قصة «مقابر المجهولين» في ليبيا

تضم الآلاف من ضحايا الاحتراب الأهلي والهجرة غير الشرعية

قصة «مقابر المجهولين» في ليبيا

[caption id="attachment_55263244" align="aligncenter" width="1548"] مقبرة لمجهولي الهوية تقع قرب شاطئ الطوبة بمدينة مصراتة (تصوير: عبد الستار حتيتة) مقبرة لمجهولي الهوية تقع قرب شاطئ الطوبة بمدينة مصراتة (تصوير: عبد الستار حتيتة)[/caption]

طرابلس: عبد الستار حتيتة


* تفريغ ثلاجات الموتى بالمستشفيات التي تضم رفاتات مجهولي الهوية من أجل استقبال جثث جديدة... والدفن يتم في مقابر جماعية بعد أخذ عينة البصمة الوراثية لمطابقتها مع من يمكن أن يأتي للسؤال عن المفقودين.
* أشهر المفقودين جثمان القذافي وابنه ووزير دفاعه... وتوجد مقابر يقتصر الدفن فيها على أبناء مصراتة الذين قضوا نحبهم وهم يحاربون تنظيم داعش في سرت حتى مطلع العام الماضي. ويبلغ عدد هؤلاء أكثر من 700 قتيل.
* البحر يلقي كل يوم بجثث جديدة لمهاجرين غرقوا وهم يحاولون الوصول إلى أوروبا... والهلال الأحمر يعثر على قتلى قضوا نحبهم من العطش في الصحراء... وقتلى جدد تحت أنقاض مبان دمرتها الحرب مع «داعش».




حين نزل مستور، ابن مدينة مرسى مطروح المصرية، أمام نقطة أمنية في مدينة طبرق في شرق ليبيا، للسؤال عن المكان الذي يمكن أن يكون ابنه قد دُفن فيه، سأله الضابط عما إذا كان نجله الذي اختفى الصيف الماضي، من الأهالي المحليين؛ أي من الليبيين، أم من المهاجرين غير الشرعيين. وهذا سؤال مهم، لأن عدد المقابر الجديدة وأنواعها، منذ «الربيع العربي» أصبح أكثر مما يمكن حصره بسهولة.
كان مستور، والد الشاب المفقود حسن، قد تمكن من الانتقال من مقر إقامته على الحدود المصرية، ووصل إلى عمق يزيد على مائة كيلومتر داخل الأراضي الليبية، في هذه البلدة، طبرق، التي يوجد فيها برلمان الدولة المنقسمة على نفسها. إنه من ضمن عشرات من أبناء الدول المجاورة لليبيا ممن يأتون بحثا عن قبور أبنائهم.
وطوال نحو سبع سنوات من الاقتتال، أصبح يوجد في ليبيا الكثير من أنواع المقابر. مقابر لأنصار النظام السابق الذين كانوا يقاتلون ضد الانتفاضة المسلحة المدعومة من حلف شمال الأطلسي (الناتو). ومقابر خاصة بمن يعرفون باسم «الثوار»، أي أولئك الذين حملوا السلاح لخوض حرب ضد القذافي. ومقابر للمهاجرين الذين قضوا نحبهم وهم يحاولون العبور إلى أوروبا عبر الصحراء الليبية وعبر البحر المتوسط، مثل حسن، إلا أن أغلبية هؤلاء من الأفارقة، كما يبدو من أسمائهم المكتوبة في السجلات.

[caption id="attachment_55263245" align="aligncenter" width="2048"]أشواط أخرى تضم رفاتات ألوف المجهولين. وحفرت السلطات المحلية أرقاماً على كل قبر وحفظت بياناته في ملف خاص (تصوير: عبد الستار حتيتة) أشواط أخرى تضم رفاتات ألوف المجهولين. وحفرت السلطات المحلية أرقاماً على كل قبر وحفظت بياناته في ملف خاص (تصوير: عبد الستار حتيتة)[/caption]

