها مطلبًا لا ينتمي للواقعية السياسية، حين طالب بضرورة مساعدة الحكومة العراقية للتصدي لـ«داعش»، في حين أن النظام العراقي الذي قام ضمن إطار طائفي وبدعم مباشر من حكومة طهران ما زال يرفض الاعتراف بمشكلة الإرهاب وبآليات الحل، بل على العكس تمامًا يستفيد النظام هناك من مظلوميته أمام تنظيم داعش لعسكرة الميليشيات غير الخاضعة لسلطة الدولة والزجّ بها في الحرب ضد «داعش» ومع تجاوزات كبيرة تجاه الكتلة السنية في العراق، التي تقف مكتوفة الأيدي بين مطرقة «داعش» وسندان التنظيمات الشيعية المسلحة والتي تجاوزت تجاوزاتها تجاه سلطة الدولة في العراق لتنتقل إلى دعم حزب الله في حربه لتثبيت نظام الأسد في سوريا، والتقارير تتحدث عن تعاظم دور هذه الميلشيات الشيعية بعد حملة التركيز على «داعش» وتجاهل الإرهاب الصادر من باقي التنظيمات، وهي أزمة طويلة تتمثل في التحيّز في مفهوم الإرهاب والحرب عليه.



الزيارة الرابعة




زيارة أوباما للخليج والسعودية هي الرابعة منذ توليه رئاسة الولايات المتحدة وعكست مراسل الاستقبال، بحسب مراقبين، حالة الفتور بين البلدين، إلا أن ذلك لم يمنع من حجم الدبلوماسية الإيجابية التي أكدت فيها دول الخليج وعلى رأسها المملكة صلابة موقفها تجاه قضايا المنطقة مذكرة أوباما بأن حرائق الإهمال التي خلفها حماسة الإدارة الأميركية للربيع العربي ومشاريع تقويض سلطة الدول بدعم ميليشيات وجماعات الإسلام السياسي التي تعكس حالة من الارتباك في العلاقة بين الديني والسياسي تتجاوز الشعارات الساذجة التي رفعت إبان حقبة الربيع والتي أفرزت لنا كما الإرهاب والتطرف والميليشيات المسلحة أذرعًا إيرانية في المنطقة ومحاولة لتكرار حالة الدولة داخل الدولة في سعي حثيث لتكرار تجربة حزب الله في لبنان لتنبعث نظيرتها في اليمن، وهو ما حدا بالتدخل السعودي السريع واستباق هذا التمدد بعاصفة الحزم التي تحولت لاحقًا إلى تحالف إسلامي كبير لمحاربة الإرهاب المحتمل والتهديدات القائمة بسبب بقاء حالة «داعش»، التي أخذت تتغذى على الخلافات بين الدول الكبرى والمؤسسات الدولية وبين الدول المتاخمة لمناطق التوتر.

لقد اختفت تلك اللحظات الحميمة التي عاشها العالم تعاطفًا مع شخصية الرئيس أوباما وتحديدًا بعد خطابه التصالحي في القاهرة، فالعالم تغيّر كثيرًا خلال السنوات اللاحقة، هذا التغيير لم يكن على المستوى السياسي بل حتى إذا ما أخذنا الجانب الاقتصادي في الاعتبار وتحديدًا سوق النفط التي تعد المملكة اللاعب الأبرز فيها، وكلنا يتذكر هبوط أسعار النفط في ولاية بوش الثانية الذي لم يتجاوز 50 دولارًا للبرميل ليصل في آخر عام 2014 إلى حدود 100 دولار.

أوباما قبل الرحيل يريد أن يعزز نجاحه في القبض على زعيم تنظيم القاعدة بن لادن إلى ضمانة الحرب على تنظيم داعش تحت غطاء تحالف إسلامي تقوده السعودية، إلا أن دول الخليج تدرك أن ذلك هو فقط جزء من ملفات عالقة كبيرة وأهمها الهيمنة الإيرانية في المنطقة بغطاء أميركي، حيث الصفقة النووية تشي بأدوار كبيرة يمكن لنظام طهران أن يلعبها في المنطقة، كما أن تصاعد خطاب أوباما تجاه عدم رغبته الدخول في مستنقع المنطقة والذهاب بعيدًا إلى غياهب آسيا لبناء علاقات وتحالفات جديدة قد تشكل بديلاً أكثر أمانًا من الشرق الأوسط الملتهب، هذا التصاعد للخطاب بلغ ذروته مع طرحه لعقيدة أوباما المقالة التي كتبها جيفري غولدبرغ في مجلة «ذي أتلانتيك»، التي طرحت عدة سمات للتغير الأميركي الجديد أو إن شئنا التراجع تجاه مسؤولية الولايات المتحدة في المنطقة وعلى رأسها حماية أمن الحلفاء وبدلاً عن ذلك تساءل أوباما في عقيدته عن دور حلفاء أميركا من العرب السنة تجاه مسألة الإرهاب والتحريض على الولايات المتحدة وزاد الطين بلّة حين سأل عن حلفائه الخليجيين فكان رده إن «الأمر معقد» في حين أن خطاب أوباما أبدى ليونة كبيرة تجاه مصدر الأزمات في المنطقة والداعم الأكبر للميليشيات والجماعات المتطرفة نظام إيران الذي يحثه أوباما في مقالته تلك على البحث عن كل الوسائل الفعالة: «للمشاركة في المنطقة وإقامة نوع من السلام البارد»، في حين أن هذا السلام البارد هو متخيّل أوبامي أكثر منه حقيقة واقعية يمكن تطبيقها على الأرض بدليل حجم الانتهاكات والتدخل في مناطق جديدة كاليمن وشمال المغرب وشرق أفريقيا، بل والذهاب بعيدًا في إيجاد مواطئ أقدام في دول شرق آسيا التي تعيش موجة اختراق إيراني كبيرة.



