الحرف التقليدية بقصبة الجزائر تواجه خطر الزوال

جائحة كورونا عمّقت معاناتهم بعد تراجع السياحة

النحاس حرفة تقليدية أصيلة بأحياء القصبة («المجلة»)

الحرف التقليدية بقصبة الجزائر تواجه خطر الزوال

 

 

 

 

الجزائر:  في أغنيته الخالدة تحت عنوان «يا دزاير يا العاصمة» ينقل المغني الشعبي الجزائري عبد المجيد مسكود السامع من واقعه المعاش، إلى فترة السبعينات والثمانينات بين أزقة وشوارع العاصمة، يستحضر الفنان الجزائري المعروف من خلال أغنيته نوستالجيا موجعة لما كانت عليه العاصمة، ولما باتت عليه، ورغم أن كثيرين يأخذون على الفنان نزعته العنصرية بسبب أمانيه في أن تبقى العاصمة للعاصميين دون غيرهم ممن نزحوا إليها من القرى والمداشر البعيدة على مدى عقود من الزمن، بيد أن كثيرين يقرون بأن هذا الزحف أثر على عادات وتقاليد العاصميين مع مرور الزمن، حتى باتت )البهجة( وهو الاسم الذي كانت تشتهر به العاصمة قديماً ليست مبهجة، فكل شيء فيها تغير ولم يبق على حاله.

ورغم أن أغنية مسكود نزلت إلى الأسواق مطلع الثمانينات، إلا أنها ما تزال حاضرة وبقوة في قاموس الأغاني الجزائرية الخالدة، على الرغم من أن كلمات الأغنية الشعبية أثارت استهجان كثيرين، واعتراضهم على تضمينها كلمات تضع فارقاً بين أبناء الريف والمدينة، وتفرّق بين السكان الأصليين والوافدين إلى عاصمة البلاد التي لا تُعدّ الإقامة فيها حقاً حصرياً لسكانها الأقدم، بقدر ما هي عاصمة لجميع الجزائريين، كغيرها من العواصم في العالم، فهي مدينة جامعة تتلاقح فيها الثقافات وتنصهر فيها التقاليد وتتغير ملامحها الأصلية بمرور السنين. إلا أن سرّ نجاحها واستمرارها هو أن الأغنية كانت بمثابة كاميرا تفصيلية لعاصمة الجزائر خلال العقود الماضية، حيث صور فيها الفنان مسكود مشاهد حية لحي القصبة العريق، ووصف ما يتميز به هذا الحي من عادات وتقاليد الجزائريين في مأكلهم ومشربهم، وما يتميز به هذا الحي العريق وغيره من أحياء العاصمة من انتشار لعشرات الحرف التقليدية التي بدأت في الاندثار عقداً بعد عقد، بسبب موجة الحداثة التي شهدتها العاصمة، وبسبب تراجع الإقبال عليها لأسباب عدة.

النحاس حرفة تقليدية أصيلة بأحياء القصبة («المجلة»)

وقصبة الجزائر، المعروفة باسم القصبة، تتوافق مع مدينة الجزائر القديمة أو المدينة العتيقة، عاصمة الجزائر، وتُعدّ من مواقع التراث العالمي لليونسكو منذ عام1992 . وتقع إداريا في بلدية القصبة في ولاية الجزائر.

ويعود تاريخها إلى العصور القديمة، حيث إنها كانت أولاً ميناء قرطاجياً، ثم بربرياً وأخيراً رومانياً. وقد تأسست في القرن العاشر من قبل الأمازيغ تحت سلالة الزيريون، وتم إثراؤها من طرف الأندلسيين. ووصلت إلى ذروتها خلال فترة إيالة الجزائر، التي كانت مقر السلطة السياسية. واستُعمرت من قبل الفرنسيين في عام 1830، ثم هُمشت تدريجيا لأن مراكز السلطة نقلت إلى المدينة الجديدة. احتلت دورا مركزيا خلال ثورة التحرير الجزائرية، حيث كانت بمثابة معقل لاستقلال جبهة التحرير الوطني. في استقلال البلاد عام 1962، لم تستعد دورها المركزي وأصبحت مرة أخرى منطقة مهمشة من المدينة.