وفي المساء انضم لرحلة البحث عن رفاتات ذويهم، وافدون آخرون من دول الجوار الليبي. وبعد يومين من الإقامة في إحدى ضواحي المدينة، أصبح في الغرفة أربعة تونسيين وثلاثة مصريين. وفي غرفة مجاورة عجوز جزائري طاعن في السن يدعى جمال. وفي وقت مبكر من الصباح جاءت سيارتان لتقلا كل هؤلاء في جولة بين المقابر وسجلات المفقودين والموتى الذين نقلوا من ثلاجات الحفظ بالمستشفيات إلى المقابر الجماعية.
وبينما يتجاذب أطراف الحديث مع مستور، يقول أحد أقارب شاب مصري يدعى منصور، والذي قتله تنظيم داعش قبل سنة: «منصور ليس قريبي فقط ولكنه صديقي أيضا. كان يعمل في مزرعة دجاج جنوب مدينة درنة، وحين كان يستعد للعودة إلى مصر، اعترضته نقطة لداعش قرب بلدة القبة، وقتلوه وأخذوا متعلقاته. والآن أنا أبحث عن قبره. أخبروني أنه تم دفنه في مقبرة في مدينة البيضاء».
وبغض النظر عن المقابر الجماعية التي يتم العثور عليها بالصدفة تحت رمال الصحراء لمهاجرين ماتوا عطشا، توجد في عموم ليبيا عشرات من مدافن الموتى المستحدثة والمعروفة، والتي يعود تاريخها إلى عام 2011 وما بعده. وتؤشر الصفوف الإسمنتية الطويلة للمقابر التي يحمل كل منها رقم صاحبه، إلى ضراوة المعارك وانتشار الفوضى، وسقوط ألوف القتلى في بلد غني بالنفط.
وتهب رياح الشمال فوق مقبرة جديدة محملة برائحة الموت، بعد أن كانت النسائم تمر من هنا مشبعة بأريج الزهور وبعبق النفط. لقد كان مطربو هذا البلد يتغنون بالنوَّار وزهور الربيع، حين كانت ليبيا، في يوم من الأيام، لا تشكو العوز، بل كانت تؤثر، بغزارة إنتاجها، على أسعار البترول في البورصات العالمية.
وبعد ثلاثة أيام توغلت إحدى السيارتين بالتونسيين الباحثين عن رفاتات ذويهم، الأول يعمل في بنزرت سائق شاحنة، والثاني مرشد سياحي. وتجاوزت السيارة منطقة الهلال النفطي التي تتمركز على ضفتيها قوات تابعة للجيش الوطني، وأخرى تتبع البنيان المرصوص الموالي للمجلس الرئاسي. وأشار المرافق إلى صف طويل من القبور، تقع بين شاطئ مصراتة والمدينة، وقال: «إن هؤلاء الموتى كانوا يقاتلون مع نظام القذافي، ويوجد وسطهم ما لا يقل عن ثلاثين تونسياً».

[caption id="attachment_55263246" align="aligncenter" width="1249"]الرمال بدأت تخفي معالم كثير من المقابر التي تضم رفاتات أشخاص غير معروفين (تصوير: عبد الستار حتيتة) الرمال بدأت تخفي معالم كثير من المقابر التي تضم رفاتات أشخاص غير معروفين (تصوير: عبد الستار حتيتة)[/caption]