محاولة الزج باسم السعودية في أحداث سبتمبر




ولم يقف العتب أو برود العلاقة على مسألة الملفات السياسية العالقة في المنطقة، بل تعاظم التشغيب السياسي الذي يمارسه اللوبي الإيراني في أميركا لمحاولة الزج باسم «السعودية» في مسألة تفسيرات ما حدث 9/ 11 عندما كان 15 من أصل 19 شخصًا من منفذي الهجمات يحملون الجنسية السعودية، وقد أعيد بعث القضية عبر دعوات في الكونغرس الأميركي لاستكمال نقص التحقيقات والإشارة إلى وجود فصل ظل سريًا ولم يتم ترويجه تؤكد وجود صلة بين الخاطفين ومسؤولين سعوديين، إلا أن تهافت هذا الادعاء وعدم قدرة الإدارة الأميركية لتحويله من مجرد اتهامات مرسلة إلى ورقة ضغط سياسية يمكن اللعب بها جعل من الرئيس أوباما يضغط لصالح إنهاء هذا الملف ونفي الادعاءات، وهو ما يعني بلغة سياسية إنهاء هذه الفريّة للأبد بعد طرحها مجددًا وهو ما أكده وزير الخارجية السعودي، الذي أكد أنه لا يوجد ولا مستند واحد يصلح أن يكن دليلاً على اتهام بهذا الحجم.

أزمة أوباما السياسية الكبرى هي فشل المشروع البديل للمنطقة في عهده فهو بحسب تصريحات كثيرة لمسؤولين أميركيين حاول طرح مشروع جديد في المنطقة بتحويلها إلى بيئة ديمقراطية على طريقة الوجبات السريعة ودون مراعاة السياق التاريخي والاجتماعي لنشأة الديمقراطية كثقافة ثم كمشروع سياسي بديل، وكان لحظة الربيع العربي وتحديدًا التخلي عن نظام مبارك الحليف السابق ووقوع مصر في فخ الفوضى والاختطاف الكامل للمشهد من قبل الإسلام السياسي قبل أن تأتي الثورة التصحيحية بالسيسي إلا أن إفرازات تلك الرؤية المتعجلة للديمقراطية من ميليشيات مسلحة وفراغ في السلطة وانهدام تراتبية الدولة ما زالت كثير من البلدان الربيعية تدفع الثمن حتى الآن، وهو ما دفع بالأمير تركي الفيصل رئيس الاستخبارات السعودية السابق وأحد الأصوات الأكثر صراحة في الإشارة إلى التغير الأميركي بالقول إن «تحالف السعودية هو مع الشعب الأميركي وليس مع أوباما»، مضيفًا: «لا يمكن لأحد أن يتهمنا بالطائفية في سوريا والعراق واليمن ثم يريدنا في نفس الوقت أن نتعايش مع نظام إيران الطائفي».

إن انكماش أوباما وإدارته السياسية قد حققا مكاسب كبيرة له على مستوى الداخل بسبب السمعة التي انتهجها باحثًا عن الحلول السلمية، إلا أن انعكاس ذلك على صورة الولايات المتحدة في الخارج قد اتسم بالسلبية الشديدة حتى من قبل كثير من الدول التي كانت تنتقد انفراد الولايات المتحدة بالتأثير على العالم وكأنها تمارس دور الشرطي الأخلاقي، إلا أنها الآن تعيب على إدارة أوباما سياسة الفراغ السياسي الذي تخلفه بعد رحيلها مما أفرز عودة لنشاط روسيا وتعقيدًا في ملفات النزاعات السياسية في سوريا والعراق واليمن، وكلنا يدرك أن أول تصرف روسي على سلوك أوباما الاحترازي هو ابتلاعها لشبه جزيرة القرم وتدخلها السافر في سوريا، كما هو الحال للصين المنزعجة من تحييد المنافسة على بضائعها في الأسواق الأميركية.

ما لا يمكن أن تغفره المنطقة لأوباما هو تلك السياسات التي أعادت ثورة الخميني للمشهد بقوة ومنحتها سلطة شرعية عبر اتفاق نووي طبخ على عجل ودون ضمانات كبيرة، ما فعله أوباما رغم خطاب الأزهر هو تحييد إيران من دولة مارقة تعادي الشيطان الأكبر إلى دولة تحاول أخذ وقتها في التمدد في المنطقة والاستفادة من الانتعاش مجددًا لزعزعة استقرار المنطقة التي تعاني خطورة انهيارات كيانات سياسية بسبب تعاظم حالة التطرف وحلول الميليشيا مكان الدولة.
font change