وتُعدُ القصبة مثالا على العمارة الإسلامية والتوسع الحضري للمدينة العربية- الأمازيغية، وهي أيضا رمز للثقافة الجزائرية، موضوعا للإلهام الفني ومقرا للخبرة الحرفية الموروثة. ولأهميتها التاريخية كانت بمثابة قلب سينمائي غني، حيث تم فيها تصوير أربعين فيلما روائيا ومائة فيلم قصير في القرن العشرين، أشهرها فيلم زاد(1969) ، و«معركة الجزائر» لجيلو بونتيكورفو(1969) . و«تحيا يا ديدو» (1971)، و«عمر قاتلاتو» (1976)، و«الخريف»، و«أكتوبر في الجزائر» (1988).

كما ألهمت القصبة العديد من الرسامين الجزائريين والأجانب، حيث كانت مصدر إلهام للفنانين مثل الرسام يوجين ديلاكروا، والفنان محمد راسم، وهو ابن القصبة وأعماله توضح الفترة الأولى من القصبة من خلال العودة إلى التقليد الشعبي الجزائري، وأعماله في معظمها محفوظة في متحف الجزائر العاصمة، إلى جانب الرسام لويس كومفورت تيفاني وهو رسام أميركي، وزار مدينة الجزائر عام1875 .

 

 

* ألهمت القصبة كثيراً من الرسامين الجزائريين والأجانب

 

وعلى مدار عقود من الزمن، لطالما كانت الحرف التقليدية التي اشتهر بها الحي مصدر فخره، ففي أطرافه تنتشر عشرات المحلات والورشات الصغيرة لصناعات وحرف مختلفة، مثل: الحلي والنحاس والنجارة، حيث تنتشر على طول الحي الذي يبدأ من شارع بوتان من مسجد كتشاوة التاريخي بالقرب من ساحة الشهداء، مرورا بسوق)جامع اليهود المعروف بدكاكينه الصغيرة والتي تشتهر بانتشار الصابون التقليدي المصنوع يدوياً، والذي يطلق عليه «صابون دزاير»، على طول هذا الشارع كانت تنتشر محلات وورشات الدباغين والفخارجية أي حرفيي الفخار وحرفيي النحاس والصاغة الذين ينتشرون أيضا في «زنقة الشيطان» وشارع الأهرام وغيرهما، لكن حسب المختص في تاريخ المدينة بلال إرمولي فإن هذه المحلات أصبحت اليوم مجرد ذكرى، وكشف الباحث لـ«المجلة» أنه «خلال بداية القرن التاسع عشر وحتى مرحلة ما بعد الاستقلال بقليل كان عدد الحرف التقليدية في حي القصبة العريق يتجاوز المائة، لكنها اليوم أصبحت تعد بأصابع اليد الواحدة»، بل إن عدد الحرفيين حسب حديثه «لا يتجاوز العشرين بعد أن كان بالمئات»، وكشف أن «المهن التي ظلت تتوزع بين النقش على النحاس والخشب وبعض الأنشطة المتعلقة بالجلود وخياطتها». وقال إرمولي إنه «خلال فترة الثلاثينات وحتى بداية الستينات كانت أحياء القصبة تعرف بنوع الحرف التي كانت تنتشر فيها، فنسمي الأحياء مثلاً بحي النجارين أو حي الدباغين أو حي الصباغين أو حي الذهابين وغيرها»، لكن كل تلك الأسماء اليوم، يوضح إرمولي: «لم يتبق منها شيء مع تراجع عدد الحرفيين».

