الربيع العربي.. وانبعاث أفكار "الأناركية" و"البلاك بلوك" !

الربيع العربي.. وانبعاث أفكار "الأناركية" و"البلاك بلوك" !

[caption id="attachment_55243097" align="aligncenter" width="620"]دول الربيع العربي شهدت انتعاشاً لأفكار الأناركية وجماعات البلاك بلوك دول الربيع العربي شهدت انتعاشاً لأفكار الأناركية وجماعات البلاك بلوك[/caption]

"الأناركية"، وتشكلاتها الحركية على الواقع المتمثلة في جماعات "البلاك بلوك" أثارت الكثير من الجدل والسجال والتساؤل، والاختلاف والقلق، والتحرك الأمني في مصر، وعدد من الدول العربية التي طالتها رياح الربيع العربي، فما هي طبيعة هذه المجموعات، وما أصول هذه الحركة وجذورها تاريخيًّا، وفكريًّا وفلسفيًّا؟ هذا ما نحاول أن نتتبعه هنا؛ لنفهم المشهد على أرض الواقع بوضوح.

الأناركية كما يُعرِّفها صاحب كتاب (المدرسة الثورية التي لم يعرفها الشرق) هي "نظرية سياسية تستهدف خلق مجتمع بلا هياكل هرمية تراتبية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية"، وإصرار الأناركية على شرط غياب الحكام والرؤساء لحيوية النظام الاجتماعي جعلها في نظر الكثيرين بمثابة حركة تدعو إلى الفوضى الشاملة، وتتوزع الأناركية كفلسفة وتيارات حركية على عدة مدارس ينتظمها موقفان مشتركان يمثلان جوهر أفكار الأناركيين، وهما: معارضة وجود الحكومات، ومعارضة وجود الرأسمالية؛ وبوجه عام يُؤمن الأناركيون بتعددية وتنوع أشكال العلاقات داخل المجتمعات البشرية (كعمال في الصناعة، وكفلاحين في الزراعة، وكأفراد منتجين في شتى مجالات الحياة) ولكنهم لا يؤمنون بالملكية الشخصية لوسائل الإنتاج، وينادون ويعملون من أجل تفعيل أشكال الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج في المجتمعات الإنسانية.

تشكَّلت معالم الأناركية كفكرة سياسية وحركة اجتماعية إبان نشأة الكيانات العمالية والنظريات الاشتراكية في بدايات القرن التاسع عشر، وأطلق أوائل المنظرين للحركات الاجتماعية مسمى الأناركية (كلمة يونانية تعني: اللاسلطوية) للإشارة إلى تنظيم المجتمع شؤونه ذاتيًّا دون انفراد شخص أو جماعة بالسيطرة على مقدرات الحياة والناس، وارتفع صوتها بشدة عقب أحداث "التمرد الاجتماعي" في العالم: بداية من انتفاضة عمال باريس سنة 1871م ثم مرورًا بالثورة الروسية سنة 1917م، وانتهاءً بالحرب الأهلية في إسبانيا سنة 1936 – 1939م، وتمثل الأناركية إحدى التيارات الرئيسة في الاشتراكية التي نشأت من رحم الثورة الفرنسية الكبرى، ونسقها الداخلي يماثل الماركسية في أولوية الثورة ضد الثالوث المقدس في أوروبا آنذاك (الدولة والرأسمال والكنيسة)، لكن بنيتها الداخلية كفلسفة ثورية تختلف عن الماركسية من عدة وجوه نشرحها لاحقًا.

رفض الدين السلطة



الصيرورة التاريخية للأناركية كحركة اجتماعية جعلها في مواجهة مباشرة مع السلطة، فهي ابتداءً ضد التراتب الهرمي الذي يشكل بالضرورة الهيكل التنظيمي لجسد السلطة، وحيث إن الدولة هي انعكاس مباشر للتراتبية الهرمية، فالأناركية -بحكم التعريف- معادية للدولة!.. يقول بريان موريس في وصف أتباع الأناركية: "الأناركيون هم أناس يرفضون كل أشكال الحكومات أو السلطة القهرية، كل أشكال التراتب الهرمي والهيمنة، وهكذا يصبح الأناركيون معارضين لوجود الدولة والرأسمالية كلتيهما، إضافة إلى كل أشكال الدين والسلطة. ولكن الأناركيين يسعون أيضا إلى تأسيس أو إلى حدوث شروط تحقيق أناركية اجتماعية، بمعنى، مجتمع لا مركزي دون مؤسسات قهرية، مجتمع ينتظم من خلال فدراليات للجمعيات الطوعية".

