سياسة ترحيل الأزمات عبر التشغيب السياسي وفك الحصار عن نظام الأسد

سياسة ترحيل الأزمات عبر التشغيب السياسي وفك الحصار عن نظام الأسد

[caption id="attachment_55253814" align="alignnone" width="4062"]سوريون يجتمعون في بهو مبنى سكني يحمل ملصقا لرئيس النظام السوري بشار الأسد وحسن نصر الله بالقرب من مرقد السيدة زينب جنوب دمشق في أبريل الماضي (غيتي) سوريون يجتمعون في بهو مبنى سكني يحمل ملصقا لرئيس النظام السوري بشار الأسد وحسن نصر الله بالقرب من مرقد السيدة زينب جنوب دمشق في أبريل الماضي (غيتي)[/caption]

الهتافات المسيئة التي رددت في ضاحية بيروت هي ذاتها التي رددها محتجون غاضبون أمام السفارة السعودية في طهران، حينما اقتحموا مبنى السفارة، بعد أن نفذت الرياض حكم الإعدام بحق نمر النمر، وهو ما يكشف كذب ادعاءات المقاومة وشعارات «الموت لإسرائيل» التي كانت تخدر الشارع العربي، لنرى الآن انكشاف الأقنعة لنظام طهران ووكلائه عبر التغيرات المتلاحقة في حرب الوكالة التي تخوضها إيران من سوريا إلى لبنان إلى اليمن بشكل أساسي وفي مناطق أخرى كثيرة، من خلال محاولة إيجاد ثغرات للنفوذ إلى أقصى حد من التدخلات في البلدان الإسلامية، وهو ما تجلى واضحًا في الحالة اللبنانية التي اتخذت في السعودية رؤية احترازية واضحة تجاه حالة اللامبالاة من الكتل السياسية اللبنانية التي كانت على مدى سنوات طويلة أكثر المستفيدين من السخاء السعودي تجاه حرصه على أمن وسلامة لبنان، إلا أنه مع الوقت بدأ النفوذ الإيراني يزداد، كما أن الصمت من القوى السياسية اللبنانية أخذ مداه إلى ما آلت إليه الأوضاع لاحقًا، وفقدان القدرة على إدارة البلاد أو حتى اختيار رئيس يأخذ بيد بيروت من قبضة ميليشيا ما يسمى «حزب الله» الذي تتجاوز طموحاته أن يكون جزءًا من السياسة اللبنانية إلى لاعب إقليمي، وهو ما يعني خروج الحل من يد القوى السياسية في لبنان.

مراهقة سياسية


التشغيب والمراهقة السياسية تجلّت في السلوك الإيراني مؤخرًا تجاه السعودية، بدءًا من استغلال المناسبات الدينية لإثارة النعرات الطائفية والأزمات السياسية، وصولاً إلى استفزاز مشاعر السعوديين عبر سلوكيات لا تدل على احترام خصوصية الداخل السعودي وملفاته، ومن ذلك ما أكده رئيس لجنة تسمية المناطق والأحياء والشوارع والميادين في مجلس محافظة العاصمة طهران، مجتبى شاكري، الخميس الماضي، أن وزارة الخارجية الإيرانية وافقت على تسمية الشارع الذي كان يقع فيه مبنى السفارة السعودية قبل إغلاقها باسم «آية الله النمر» الذي أعدم بحكم قضائي مستقل، بعد أن ثبت تورطه في جرائم إرهابية، بدءًا من التحريض إلى الانقلاب، وصولاً تبادل إطلاق النار مع أفراد الأمن ورفضه لتسليم نفسه.
ويترشح أن حجم التصعيد الإيراني جاء ضمن أسباب كثيرة، باعتباره ردة فعل على السياسات السعودية الجديدة التي بدأت مع «عاصفة الحزم»، وذهبت بعيدًا إلى ضرورة بناء تحالف إسلامي كبير يتضمن مصر والسودان وباكستان ودولا إسلامية أخرى فيه كثير من الإيجابيات، ومن جهة ثانية أدركت إيران أن انغماس روسيا في المنطقة ليس بالضرورة أن يتناغم مع أجندتها، فروسيا اليوم تسعى جاهدة وبشكل كبير لإيجاد صيغة توافقية واتفاق شمولي مع الولايات المتحدة، ومع الغرب عمومًا، يشمل سوريا وأوكرانيا وكثيرا من دول ما يسمى أوروبا الشرقية، وهي معادلات إقليمية جديدة لا تريد إيران النأي بنفسها عنها.
إيران التي استطاعت عقد اتفاقية لمشروعها النووي استطاعت فيه الضغط على لهفة الرئيس أوباما لإنجاز مثل هذا المشروع في عهده تدرك أن أجندة روسيا بوتين بعيدة الأمد، وأن الأخير مستعد للتخلي عنها متى ما تعارضت مصالح بلاده مع رؤية نظام طهران.