ويقول المستشار صلاح الدين عبد الكريم، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في المنظمة السياسية الليبية: «منذ عام 2011 حتى الآن يزيد عدد المفقودين عن تسعة آلاف، وهم من جميع القبائل الليبية... وإضافة إلى ذلك، هناك جثث مجهولة الهوية من دول الجوار. ويعتقد من تبقى من قيادات النظام السابق أن بضعة آلاف من المتطوعين العرب والأفارقة حملوا السلاح مع كتائب موالية للقذافي». ويقول محمد، سائق الشاحنة، إن ابنه كان يعمل ممرضا في مدينة تاورغاء المجاورة لمصراتة، وانقطعت أخباره منذ شهر يوليو (تموز) 2011.
أما مدينة تاورغاء نفسها فقد أصبحت أثرا بعد عين. لقد حطمها المتمردون على القذافي، وطردوا ألوفا من سكانها، بعد اتهامهم بالمشاركة مع قوات النظام السابق في ضرب مصراتة ومحاصرتها.
ويوجد بين الجثث المصفوفة تحت قوالب إسمنتية، بجوار مصيف «الطوبة» على بحر مصراتة، قتلى من أبناء مدن مجاورة لها، حاربت مع القذافي مثل تاورغاء وبني وليد. ولم تعد المقبرة تتحمل المزيد. فالحروب الصغيرة حول مصراتة لم تتوقف بعد، رغم مرور نحو سبع سنوات على الانتفاضة. وتوجد مقابر أخرى يقتصر الدفن فيها على أبناء مصراتة الذين قضوا نحبهم وهم يحاربون تنظيم داعش في سرت حتى مطلع العام الماضي. ويبلغ عدد هؤلاء أكثر من 700 قتيل.
وفي عموم ليبيا لا يمكن أن تشير بالبنان إلى نقطة توتر معينة لوقت طويل. فكل شيء يتغير سريعا. وفي بعض الأيام تتساقط الجثث في مصراتة، وفي اليوم التالي تندلع الاشتباكات في طرابلس. وفي اليوم الذي يليه تسمع عن تبادل للقذائف في مدينة بنغازي. كما أن البحر لا يتوقف عن إلقاء جثث لمهاجرين غير شرعيين بعد أن غرقوا وهم في بداية الطريق إلى أوروبا. وتكثر ظاهرة إلقاء البحر للجثث في السواحل الواقعة إلى الغرب من العاصمة طرابلس، وهي منطقة تضم مجموعة من البلدات الساحلية التي يكثر فيها نشاط المهربين بزوارقهم المطاطية وقواربهم الخشبية المتهالكة، خاصة في مدن زليتن وزوارة والزاوية. وغالبية هذا النوع من الجثث يخص أفارقة من مالي وتشاد وبلدان وسط القارة.
ويوضح مسؤول طبي في مستشفى بنغازي الذي ما زالت جدرانه مثقوبة بالرصاص، أنه حتى بالنسبة للجثث الجديدة لا يمكن تركها في المستشفى لوقت طويل، لأسباب تتعلق بقدرة ثلاجات المستشفى على حفظ الموتى، خاصة عندما يكون القتال شديدا بين الجيش والمتطرفين. ويزيد المستشار عبد الكريم موضحا: «في بعض الأيام كانت الجثث مكومة فوق بعضها بعضا دون أن تكون هناك قدرة على حفظها لوقت طويل». كما أن وصول ذوي قتلى المعارك، ومعظمهم من دول الجوار، لكي يتعرفوا على أبنائهم وأخذ الجثث لدفنها في بلادهم، يستغرق إجراءات كثيرة... «ما يمكن قوله: إن غالبية الجثث التي وصلت للمستشفى كانت لإرهابيين أجانب قتلوا في ضواحي بنغازي»، وفقا لعبد الكريم.

ووسط ترقب من ذوي المفقودين، دخل رجال الطوارئ بالهلال الأحمر في بنغازي إلى أحد مباني منطقة «سيدي خريبيش» التي كان يسيطر عليها المتطرفون حتى أسابيع قليلة مضت، وبالبحث تحت الأنقاض تم انتشال ثلاث جثث متحللة، وفي مبان مجاورة في المنطقة نفسها، والتي حررتها قوات مشاة البحرية التابعة للجيش الوطني، يجري حاليا تمشيط المباني بحثا عن الجثث والمفخخات.
وتقرر يوم السبت الماضي (13 يناير) تفريغ جانب من ثلاجات الموتى بمستشفى بنغازي العام، والتي تضم رفاتات موتى من مجهولي الهوية، من أجل استقبال جثث جديدة... وتولى رجال مركز شرطة الحدائق، وقسم شرطة النجدة، مع إدارة البحث الجنائي، عملية دفن 31 جثة في مقبرة جماعية، بعد أن أخذ موظفو الطب الشرعي من كل جثة عينة البصمة الوراثية لمطابقتها مع من يمكن أن يأتي للسؤال عن المفقودين.
وقبلها بأسبوع دفن الهلال الأحمر 36 جثة أخرى، في مقبرة جماعية، بعد أن كانت تشغل، لنحو خمسة أشهر، ثلاجة حفظ الموتى بالمستشفى نفسها. وتبدو مشكلة البحث عن المفقودين والقتلى ممن ألقت بهم المقادير إلى ليبيا، أقل تعقيدا في المناطق التي تمكن الجيش من السيطرة عليها، حيث يسهل عمل المتطوعين الذين يشرفون على تيسير رحلة الغرباء المكلومين، ويتنقلون بهم، في سياراتهم الخاصة، ما بين المقابر وسجلات المستشفيات، ولجان جرد الجثث.


[caption id="attachment_55263247" align="aligncenter" width="2503"]مستشفى الهواري العام في بنغازي استخدمه المتطرفون لدفن جثث قتلاهم أثناء احتلالهم للمدينة (تصوير: عبد الستار حتيتة) مستشفى الهواري العام في بنغازي استخدمه المتطرفون لدفن جثث قتلاهم أثناء احتلالهم للمدينة (تصوير: عبد الستار حتيتة)[/caption]