 

بلالي إرمولي مع مصطفى بوالعشب («المجلة»)

والزائر للقصبة العتيقة يجد أن أغلب من تبقى من الحرفيين  يتمركزون بالقصبة العليا، حيث يتوزعون عبر شارع سيدي دريس حميدوش، وبالقرب من مسجد سيدي رمضان، وقال حرفيون لـ«المجلة» إن أعدادهم اليوم لا تتجاوز العشرة، بين نجارين ونحاسين وتشكيليين ومختصين في السيراميك، مؤكدين أن مهنهم  تسير نحو الاندثار الكلي، بالنظر إلى التدهور العمراني الكبير الذي تعرفه المدينة القديمة وعزوف الشباب عن ممارسة هذه الحرف لغياب الإمكانيات والدعم الحكومي، الأمر الذي تسبب أيضا في زوال الكثير من العادات والتقاليد المرتبطة بهذه المهن.

وفي محله بالقرب من قصر خداوج العمياء بأعالي القصبة، يتذكر الحرفي مصطفى بوالعشب كيف بدأ حياته قبل خمسين عاماً من الآن كمدرس، ليجد نفسه بعد سنوات قليلة فقط ممتهناً لحرفة خياطة الجلود التي أحبها وعشقها، وحينما وجد نفسه أمام خيارين: الاستمرار في مهنة التدريس أو خياطة الجلود، اختار الأقرب إلى قلبه وهي الثانية، والتي يمارسها بكل حب وعشق منذ خمسين عاماً، لكنه بنبرة حزن يقول لـ«المجلة» إن «الوضع الآن ليس كما كان منذ عقود»، فالقصبة حسب حديثه «كانت جميلة بفنها وتقاليدها لكنها اليوم تبحث عن هويتها وعن تاريخها بعد أن فقدت مصدر رونقها وجمالها»، ويقول بوالعشب إنه «ورث مهنة خياطة الجلود أباً عن جد»، وكشف حبه لهذه المهنة حينما كان في عمر 12 عاماً واستقال من مهنة التدريس عام 1978، ومنذ ذلك الحين وهو يمارس حرفته هذه، لكن الأوضاع تغيرت الآن وحسب بوالعشب فإن أهم تحدٍ يواجهه اليوم هو عدم توفر المادة الخام، ورغم أنه أكد وجود أنواع من الجلود منتشرة بالجزائر إلا أنها ذات نوعية ليست بالجيدة، كما ذكر أن اليد العاملة باتت مفقودة بسبب عزوف الشباب عن ممارسة هذه المهنة، لأن هذه المهنة تتطلب الصبر والتركيز والدقة، وشباب اليوم لا يستطيع الالتزام بهذه الشروط، والعوامل، ويختار مهناً أكثر سهولة وأكثر ربحاً.

 

حرفي الجلود مصطفى بوالعشب («المجلة»)

 

* النحاسون اليوم لا يزيدون على اثنين بينما كانوا في الماضي يجاوزون الثلاثين

 

وعن أوضاع الحرفيين في الحي العريق أكد بوالعشب بكل أسف أن «القصبة رغم أهميتها التاريخية إلا أنها تعاني إهمالاً غير مبرر»، فهل يعقل- يتساءل- أن «مدينة مثل القصبة لا يوجد بها دار للحرفيين يزاولون فيها نشاطهم ويطورونه ويحمونه من خطر الزوال»، واعتبر أن الأمر «غريب، وكان من المفترض أن تكون ثمة عدة مراكز متخصصة في القصبة لتطوير ورعاية هذه الحرف والحرفيين»، واعتبر بوالعشب أن «هذا هو المطلب الأساسي لكل الحرفيين في الوقت الراهن». وحسب حديثه «كان من الأجدر بوزارة السياحة أن تقوم أيضا بفتح مدارس متخصصة في حي القصبة للتعريف وتلقين هذه الحرف للشباب وللجيل الجديد الذي لا يعرف عنها شيئاً رغم أنها من تراث الجزائر العريق».