تعثر ما بعد الاتفاق النووي


ويبدو أن ثمة انزعاجًا جديًا لدى إيران من تردد المجتمع الدولي في قبولها بعد الاتفاق النووي، وهناك تململ كبير من المصارف الأوروبية الكبرى التي ما زالت تتلكأ في تعاملها رغم مرور أكثر من خمسة أشهر على الاتفاق النووي، كما أن ثمة صعوبات كبيرة في استعادة إيران أموالها المجمدة، خصوصا جراء خشية تعامل المصارف الأجنبية الكبيرة معها، وكذلك مصادرة الولايات المتحدة قرابة ملياري دولار تعويضات لأهالي ضحايا اعتبرت محكمة أميركية أن إيران مسؤولة عن مقتلهم، ومن الجدير بالذكر أن العقوبات الاقتصادية الدولية على طهران قد أدت إلى تفاقم العجز في الميزان التجاري خلال السنوات الماضية، وتردى من 1.2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي عام 2014 إلى 2.7 في 2015. كما بلغ معدل البطالة في البلاد، خصوصا في أوساط الشباب، نحو 1.7 في المائة.
وبإزاء التصعيد الإيراني يمكن أن نفهم مسببات التصعيد لدى وكلائه في المنطقة وأذرعه الآيديولوجية، وعلى رأسها ما يسمى «حزب الله» الذي أصيب بحالة ارتباك وجودية بعد اغتيال القيادي البارز مصطفى بدر الدين، وتشير مصادر لبنانية وبعض التقارير التي نشرتها الصحف الإسرائيلية عن وجود خلافات وتنافس قادة ما يسمى «حزب الله» مع المسؤولين الإيرانيين من الحرس الثوري ربما كانت السبب وراء مقتل بدر الدين، مشيرة إلى احتمال تورط إيران في الاغتيال، وهناك تلميحات أيضًا تشير إلى وجود تصفية داخلية قام بها الحزب أو النظام السوري على خلفية ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي تريد الأطراف المتورطة فيه إغلاقه للأبد عبر تصفية المشاركين فيه.

صعود إيران


وفي سياق فهم التصعيد الإيراني كتبت كثير من المقالات النقدية تجاه السلوك الأميركي ولين الجانب الكبير الذي أبداه أوباما حيال ذلك دون التأكد من قبض ثمن الاستقرار والاعتدال، وتحول إيران إلى دولة مسالمة لجيرانها وللمنطقة، في هذا السياق تؤكد هيلاري مان ليفيريت، مسؤولة سابقة في مجلس الأمن القومي الأميركي، أن «صعود إيران مجرد موضوع سياسي قابل للنقاش، وإنما بات أمرًا ضروريًا لكي تصبح المنطقة أكثر استقرارًا، لا سيما في ظل إخفاق (التوسع الإمبريالي المفرط) للولايات المتحدة لخلق نظام إقليمي موال لها بشكل دائم».
وهناك حلف إيراني مع ميليشيات وأذرع لها في مناطق كثيرة، وتريد طهران أن تبني روابط قوية مع كل الكتل الشيعية في المنطقة، بهدف التمكين السياسي، وهو ما يعني الدخول في صدامات مباشرة مع استقلالية تلك الدول القطرية التي تسعى جاهدة لتثبيت مفهوم المواطنة في محاولة للتصدي إلى الاختراق الإيراني عبر سلاح الطائفية.
ويمكن القول إن الوجه الكالح الذي تبديه إيران تجاه مسألة الدفاع عن نظام الأسد ومؤازرة أنصار الله في اليمن، وابتلاع الحالة اللبنانية عبر تمدد حزب الله وتحديه لمنطق الدولة جاء لأسباب توسعية، في محاولة للاستقواء بصورة إيران الخارجية لتغطية مساحات الفشل في الداخل، ويشير كثير من المتابعين للشأن الإيراني إلى أن طهران تعاني من أزمات الداخل بشكل قد يهدد طموحها، فالسياسة الداخلية الإيرانية غير متجانسة، وتعاني من تشظيات عميقة بين ثلاث مجموعات متداخلة وهي: الإسلاميون المحافظون، والإصلاحيون، والذرائعيون، ومجموعات معارضة صغيرة تريد الخروج من مأزق ثنانية العمامة والبدلة.
التصعيد الإيراني من جهة ثانية يأتي بوصفه ردة فعل على حجم الخسائر التي مني بها نظام طهران في سوريا، وكما تؤكد «ليفانتاين غروب»، وهي مجموعة استشارية مستقلة ترصد وسائل الإعلام الإيرانية فيما يتعلق بالخسائر الإيرانية في النزاع، فإن أكثر من 250 إيرانيًا قتلوا في سوريا منذ سبتمبر (أيلول) 2015. ويفيد التقرير بأن إيران تكبدت في الأشهر الستة الأخيرة خسائر تعادل ما خسرته في العامين الأولين من تدخلها في الصراع. واستنادًا إلى بعض التقارير، فإن ما يصل إلى 700 إيراني قتلوا في سوريا منذ بدء البعثة الاستشارية الإيرانية عملها في 2012.
ما يتغافل عنه المتساقطون سريعا في أحضان دعاية نظام طهران، وهم في الأغلب يتحركون بناء على مزيج من النيات الحسنة والاعتراف بحجم التأثير المحدود، هو أن التسوية الجديدة المشروطة ولدت بعد التسوية الدولية حول السلاح الكيماوي السوري، وبالتالي فالإخفاق في التوصل إلى تسوية شاملة لتجنب الحروب في المنطقة، وهو هدف إدارة أوباما النهائي، يعني انهيار هذه الحفلة ودخول المنطقة في أتون نزاعات سياسية قد تؤدي إلى حرب ما.