ويقول عبد الكريم الذي تعرض ثلاثة من زملائه على الأقل، في المنظمة السياسية، لتفخيخ سياراتهم في بنغازي: «أي منطقة تسيطر عليها القوات المسلحة يسهل العمل فيها لحل قضية الموتى مجهولي الهوية... المشكلة تكمن في المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات، في مدينة مصراتة مثلا، هناك مقابر ضخمة لأبناء القوات المسلحة».
وتضم مقبرة يطلق عليها «جنات» في مصراتة نحو 5 آلاف قتيل، معظمهم ممن كانوا يقاتلون ضد المنتفضين المسلحين، كما يقول عبد الكريم... ويوجد على كل قبر رقم. وحين تأتي عائلة بحثا عن رفات ابنها، يتم فتح سجلات تحتوي على البيانات التي تخص هذه الأرقام... الأسماء، والصور، وبعض الأوراق الشخصية التي كانت مع كل منهم.
وفي مقبرة أخرى مجاورة يوجد هنا أكثر من ألف لحد. وتستطيع أن ترى أسارير كل عائلة وكيف تنفرج حين لا تعثر على جثة ابنها. هذا يعني أنه ما زال على قيد الحياة في مكان ما. والمقصود بالمكان، غالبا، هي تلك السجون السرية التي تديرها الميليشيات منذ سبع سنوات حتى اليوم، ويوجد فيها الآلاف من المحتجزين.
ومن الجانب الآخر، كان مستور يبحث عن ابنه في مقابر مبعثرة على الدرب الصحراوي الذي يبلغ طوله نحو مائتي كيلومتر والرابط بين بلدة الجغبوب على الحدود المصرية، ومدينة طبرق. ويقول إن ابنه سافر مع مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين إلى ليبيا على أمل الوصول إلى أوروبا. ثم اختفى وانقطعت أخباره، إلى أن عثر رجال أمن ليبيون على نحو خمسين جثة بين الكثبان الرملية على خط المهاجرين المعروف لدى المهربين.
ورغم الحالة الصعبة التي تعيشها ليبيا، من تفكك للمؤسسات وانقسام في إدارات الدولة بين عدة حكومات، فإن بعض الجهات، مثل الجمعيات التطوعية والقضاء، ما زالت تعمل، بدرجة مرضية إلى حد ما، بعيدا عن التجاذبات السياسية والانقسامات في السلطة التنفيذية.

ويمكن ملاحظة هذا الأمر في التعامل مع المقابر. فمثلا عندما يعثر الأهالي أو العابرون، على جثث جديدة، يأتي الهلال الأحمر الليبي أولا، ولا يسمح بالاقتراب أو تحريك الجثث من أماكنها إلا بعد تشكيل لجنة تتولى هذه المهمة. وتتكون اللجنة عادة من مندوب من الطب الشرعي والأدلة الجنائية والنيابة.
في الأيام الأولى من البحث في مدينة بنغازي، التي شهدت ثلاث سنوات من الاقتتال بين الجيش الوطني الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر، والمتطرفين، ظل العجوز جمال يتنقل مع المتطوعين، من مقبرة جماعية إلى أخرى. لقد ترك المتطرفون العشرات من المقابر الصغيرة تحت أنقاض بيوت وعمارات مهدمة وأفنية مراكز تعليمية وداخل أقبية مظلمة.
وفي كل مقبرة من هذا النوع الموجود تحت الأنقاض، ما بين خمس إلى خمس عشرة جثة. وأمام نحو عشرة قبور في مدرسة فاطمة الزهراء في بنغازي، تدخلت اللجنة لتبدأ في إجراءات طويلة لفحص الجثث ومطابقة عينات البصمة الوراثية مع بصمات العجوز الجزائري.


[caption id="attachment_55263248" align="aligncenter" width="4032"]لجأ متطرفو بنغازي إلى دفن ضحاياهم وقتلاهم تحت أنقاض المباني (تصوير: عبد الستار حتيتة) لجأ متطرفو بنغازي إلى دفن ضحاياهم وقتلاهم تحت أنقاض المباني (تصوير: عبد الستار حتيتة)[/caption]