وبنبرة شبه يائسة يبدي حرفي النحاس الهاشمي بن ميرة الذي يعمل في هذا المجال منذ 58 عاماً حزنه الشديد للوضع المأساوي الذي آلت إليه القصبة وصناعاتها التقليدية قائلا إن «النحاسين اليوم لا يزيدون عن اثنين بينما كانوا في الماضي يجاوزون الثلاثين»، وكشف أنه «ساهم شخصيا في تكوين حوالي الثلاثين شخصا، لكنهم توقفوا لعدة أسباب، أبرزها عدم توفر المادة الأولية وغلاؤها إذا توفرت».

ويؤكد بن ميرة الذي يستأجر محلا متواضعا وضيقا وهشاً، أيضا أن «الحرفيين في القصبة على وشك الزوال النهائي إذ إن أغلبهم توفي أو توقف عن الممارسة بسبب غياب الدعم الحكومي».

ويلفت هذا الصانع إلى أن «ما ينتجه من قطع فنية مخصص أساسا للاستعمال اليومي والديكور ضاربا المثل بأدوات العروس التي لطالما ميزت أعراس القصبة التقليدية»، مضيفا أنه «يقوم أيضا بترميم القطع القديمة التي يعود بعضها للعهد العثماني».

ولدى سؤاله عن حجم توافد الزوار على القصبة قال بن ميرة إن هؤلاء كانوا يأتون «بكثرة قبل جائحة كورونا سواء من الأجانب خصوصا البعثات الدبلوماسية أو المحليين، قبل أن تنخفض أعدادهم بشكل كبير جدا». وهو الأمر نفسه الذي ذكره لـ«المجلة» الحرفي عبد الوهاب حافظ، حينما قال إن «جائحة كورونا عمّقت من معاناة الحرفيين حيث إن غلق الحدود الجوية تسبب في تراجع كبير للسياح الذين يعدون الزبائن الأبرز لهم»، وطالب حافظ بـ«ضرورة تدخل الدولة لمساعدة من تبقى من الحرفيين قبل اندثارهم نهائيا».

اللباس التقليدي ومحاولات إحيائه («المجلة»)

 

ومن بين حرفيي القصبة المعروفين أيضا خالد محيوت، والمشهور بلقب راهب النجارة التقليدية،  لتميزه وتعلقه بهذه الحرفة التي بدأها عام 1965 متوارثا إياها عن عائلته إذ يعمل على تحويل الخشب إلى تحف فنية مختلفة الأساليب، وهذا باستعمال الأدوات التقليدية فقط كالمبارد والأزاميل.

ويعمل هذا الصانع رفقة ابنه في ورشته الكائنة بأعالي القصبة على إنتاج أبواب وأعمدة ومرايا ودرابزينات وغيرها، بالإضافة إلى ترميم المنتجات القديمة وهذا لفائدة أفراد ومساجد وفنادق، مضيفا أن «حرفته ذات تاريخ بالقصبة ولطالما ارتبطت بأسلوب عيش أهلها»، غير أنه «يتأسف لعزوف الشباب عن ممارستها بعدما كانت في الماضي تميز عائلات بأكملها مثل ابن تشوبان وديمرجي».

ويضيف محيوت الذي تتزين ورشته بالعديد من الصور التذكارية الخاصة به، وبأبناء القصبة، وكذا الشهادات والتكريمات التي تحصل عليها خلال مسيرته الفنية، أن «القصبة في الماضي لم تكن بحاجة إلى حرفيين من خارجها إذ كانت تضم نجارين وحدادين ونحاسين وغيرهم ممن كانوا يلبون حاجات ساكنتها»، مشددا في هذا الإطار على أن «المدينة القديمة لا يمكن لها أن تنهض من جديد من دون هؤلاء الحرفيين».

وعن دور حرفته في الحفاظ على عادات وتقاليد ساكنة المكان يقول المتحدث إنه «لا يزال ينتج العديد من الأشياء التي لا تزال لها قيمة معنوية كلوحات الموشارابي المنقوشة التي تزين نوافذ البيوت وتقيها من أعين المارة بينما اندثرت أخرى»، مضيفا أن «الحياة العصرية جعلت الكثير من الناس يقبلون على المصنع من البلاستيك والألومنيوم على حساب المنتجات التقليدية».

 

 

font change