[caption id="attachment_55253815" align="alignleft" width="208"]فتاة سورية تحمل «تي شيرت» لما يسمى «حزب الله» خلال مسيرة مؤيدة للنظام السوري أمام السفارة الأميركية في بوينس آيرس بالأرجنتين (غيتي) فتاة سورية تحمل «تي شيرت» لما يسمى «حزب الله» خلال مسيرة مؤيدة للنظام السوري أمام السفارة الأميركية في بوينس آيرس بالأرجنتين (غيتي)[/caption]

الهروب من أي مغامرة عسكرية شكل الدافع السياسي لتحويل جبهات الصراع في المنطقة إلى رؤوس أموال سياسية يمكن اللعب والتحكم فيها، فالخوف من تبعات العمل العسكري ضد إيران وانهيار ميزان التوازنات الإقليمية واستعادة إيران عافيتها سريعا وتحولها لدولة نووية في حال كانت فشلت الضربة، إضافة إلى أن قيادة المفاوضات من قبل الولايات المتحدة سيجعلها في موقع تفاوضي مباشر يضغط على إيران من جهة، ويحاول إقناع الحلفاء بإيجابيات المرحلة المقبلة.
الأكيد أن إيران في تحالفاتها الجديدة لن تستطيع النهوض بأمن المنطقة، بل على العكس من المرجح أن تزيد حجم الأزمات في مناطق التوتر بالعراق وسوريا، بسبب هيمنة وصعود الميليشيات الشيعية، وهو الواقع الذي أصبح يتفاقم منذ سقوط نظام صدام ورحيل الولايات المتحدة بعد ذلك، فالتخلص من الأنظمة المستبدة لا يعني الوقوع في رياض الديمقراطية وجنة العدالة الاجتماعية، بل أصبح الفراغ السياسي الذي تخلفه حروب التحرير السريعة يجعل الأوطان تقع فرائس سهلة لجماعات العنف المسلح والتيارات الجهادية المتطرفة التي لم تحضر من الخارج فقط، وإنما نبتت من الداخل في ملمح مهم إلى أن تهاوي الأنظمة السياسية يكشف عن مكونات المجتمعات العربية على حقيقتها.
الإشكالية التي ستتعرض لها إيران وكل الدول أو الحركات السياسية القائمة على آيديولوجية عقائدية أن نجاح صورتها في الخارج مرتبط بتغيير هويتها في الداخل، وبالتالي تحسن مستوى الداخل مرتبط بتحقق شروط المصالحة مع المجتمع الدولي والملفات العالقة، وهنا يكمن المأزق، حيث تحول السلاح النووي إلى ما يشبه كبش فداء في سبيل الحفاظ على الخارج أو يتم التضحية برفع العقوبات بشكل كامل في سبيل الإبقاء على سلاح الردع النووي بوصفه حالة شبه منجزة ولو إعلاميا للهيمنة على المنطقة.