وترابط على الضفة الشرقية من سرت قوات الجيش الذي يقوده المشير حفتر. أما على الضفة الغربية فتوجد قوات البنيان المرصوص التابعة لفايز السراج، وهي قوات تعاني في الوقت الحالي من الانشقاقات، وهو أمر يزيد من صعوبة البحث عن المفقودين وجثث الموتى. وسقط في سرت نفسها، ألوف القتلى منذ بدأت الانتفاضة المسلحة ضد القذافي، حتى حرب البنيان المرصوص على «داعش» الذي كان قد اتخذ من المدينة مركزا له.
وسرت هي مسقط رأس القذافي، وهي مكان مقتله. وكانت ترابط فيها كتيبة قوية تسمى كتيبة «شهداء الزاوية»، إلا أن الخلافات بين حفتر وقادة مصراتة، أدت إلى انسحاب هذه الكتيبة إلى بنغازي. وكان يفترض أن تقوم قوات مصراتة بحماية المدينة، إلا أنها تركتها، ما جعل «داعش» يستوطن فيها لأكثر من سنة. وكان يوجد في المدينة مقاتلون تابعون للتنظيم المتطرف من دول شتى؛ جزائريون وتونسيون ومصريون وسوريون وأفارقة. وبعد دحر «داعش» وطرده، عثرت السلطات المحلية على عشرات المقابر داخل المدينة. كما قدم الدواعش المقبوض عليهم معلومات عن مقابر أخرى من بينها المقبرة التي تضم رفاتات المصريين الـ21 الذين قتلهم التنظيم قبل عامين.
واتبع المتطرفون في سرت وبنغازي طرقاً كثيرة لقتل الآخرين، سواء كانوا من الليبيين أو من العمال العرب القادمين من مصر وتونس والسودان وغيرها. وكانت الإعدامات تجرى، في البداية، في بوابات الدواعش حول هاتين المدينتين. ثم حين بدأت الحرب ضد عناصر التنظيم المتطرف في سرت وبنغازي، أخذ التنظيم في تفخيخ الأماكن التي يضطر للانسحاب منها.
وتقول مديرة المكتب الإعلامي لغرفة عمليات تحرير سرت الكبرى انتصار محمد، وهي غرفة تابعة للجيش الوطني، إن المتطرفين قاموا بتفخيخ البيوت بالألغام كعقاب جماعي للسكان الذين وقفوا مع الجيش.
كما سقط مئات من المتطرفين قتلى في الحروب في سرت وبنغازي. وانضم نجل جمال منذ أكثر من خمس سنوات إلى جماعة من المقاتلين يتزعمها القيادي الجزائري في تنظيم القاعدة، مختار بلمختار. وتمكن جمال من تتبع أخبار ابنه منذ كان يحارب مع المتطرفين في شمال مالي، إلى أن وصل إلى ليبيا، حيث كان ضمن صفوف جماعات تتحصن في بنغازي في محاولة لمنع الجيش الوطني من السيطرة على المدينة.
وبعد أن أمضى أكثر من أسبوع في البحث عن رفات ابنه، توجه إلى مقابر مصراتة. ولم تكن المدينة هادئة. فقد قتلت جماعة مسلحة رئيس البلدية، محمد اشتيوي، وهو رجل معتدل كان يقاوم زحف المتطرفين على المدينة. وكان الحزن يملأ الشوارع، وموظفو لجان فحص جثث المجهولين في إجازة.

[caption id="attachment_55263249" align="aligncenter" width="960"]الهلال الأحمر الليبي يقوم بدفن جماعي لجثث مجهولة الهوية بعد أن طال بها المقام في ثلاجة الموتى بمستشفى بنغازي العام (صورة من الهلال الأحمر الليبي) الهلال الأحمر الليبي يقوم بدفن جماعي لجثث مجهولة الهوية بعد أن طال بها المقام في ثلاجة الموتى بمستشفى بنغازي العام (صورة من الهلال الأحمر الليبي)[/caption]