[blockquote]تشكَّلت معالم الأناركية كفكرة سياسية وحركة اجتماعية إبان نشأة الكيانات العمالية والنظريات الاشتراكية في بدايات القرن التاسع عشر[/blockquote][caption id="attachment_55243100" align="alignleft" width="150"]جماعات من البلاك بلوك مناهضة للفاشية في ألمانيا 2007 جماعات من البلاك بلوك مناهضة للفاشية في ألمانيا 2007[/caption]

ارتبط مصطلح الأناركية بمجموعة من الرموز والأسماء التي أخذت على عاتقها عبء التأسيس النظري لأدبياتها ومقولاتها، يعتبر بيير جوزيف برودون (1803 – 1865) المؤسس الفعلي للأناركية؛ حيث اشتهر بمحاولته إنجاز نقد "راديكالي" للاقتصاد السياسي عن طريق توظيف مفاهيم الجدل الهيغلي في كتابه الشهير (فلسفة البؤس)، حيث ينظر برودون إلى تاريخ المجتمع على أنه صراع أفكار، وتشكل كتاباته بمجموعها -(ما هي الملكية؟ طبيعة ومصير الحكومات، رسالة إلى عمال باريس... إلخ)- الأساس النظري للفكرة الأناركية التي ترى أن المجتمع المثالي يتكون من مجموعة من الأفراد المنتجين بكفاءة في إطار قانون ملكية عادل ينظم عملية التبادل التجاري لجهودهم كأفراد باستقلالية كاملة.

نزوع نحو العنف



وكانت الفصول الأولى للأناركية كحركة ثورية تبغي تغيير الواقع القائم تتجلى أحداثها في روسيا أيام القياصرة، حيث برز اسم ميخائيل باكونين (1814 – 1876) كواحد من أهم الأناركيين الذين أكسبوا الأناركية زخمًا عالميًّا خلال القرن التاسع عشر، وبمجرد بروزه كعضو فاعل في منظمة العمال “الأممية الأولى” التي التحق بها سنة 1866م ظهرت نزعة جديدة للأناركية تؤيد استخدام العنف لمقاومة السلطة الحاكمة، ويجزم بعض الباحثين أن نزعة العنف هذه هي نتيجة مباشرة لأفكار "باكونين" المنحدر من طبقة أرستقراطية ذات خلفية دينية يهودية، والرجل معروف بمُيوله لتكوين التنظيمات السرية التي تعمل في الخفاء، وتشجع الناس على التمرد العنيف الدموي كترجمة عملية لمقولة باكونين الشهيرة: "الدافع لأن تدمر هو دافع خلاق"!..

استمر زخم الأناركية العالمي وتمرد العمال وتنظيمات البروليتاريا حتى وقعت مذبحة "كميونة" ضد عمال باريس عام 1871م، والتي كانت بمثابة بداية فصل جديد في مسيرة الأناركية، حيث أجبر التباين الشديد في الإنتاج الصناعي بين الجزء الغربي والشرقي من أوروبا إلى انزياح مركز الحركة الأناركية من أوروبا الغربية إلى أوروبا الشرقية، واصطبغت الأيدولوجيا الأناركية بصبغة شيوعية نتيجة تأثرها بأفكار بيتر كروبتكين (1842 -1921) الذي كان يرى أن هدف الاقتصاد هو "تلبية الحاجات الإنسانية بأكثر ما يمكن من الفاعلية"، وجزم كروبتكين في كتابه الشهير (الاستيلاء على الخبز) بأن خطأ الاقتصاديين هو انطلاقهم في دراستهم ومقاربتهم من نقطة الإنتاج بينما الصواب في نظره هو وجوب مقاربة الاقتصاد من نقطة الاستهلاك أي: الحاجات الإنسانية.

اشتراكية وتأميم



في كتابه (مصادرة الملكية) لم يكتف كروبتكين بالدعوة إلى تأميم وسائل الإنتاج فقط، بل طالب بتأميم السلع، وذلك عن طريق توفير كل السلع والخدمات إلى الحد الممكن وبدون أي مقابل للجميع، فالبضائع المتوفرة بكثرة يجب أن تُمنح للجميع دون أية قيود، وتلك التي تتوفر بأعداد قليلة يجب أن توفر عبر تقسيمها إلى حصص!.. ويجادل كروبتكين إن الجماهير ستحتاج لتحديد يوم العمل بخمس ساعات (اعتمادًا على تقنية العصر) بغرض تلبية حاجاتهم من الغذاء واللباس و السكن و النبيذ والتنقل وما يتعلق بها من ضروريات، وهاجم مبدأ تقسيم العمل بذريعة أنه يؤدي إلى إلصاق وصف خاص بالبشر ودمغهم به طيلة حياتهم، ودعا إلى إلغاء نظام الأجور (الرواتب الشهرية الثابتة)، واستبداله بعمولات العمل (صكوك العمل) التي تمثل "القيمة الفعلية" للعمل والزمن الذي يتطلبه لإنجازه. جدير بالذكر أن الأناركية في مرحلة كروبتكين قد بلغت قمتها مع جيش "ماخنو" الثوري في أوكرانيا سنة 1917م وانتقلت بعد انتصار البلاشفة في روسيا إلى أوروبا الوسطى.