هناك تحول كبير يجري في بنية المشهد الخليجي، ليس فقط على مستوى السياسات العامة التي تمسك بزمامها الدول، لكن تحول على مستوى مكونات المجتمع الخليجي السياسية والاجتماعية، بسبب تحول جذري وراديكالي في مصادر التلقي والخطابات السائدة، أولا هناك تراجع للإسلام السياسي وخطاب الصحوة لصالح خطابات منسلّة جديدة تحمل «هويّة» سياسية مركبة وغير متجانسة، فهي من خلفيات صحوية في تكوينها الثقافي، لكنها متجاوزة للمقولات المؤسسة مثل «الحاكمية» و«دولة الخلافة» وشعار «تطبيق الشريعة».. إلخ، ومن هنا وقعت في فخ «الإحلال» غير الواعي فاستبدلت بالخلافة دولة القانون، وبالكاسيت والمنابر حسابات «تويتر» والسوشيال ميديا، واستبدلت بالأسر التنظيمية الشبابية والمنشورات الهاشتاغ والغروبات الإلكترونية التي ترسل ذات المحتوى بتكنيك وآليات الحشد القديمة نفسها، وهو ما جعل المشهد برمته يختلط فيه الحابل بالنابل السياسي بالديني بالحقوقي بالراديكالي، وصولا إلى منافسة تيارات عنفية تقتطع لها حصّة جديدة من كعكة «الإعلام الجديد».
نحن أمام حالة «تداخل سياسي» غير مسبوقة، وبالتالي من يحصر أزمة السعودية مع التمدد الإيراني، وتغير الموقف الغربي في الملف النووي فحسب، فهو مخطئ، فالإشكالية أن هناك قراءة اختزالية لواقع إيراني داخلي معقد، فالتمدد الإيراني ليس إلا جزءا من تفوق وجموح المؤسسات الأمنية التي يتقدمها الحرس الثوري الذي يتدخل بشكل مباشر في ملفات إقليمية مثل سوريا واليمن (اليمن ساحة صراع صامتة قابلة للانفجار في أي وقت).

الإشكالية أن الغرب يرهن مصالحته مع إيران بعد الاتفاق معها في ملفها النووي، وهو عادة ما يتطلب وقتا أطول بكثير من الآثار المترتبة على التدخل الإيراني في سوريا، وفي اليمن والقرن الأفريقي، هذا التدخل الذي يستغل حالة التراخي الغربي، طمعا في تقويض المشروع الإيراني النووي، وليس في كف يدها عن العبث باستقرار المنطقة فيما تبقى من مرحلة الديمقراطيين الأسوأ منذ قيام الولايات المتحدة بتقييمها الإقليمي، وإن كانت نقلة نوعية بالنسبة للأميركيين الذين يرون في تجربة أوباما إعادة تقليم لأظافر المحارب الأميركي التي عكستها إدارة الجمهوريين التي سبقت أوباما.
والحال أن إيران أفلحت في تصدير ثورتها مع ضبطها، بينما فشل العرب والمسلمون السنة في إيجاد صيغة صحيّة لعلاقة الديني بالسياسي. إيران تقدم نفسها مع حلفائها وأذرعها السياسية في المنطقة بوصفها كتلة واحدة كبيرة قابلة للتفاوض، فإن ذلك قد تم برافعة طائفية عبر تصدير التشيع السياسي، وهو الأمر الذي قد يصعب القيام به بتكوين تحالف سني سياسي، ليس فقط بسبب ضبابية المفهوم السني بمعناه السياسي التحشيدي، لكن أيضا لأن تحالفا مثل هذا، من شأنه أن يرتد على انقسامات داخلية عنيفة، بسبب ما قد يسببه من موت محتم لمفهوم المواطنة الذي يعيش أكثر أوقاته حرجا.
إن المسؤولية على دول الخليج كبيرة، لأنها تحارب تمرد الجماعات العنفية وتحارب تدخل إيران ووكلائها في المنطقة، وتقارع الفراغ الكبير الذي خلفه تراجع حضور الولايات المتحدة في المنطقة وتدخلات روسيا، وهي مهمات تبدو صعبة جدًا، إلا أن فضيلة الاستقرار الذي يعرف الخليجيون قيمته جيدًا.
font change