وكان هناك أربعة رجال وامرأتان جاءوا إلى مصراتة، من مدينة بني وليد، للمرة الخامسة، دون أن يفقدوا الأمل في محاولة معرفة مكان جثث أبنائهم. ويقول المستشار عبد الكريم: «حتى الآن ما زال هناك أكثر من مائتي مفقود من ورفلة (قبيلة تسكن في بني وليد)، من بينهم الصحافي المشهور يوسف الدعيكي الذي اختطف سنة 2012. أما الذين استشهدوا من بني وليد، فلا يقل عددهم عن ألفي شهيد. والذين استشهدوا وهم يحاربون المتطرفين مع الجيش الوطني في بنغازي، من قبيلة ورفلة وحدها، نحو 500».
وفي أوقات الانتظار الطويلة تتبادل المجموعة التي تآلفت خلال يومي الإقامة المشتركة في غرفتي طبرق، الحديث عبر الهواتف، لمعرفة إلى أين وصلت الأمور. ويستمد كل طرف خيوط الأمل من الطرف الآخر. وكل من يبحث عن جثة لابنه أو أحد أقاربه، يضع احتمالا ولو بعيدا عن أنه ربما لا يزال على قيد الحياة وعالقا في مكان ما، وينتظر من يأتي لإنقاذه أو دفع فدية لتحريره من الأسر.
ويأتي صوت مستور من الجانب الآخر من الصحراء الليبية الشاسعة. لقد تفحص ثلاثة مقابر وأكثر من سبعين من رفاتات الموتى مع لجان جرد الجثث. وفي بعض الأحيان تستشعر من نبرته أن لديه أملا في أن يجد ابنه مسجونا في أحد الأقبية. لكن في أحيان أخرى يصل إلى يقين بأن ابنه مدفون تحت رمال الطريق الطويلة للمهربين.
إن نجله حسن الذي كان يبلغ من العمر 25 عاما، تعرف على مهربين لمهاجرين غير شرعيين، قادمين من سوريا والسودان وإريتريا وصعيد مصر، وغيرها، ممن يتسللون عبر الحدود إلى ليبيا. ودفع نحو خمسمائة دولار للوصول إلى بلدة زوارة في أقصى الغرب الليبي على ساحل البحر. لكن بعد أن انقطعت أخباره، وبعد أن علم بعثور الليبيين على جثث في الصحراء، شمال الجغبوب، بدأ يدرك أن ابنه ربما كان في رحلة الموت هذه. وأثناء البحث شهد قيام الشرطة الليبية بالعثور مصادفة على جثث جديدة لـ13 مصريا قضوا عطشا في الصحراء ولم يكن حسن من بينهم.
وفي غياب سلطة موحدة في الدولة الليبية، يلجأ كثير من رعايا دول الجوار ممن لديهم أبناء مفقودون داخل ليبيا، لزعامات قبلية ولذوي النفوذ ممن يقيمون لبعض الوقت في الخارج، من أجل مساعدتهم على اقتفاء آثار أقاربهم الذين اختفوا في ليبيا، سواء بالموت أو بالاحتجاز. وبالإضافة إلى ذلك توجد عراقيل عدة لإنهاء إجراءات نقل الجثث من ليبيا إلى الدول التي ينتمون إليها بسبب تأخر منح التأشيرة وانقسام بعض السفارات بين أكثر من سفير. فهناك سفراء يتبعون الحكومة المؤقتة التي يرأسها عبد الله الثني، وسفراء جرى تعيينهم من حكومة الوفاق التي يرأسها السراج.
كما إن معظم السفارات العربية والأجنبية التي كانت تعمل في طرابلس أغلقت أبوابها. وحين يعثر أحد الوافدين على جثة ابنه، يجد صعوبة في تصديق سفارة بلاده في ليبيا على ختم الأوراق الخاصة بالتقارير الطبية عن سبب الوفاة، وأوراق التصريح بالدفن، وأوراق نقل الجثمان لإعادة مواراته تحت الثرى في وطنه الأصلي، كما حدث مع جثة منصور الذي كان يعمل في مزرعة الدجاج جنوب درنة، ومع جثث المصريين الـ21 في سرت. وحتى بالنسبة لأبناء سودانيين وتونسيين وغيرهما من الأفارقة.

[caption id="attachment_55263250" align="aligncenter" width="960"]فرقة الطوارئ في الهلال الأحمر الليبي تعثر على ثلاث جثث متحللة تحت أنقاض مبنى كان يسيطر عليه الدواعش (صورة من الهلال الأحمر الليبي) فرقة الطوارئ في الهلال الأحمر الليبي تعثر على ثلاث جثث متحللة تحت أنقاض مبنى كان يسيطر عليه الدواعش (صورة من الهلال الأحمر الليبي)[/caption]

