أنا لاجئ... أنا شاهد

أنا لاجئ... أنا شاهد

في سوريا وعن سوريا، كل يوم خبر جديد ولكن لا جديد، أيا كان حجم الحدث على الصعيد السياسي أو العسكري، ولكن لا تقدم يذكر على صعيد الوصول إلى الحل أو تغير الأمر الراهن إلا بعض التفاصيل، وهذه التفاصيل وإن أثرت على المشهد بشكل عام، إلا أنها حتى اللحظة لم تستطع إيجاد مخرج أو حل بالمعنى الكلي وإنهاء معاناة ملايين البشر.

فعلى سبيل المثال، ووفقا لتقرير حقوقي صدر مؤخرا، فإن النظام السوري هو أكثر من استخدم الأسلحة الكيماوية في القرن الحالي، حيث ذكرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن استخدام السلاح الكيماوي من قبل نظام الأسد تسبب في مقتل ما لا يقل عن 1510 من السوريين بينهم 205 أطفال و260 سيدة، وإصابة نحو 12 ألفًا آخرين.

ليس فقط بعدد مرات استخدام السلاح الكيماوي تصدرت سوريا المرتبة الأولى عالميا، فحسب أرقام نشرتها مؤخرا مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن سوريا تتصدر المرتبة الأولى في أعداد اللاجئين في العالم للعام السابع على التوالي، حيث يبلغ عدد اللاجئين السوريين مليون لاجئ، نحو 80 في المائة منهم وفق تقرير مفوضية اللاجئين السوريين يعيشون في دول الجوار.

قضية اللاجئين السوريين كانت دوما حاضرة، ولكن في أغلب الأوقات كانت حاضرة في البازار السياسي بين الدول، وبين النظام وخصومه، وبين من يسمح لهم بالعبور ومن يريد إعادتهم إلى سوريا دون الأخذ في الاعتبار المخاطر التي تنتظرهم.

قبل أشهر برزت إشكالية قرار الدنمارك برفض تجديد إقامات بعض اللاجئين السوريين المقيمين على أراضيها وإرغامهم على العودة قسرا إلى سوريا، يوميا نسمع أخبارا عما يتعرض له السوريون من حملات عنصرية في كل من تركيا ولبنان وغيرهما تصل إلى حد القتل أحيانا بتهمة «لاجئ سوري».

مؤخرا انشغل العالم بقضية اللاجئين أو المهاجرين بين بيلاروسيا وبولندا، ولكن العالم ينشغل في كل مرة بكيفية التعاطي السياسي مع موضوع اللاجئين ويتجاهل بعد أيام البعد الإنساني للقضية.

قبل أيام أطلق عدد من السوريين على صفحات التواصل الاجتماعي هاشتاغ «#أنا_لاجئ»، تداولوا قصص لجوئهم ومشاهد من معاناتهم على طريق اللجوء، بعضهم كتب عن الساعات الأخيرة قبل الرحيل، وآخرون كتبوا عن العمليات العسكرية والاتفاقيات التي تمت وكيف اقتلعوا من مدنهم وقراهم وبيوتهم، فكان اللجوء قدرا لا خيارا بالنسبة لهم.

من يدخل على هاشتاغ «أنا لاجئ»سيقرأ قصصا عن المعتقلين وأهليهم، عن الضحايا الذين سقطوا، وعن التهجير الممنهج الذي حصل في سوريا. سيقرأ عن الدور الروسي في منطقة ما، وعن دور إيران وميليشياتها في منطقة أخرى، وعن دور الأسد ونظامه في اقتلاع الناس من أرضهم والإتيان بغيرهم ليحلوا محلهم.

في الساعات الأولى لإطلاق حملة «أنا لاجئ»، امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بقصص شخصية لشباب وصبايا سوريين عاشوا ويعيشون منذ سنين معاناة اللجوء القسري؛ إن صح التعبير، ولكن لاحقا وبعدما انتشر الهاشتاغ وتعددت القصص صار بإمكان القارئ أن يقرأ حكايا السوريين وحكاية الثورة من خلال قصص الأفراد، قصص تروي حكاية الثورة من اليوم الأول إلى لحظة تهجير كاتبها، من الكيماوي إلى قيصر، ومن درعا وحمص والزبداني وداريا إلى حلب وعفرين والرقة.

إن كانت سوريا مأساة العصر، فإن اللجوء هو أحد أبرز سمات هذه المأساة، وإن كان الحديث يتم في كثير من الأحيان عن الـ6.7 مليون لاجئ سوري خارج سوريا، فلقد ذكرنا الهاشتاغ أن عدد من اقتلعوا من بيوتهم وأرضهم يفوق 13 مليون سوري نصفهم مهجر داخل البلاد.

ما الذي يدفع أما لكي تركب مع رضيعها هي والعشرات في قارب لا يتسع لهم وتخوض البحار وهي تعلم أن احتمال وصولها وطفلها إلى مكان آمن هي نسبة ضئيلة جدا لو لم تكن متيقنة من أنه ومع كل المخاطر التي تتخذها بخطوتها هذه إلا أن ثمة أملا ما في مستقبل ما لطفلها لا يمكن أن يحققه إن بقوا حيث هم؟ ما الذي يرغم رجلا على تحمل الذل والمتاعب والفقر في خيمة ما على الحدود لولا إدراكه أن مجرد محاولة العودة إلى قريته قد تكلفه حياته في سجون الأسد تحت التعذيب، وقد حصلت مع كثيرين ممن عادوا؟

قصص كثيرة ومخاوف أكثر، حكايا اللاجئين ليست سوى اختصار لحكاية سوريا في السنوات الأخيرة، حكاية عن الألم والأمل وسعي الإنسان في الحفاظ على الحد الأدنى من إنسانيته، حكاية شعب تعرض لكل أنواع العذاب من القريب إلى البعيد، حكاية فشل النظام ومعه روسيا أن يبيعوها للعالم عندما صوروا اللاجئين كإرهابيين، ولكن نجح السوريون في أن يرووها بكلمات بسيطة وخيبات كثيرة وألم حاولوا إيصاله ببضع حروف متاحة على صفحات التواصل.

قصة اللجوء السوري ليست مجرد تعبير عن وحشية نظام وعن سعي بشر للحفاظ على حياتهم، هي في العمق صورة عجز المجتمع الدولي عن توفير منطقة آمنة للسوريين في وطنهم، هي صورة انهيار المنظومة الأخلاقية التي قامت عليها الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، هي خيبة أمل لحضارة بكاملها، ظنت أنها تجاوزت المذابح الجماعية والقتل بالسواطير.

«أنا لاجئ»،إذن أنا شاهد، شاهد على ما حل بي وبه وبهم، ورغم كل الخيبات التي عبر عنها المغردون، إلا أن الأهم أن هذا «اللاجئ»بعد كل هذه السنين ما زال يطالب بالعدالة وليس فقط بالخلاص والهروب.

font change