[caption id="attachment_55243101" align="alignleft" width="150"]صورة توضيحية لزي جماعات البلاك بلوك صورة توضيحية لزي جماعات البلاك بلوك[/caption]

لكن أخطر التحديات التي واجهت الأناركية في مسيرتها الجماهيرية كانت في إسبانيا عام 1936م حيث كان الأناركيون – بمختلف أطيافهم – في خط النار حينما حاول الجنرال فرانكو الإطاحة بالحكومة الجمهورية بالقوة، في البداية نجح كثير من العمال والفلاحين المسلحين (ممن تأثروا بأفكار الأناركية) هزيمة قوات فرانكو، وسيطروا على شؤونهم المعاشية، وأصبحت الأراضي والمصانع ملكية جماعية بينهم، لكن الأناركيين الإسبان كانوا عبارة عن مجموعات نقابية غير منظمة ينقصها "الوعي السياسي" فأصبحوا عرضة للتلاعب من قبل الحكومة الجمهورية، ولهذا السبب سرعان ما أضعفت المساومات والصفقات السياسية مواقف الأناركيين، وتقهقروا أمام النفوذ الطاغي لـ فرانكو، حيث كان مدعومًا – كما يقال – من قبل الفاشيين والشيوعيين المناصرين لسياسات ستالين المناوئة لأفكار الأناركية.

صراع الطبقات



يعتقد الكثيرون أن أفكار الأناركية هي نسخة معدلة من الماركسية، وعلى الرغم من وجود بعض التشابه في المنطلقات الفكرية الكبرى لكلتا المدرستين إلا أن التحقيق يظهر وجود اختلافات في كثير من القضايا الجوهرية مثل: الدولة، والبناء الطبقي للمجتمع، ومنهج الحتمية التاريخية. ففي الماركسية هناك ضرورة لوجود دولة ذات بنية معينة يديرها العمال (ديكتاتورية البروليتاريا) لتأمين المرحلة الانتقالية للوصول إلى إقامة المجتمع الشيوعي، وهذا ما يتعارض مع الأناركية التي تجزم باستحالة ذلك "منطقيًّا" لأن من يحكمون بواسطة جهاز الدولة سينتفي عنهم –بالضرورة- وصف "العمال" وسيتحولون إلى طغاة بالضرورة!.. فالأناركيون يشعرون أن صناعة نسخة جديدة من الدولة سوف يضع السلطة في أيدي أقلية ضئيلة مما يقتضي استمرار قمع الدولة.

[blockquote]الأناركية نظرية سياسية تستهدف خلق مجتمع بلا هياكل هرمية تراتبية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وتمثل إحدى التيارات الرئيسة في الاشتراكية التي نشأت من رحم الثورة الفرنسية الكبرى[/blockquote]

وفيما يتعلق بالتحليل الطبقي؛ فتتركز نقاط الاختلاف الرئيسة بين الماركسية والأناركية في أن الأخيرة تعتبر كل الناس الذين يعملون من أجل تحقيق ربح للآخرين أعضاء في الطبقة العاملة، مع التمييز بين النخب الاقتصادية والسياسية التي ترسم السياسات العامة وتضع مشاريع الأعمال، وبين موظفي الدولة الذين ينفذون هذه السياسات، ولهذا السبب قسمت الأناركية المجتمع إلى ثلاث طبقات: طبقة العمال، وطبقة المديرين، والطبقة الحاكمة، ولكن رهان الماركسية على أن الظروف التاريخية التي تسببت بإنشاء طبقة العمال سوف تدفعهم إلى تنظيم أنفسهم والاستيلاء على الدولة ووسائل الإنتاج هو ما جعلها ترى المجتمع مقسمًا إلى طبقتين فقط هما: البرجوازية (ملاك وسائل الإنتاج) والبروليتاريا (العمال بالأجر).