فمنذ ثورات الربيع العربي التي بدأت في الانطلاق في مثل هذه الأيام من عام 2011. أصبحت بلدان عدة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط تعاني من الضعف، ولديها مخاوف من انتقال مواطنيها عبر الحدود والمنافذ الجوية والبرية حتى لو كان الانتقال له ما يبرره. ويقول مسؤول حدودي مصري إن المنفذ البري الرابط بين ليبيا ومصر، في السلوم، مغلق منذ سنوات بشكل غير رسمي، حيث لا يسمح بالمرور منه إلا للحالات الإنسانية، بيد أن الأمر يتطلب السير في طريق طويلة وصولا إلى الحصول على إذن بدخول ليبيا.
ويحتاج والد منصور إلى إذن بالسفر إلى ليبيا لا تمنحه إلا السلطات الأمنية، وذلك لكي يتسلم جثة ابنه. إلا أن السلطات المحلية في مدينة البيضاء تقول إن عليه أن يصدق على أوراق النيابة بخصوص الوفاة وتشريح الجثة، من السفارة المصرية في ليبيا. وفي الحقيقة لا توجد سفارة لمصر في ليبيا منذ أكثر من عامين. وبالتالي يدخل ذوو القتلى في ليبيا، عادة، في دوامة من الإجراءات.
وحتى بالنسبة لجمال الجزائري، لم يتمكن من دخول ليبيا من منفذ غدامس البري على الحدود مع ليبيا، بسبب توتر الأوضاع هناك. فالسلطات الجزائرية دفعت بمزيد من الجنود خشية تسلل عناصر متطرفة إلى داخل البلاد. وشددت من شروط السفر بين جانبي الحدود.
ويقول جمال إنه وصل بالطائرة إلى مطار القاهرة، ومنها سافر إلى الإسكندرية، ومن هناك دخل إلى ليبيا عبر مطار برج العرب، بعد أن اجتاز الكثير من المقابلات في مكاتب المسؤولين أملا في الوصول إلى جثة ابنه. ويبدو أن السلطات عموما تتعاطف مع ذوي الضحايا وتسعى بشتى الطرق إلى تذليل العقبات، إلا أن المراحل التي يمر بها كل مواطن سواء من مصر أو الجزائر أو السودان أو تونس ما زالت مرهقة لمثل هؤلاء الحزانى.
ويشرح سائق الشاحنة، ابن مدينة بنزرت، كيف أدت الفوضى على الحدود بين ليبيا وتونس إلى فشله في الوصول إلى مدينة بنغازي للبحث عن جثة ابنه، ويدعى سعيد، والذي اختفى قبل سنتين وكان عمره وقتها 22 عاما.
ويتحدث الأب المكلوم عن الارتباك الكبير الذي أحدثته عناصر متطرفة بعد أن نزلت من منطقة جبل الشعانبي إلى الطرق الحدودية الرابطة مع ليبيا، مستغلة في ذلك المظاهرات التي تعم تونس منذ عدة أسابيع لأسباب اقتصادية.


[caption id="attachment_55263251" align="aligncenter" width="806"]جثث مهاجرين غير شرعيين تم العثور عليها أخيراً بعد أن تعطلت السيارة التي كانوا يستقلونها في الصحراء الشرقية من ليبيا (صورة من الهلال الأحمر الليبي) جثث مهاجرين غير شرعيين تم العثور عليها أخيراً بعد أن تعطلت السيارة التي كانوا يستقلونها في الصحراء الشرقية من ليبيا (صورة من الهلال الأحمر الليبي)[/caption]

ويقول إن إجراءات السفر إلى ليبيا من معبري «ذهيبة وزان» و«رأس إجدير»، أصبحت شبه متوقفة، وإنه اضطر للسفر عبر البحر للوصول إلى سواحل طرابلس، قبل أن ينطلق بين باقي المدن الليبية لعل وعسى يجد خيطا لمعرفة مصير ابنه.
وقاتل ابنه منذ كان لا يتجاوز التاسعة عشرة من العمر في سوريا، وحين رجع إلى تونس، وجد اسمه في قوائم المطلوبين للسلطات الأمنية. وعلى هذا فر إلى جبل الشعانبي، ومن هناك دخل إلى ليبيا مع مجموعة تونسية متطرفة تعمل تحت إمرة رجل ليبي يدعى رشيد، ويقود كتيبة تسمى كتيبة جند الحق.
ويضيف أن آخر المعلومات التي كانت تصله عن ابنه كانت تقول إنه انضم لما يعرف بميليشيا سرايا الدفاع عن بنغازي، وأنه ربما يكون قد قتل في تلك المدينة المحطمة، إلا أنه من خلال التحقيقات، والبحث في السجلات، وجهود المتطوعين، لم يعثر على أي نتيجة، ولهذا انتهى به المطاف للبحث في القبور الواقعة في سرت وفي محيط بلدة مصراتة.
ولكل شاب من الشبان الذين يعتقد أنهم قتلوا في ليبيا ودفنوا في قبور المجهولين، قصة وحكاية، بغض النظر عن الطريق الذي سلكه كل منهم، والنهاية التي آل إليها مصير مثل هؤلاء. فمنصور على سبيل المثال كان يعيش مع والده المزارع في المنطقة الحدودية مع ليبيا، إلا أن ظروفا كثيرة دفعته للبحث عن فرص للحياة وكسب الرزق في مواقع أخرى. لقد كان يريد الفرار من التدهور الاقتصادي، وقلة الأعمال، وتراجع قيمة العملة المحلية، وهي كلها ملابسات جاءت بعد الربيع العربي، بالإضافة إلى شح الأمطار، وهو أمر لا حيلة فيه على كل حال.
وحتى عام 2012 كان منصور يخطط للزواج، حيث كان راضيا بالإقامة مع والدته (ربة منزل) ومع أشقائه الأربعة وشقيقاته الأخريات. فالحياة يمكن أن تتسع للجميع مهما كانت الظروف صعبة، والشرط في مثل هذه الأحوال هو سلامة النوايا. إلا أن الوضع في المنطقة لم يعد كما كان... فمن قتله قرب بلدة القبة، من تنظيم داعش، هم شبان من دول مماثلة. والتقى هؤلاء على أرضية المحرقة الليبية. وحتى بالنسبة للمصريين الـ21 الذي قتلتهم عناصر داعشية من جنسيات مختلفة في سرت، كان السبب الرئيسي وشاية من مصري علم بتحركاتهم في تلك المنطقة الخطرة، وفقاً للمصادر الأمنية.
ومع ذلك لا تتوقف حركة الأُسر عبر بلدان بشمال أفريقيا بحثا عن مصير أبنائها في ليبيا. وفي سبيل ذلك تم التعرف على الكثير من المسارات التي يمكن أن تساعد في هذا الاتجاه، وأهم هذه المسارات طرق أبواب شيوخ قبائل ليبية ومسؤولين شعبيين من عدة مدن ليبية ممن يترددون على دول الجوار خاصة مصر وتونس. ويقدم هؤلاء ما يستطيعونه من مساعدات. وفي ظل غياب الدولة في ليبيا، يتم عادة توجيه طالبي المساعدة إلى لجان تطوعية في الداخل الليبي.