الدين مساحة أخرى للنزاع بين الأناركية والماركسية؛ حيث يميل الماركسيون إلى تصوير المجتمع الشيوعي خاليًا من وجود الدولة وخاليًا أيضًا من وجود الدين؛ لأنه أداة برجوازية للهيمنة على عقول الطبقات الدنيا، والتبشير للخنوع أمام السلطة، وعلى الرغم من إقرار الأناركيين بهذا التحليل إلا أنهم لا يعتقدون أنّ كلَّ الأديان تقوم بهذه الوظيفة بالضرورة، وترويج الماركسية للعنف ضد رجال الدين والمؤسسات الدينية معروف ومشهور، ولكن الأناركية اشتهرت تاريخيًّا بالتسامح مع الروحانيات والأديان التي تدعو إلى الرحمة والمساواة، بل ونجحت في اجتذاب أتباع لها من المسيحيين والبوذيين والهندوس والأديان الأخرى.

يبدو أن الطابع "اليوتوبي" اللامركزي والمغرق في المثاليات وراء الانكسارات المتتالية للأناركية في مسيرتها الصعبة نحو تغيير العالم!.. جاء في مقدمة كتاب (الأناركية كما نراها) ما نصه: " العالم الذي نعيش فيه عالم غير معقول، حيث يجوع الملايين في العالم الثالث بينما يراكم المجتمع الاقتصادي الطعام الذي لا يجد من يشتريه، يستخدم قادة العالم العنف لتعزيز السلام، تقاتل الشعوب الصغيرة جيرانها في سبيل أجزاء صغيرة من الأراضي، تضع الحكومات المكاسب قصيرة الأمد قبل الحفاظ على موارد الكوكب، تكدح الغالبية العظمى من أجل البقاء بينما تعيش قلة صغيرة في ترف بلا حدود، والفقراء مضطهدون في كل مكان من العالم".


[blockquote]

"البلاك بلوك" .. فوضى ضد الفوضى*



بلاك بلوك (بالانجليزية: Black Bloc) وتعني الكتلة السوداء، هي تكتيك في المظاهرات والمسيرات يرتدى فيه الأفراد الملابس السوداء والأوشحة والنظارات والأقنعة وخوذات الدراجات النارية المبطنة أو غيرها من الأشياء التى تحمى و تخفى الوجه . وتستخدم الملابس لإخفاء هويات المشاركين في المسيرة ، و تسمح لهم أن يبدون وكأنهم كتلة موحدة كبيرة ، و تعزز التضامن بين الأفراد .[caption id="attachment_55243111" align="alignleft" width="300"]بعض أعضاء "البلاك بلوك" خلال وقفة احتجاجية وسط القاهرة بعض أعضاء "البلاك بلوك" خلال وقفة احتجاجية وسط القاهرة[/caption]في مصر ، وبعد ثورة 25 يناير ترفع حركة "البلاك بلوك" شعار «نحن فوضى تمنع الفوضى»، ويقول أعضاؤها إنهم «مجموعة من الشباب ليست لديهم أي انتماءات سياسية أو تابعين لأحزاب وإنما يهدفون فقط إلى الوقوف ضد جماعة الإخوان المسلمين وأي جماعة تستغل الدين من أجل تحقيق أهداف سياسية خاصة».

وقالت الحركة في بيان مسجل لها نشرته على موقع «يوتيوب»: «إنها جزء من الكل في العالم»، وإن هدفها هو «السعي لتحرير الإنسان، وهدم الفساد، وإسقاط الطغاة في كل زمان ومكان». وأضافت الحركة أن هدفها هو إسقاط نظام الإخوان المسلمين، وذكر البيان أنه «كان علينا الظهور بشكل رسمي؛ لمواجهة نظام الطاغية الفاشية الإخوان المسلمين بذراعه العسكرية».

وخلال الفيديو، ظهر أعضاء «بلاك بلوك» في عرض أشبه بطابور عسكري، وأكد الشباب أنهم «سيتصدون لأي اعتداء على المتظاهرين». وبينما أعلنوا عدم تعرضهم لرجال الشرطة أو الجيش نهائيا، حذر البيان وزارة الداخلية من التدخل. وقال: «إنهم لن يتهاونوا في الرد على وزارة الداخلية إذا ما واجهتهم، لدى محاولتهم إسقاط الفاشية».
وختمت «بلاك بلوك» الفيديو بالتعريف بنفسها بعدد من الجمل منها «إسقاط الفاشية والظلم مهما طال الزمان» و«المجد للشهداء.. والنصر للثورة».

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط
[/blockquote]
font change