[caption id="attachment_55263252" align="aligncenter" width="960"]نقل جثث لمهاجرين غير شرعيين لقوا حتفهم في الصحراء تمهيداً لدفنها في مقابر مجهولي الهوية (صورة من الهلال الأحمر الليبي) نقل جثث لمهاجرين غير شرعيين لقوا حتفهم في الصحراء تمهيداً لدفنها في مقابر مجهولي الهوية (صورة من الهلال الأحمر الليبي)[/caption]

ولا يتوقف البحث عن مصير المختفين على رعايا دول الجوار، ولكن هناك عائلات ليبية ما زالت تبحث عن أبنائها منذ عام 2011 حتى اليوم. ويقول الدكتور علي الأحول، المنسق العام السابق لملتقى القبائل والمدن الليبية: «نعم... ما زالت توجد عائلات لديها مفقودون ولا تعرف مصيرهم».
ويضيف: «عدد كبير جدا من المفقودين غير معروف أين هم. حتى السجون، تسعون في المائة منها سجون سرية، وليست تابعة للدولة، وفيها آلاف الليبيين.. وغير معروف من مات، ومن ما زال على قيد الحياة، ومن تحت سياط التعذيب. كما أن هناك نحو 3 آلاف امرأة في هذه السجون السرية. كل ميليشيا تعمل لها سجنا وتساوم وتقايض للحصول على أموال مقابل الإفراج عن السجين أو إعطاء معلومات عن مصيره، وأين يمكن أن يكون».
ويشغل الدكتور الأحول كذلك رئاسة مجلس إدارة جمعية الأخوة الليبية الاجتماعية الثقافية بمصر. ويمكن أن تستمع منه إلى آلاف القصص التي تخص عمليات قتل على الهوية في ليبيا... «القتل، والسلب، والنهب، وقطع الطرق، وانتهاكات... حدث ولا حرج في هذه المأساة»، قائلا إنه حتى مصير جثمان القذافي، ونجله، ووزير دفاعه، ما زال مجهولا. ويضيف: «مكان دفن معمر القذافي معلوم عند من قاموا باغتياله. وتقع عليهم مسؤولية الكشف عن مكان دفنه».

وفي يوم من الأيام، في مصراتة، سأل الدكتور الأحول عن المدفونين في المقابر المحيطة بالمدينة، وهل هناك من يعرف من هم؟ وهل لديهم معلومات عن كل من يرقدون داخل هذه الأشواط الطويلة من المدافن. ويقول: «لقد تلقيت إجابات توحي بأن كل هؤلاء مجهولون».
ويضيف موضحا عن تقديره لعدد من قتلوا في أحداث 2011 وحدها، بقوله: «لا يمكن أن يعرف أحد عددهم الآن... في تصوري العدد كبير جدا، إذا ما علمت أن ليبيا تعرضت في ذلك الوقت لما يزيد على 58 ألف غارة من حلف الناتو، وقصف عشوائي من 48 دولة كبرى. وبعد ذلك، أي منذ عام 2012 حتى الآن، استمرت المجازر في كل مكان، وأعمال القتل انتشرت على نطاق واسع، حتى يومنا هذا».
font change