تجارة الآثار... لعبة الحظ غير المشروعة

رجال أعمال وأصحاب نفوذ سقطوا في فخ سرقة كنوز الفراعنة المدفونة

تم الكشف عن عمليات بيع لقطع حجارة من الأهرامات كتذكار أثري وهدايا للسائحين (غيتي)

تجارة الآثار... لعبة الحظ غير المشروعة

 

 

 

 

 

 

القاهرة: تجارة الآثار.. هي لعبة الحظ غير المشروعة التي قد تقود صاحبها للوصول لعالم الثراء، أو تنهي مسيرته وحياته بطريقة مأساوية... ولأن مصر تعوم فوق بركة من الكنوز تترامي أطرافها في كل الاتجاهات وتمتد إلى كافة العصور القديمة والحديثة، فإن كثيرين سواء من داخل البلاد أو خارجها (ممن يدخلون تحت غطاء علماء التنقيب) تغلبهم شهوتهم لاستخراج هذه الكنوز رغم ما يحيطها من مخاطر.

مسؤولون ورجال أعمال غلبهم شغف البحث عن الآثار، وانتهى بهم الأمر وراء قضبان السجون.

 

مافيا عالمية ومتخصصون في التهريب

لكن كيف خرجت هذه القطع الأثرية من البلاد... وأشهر طرق تهريبها وأساليب إخفائها عن أعين الأجهزة الأمنية بالمنافذ المختلفة في البر والبحر والجو.. وأيضا من يتولى عمليات التهريب؟

إنها مافيا عالمية.. وتجارة دولية.. أبطالها رجال نافذون في مصر وخارجها، ويملكون من الحيل الكثير لتهريب بضاعتهم على أمل الفوز بغنيمتهم.

من أشهر وسائل تهريب الآثار وأكثرها أمانا، هو خروجها عبر الحقائب الدبلوماسية.. حيث يلجأ كبار المهربين إلى بعض الشخصيات الدبلوماسية المهووسة باقتناء وبيع الآثار لتسهيل تلك العمليات سواء مقابل نسبة من قيمة الصفقة، أو حصولهم على بعض منها.

وما زال التاريخ الحديث يذكرنا بـ«قضية الآثار الكبري»

التي تم الكشف عنها منذ سنوات قليلة، عندما تمكنت السلطات الإيطالية من ضبط الكثير من القطع الأثرية (21 ألف قطعة مهربة في حاوية دبلوماسية تابعة لدبلوماسي إيطالي بمشاركة المهرب المصري رؤوف غالي، سليل عائلة شهيرة من الوزراء آخرهم وزير المالية الأسبق). 

أيضا هناك شحنات الأثاث التي يتم إخفاء القطع الكبيرة والثمينة من الآثار بداخلها، كما حدث عندما تمكنت السلطات الكويتية من كشف تابوت فرعوني ضخم بداخل أريكة خشبية كبيرة.

أما القطع الصغيرة فكثيرا ما يتم تهريبها داخل حقائب السفر العادية وسط الملابس كان أشهرها عام 1980عندما كشفت مباحث مطار القاهرة عددا من القطع الأثرية المهمة التي تعود لعام 1500 قبل الميلاد مع أحد المسافرين.

أما أغرب حالات التهريب فتلك التي لجأ إليها صاحب شركة استيراد وتصدير في مدينة دمياط الساحلية المصرية، عندما وضع في حاوية كبيرة  كمية من النرجيلات (الشيشة) وبينها تماثيل من العصور الفرعونية واليونانية والرومانية حاول تهريبها لصالح رجال أعمال.

                  

المغامرة في التنقيب

مغامرة المهربين رغم صعوبتها إلا أن هناك خبراء في التنقيب غير الشرعي باتوا يدمنون خوض هذه المخاطرة على أمل الوصول إلى نهاية السرداب والتقاط قطعة ثمينة لتصل في النهاية إلى صالات المزادات العالمية، أو لأثرياء كبار من هواة اقتناء الآثار.  والخطير في الأمر أن هذه القطع لا يمكن لمصر استعادتها لأنها في الغالب غير مسجلة وتم استخراجها  عبر عمليات تنقيب غير مشروعة.

وتتباين التقديرات حول آثار مصر المهربة أو المنهوبة، لكن البيانات الرسمية الصادرة عن الوزارة المعنية والجهات المسؤولة تشير إلى أنه خلال الخمسين سنة الأخيرة فقدت البلاد حوالي 32.638 قطعة أثرية منها ما هو موثق وسرق من المخازن والمتاحف المختلفة علي مستوى الجهورية. وكانت أحداث ثورة يناير 2011 والفوضى التي عمت البلاد وراء سرقة نحو 3 آلاف قطعة موثقة، ما زالت السلطات تبحث عنها.

وبعيدا عن هذه الإحصائية الرسمية، يرجح الخبراء أن أرقام القطع الأثرية المهربة ربما يكون ضعف المعلن عنه، حيث إن أغلب السرقات تأتي عبر عمليات تنقيب غير مشروعة.

ويقدر الخبراء عدد القطع الأثرية المصرية الموجودة بالمتاحف ومع هواة جمع التماثيل الثمينة نحو المليون قطعة.

وقد تمكنت مصر منذ 2010 وحتى عام 2018 من استرداد 975 قطعة أثرية لعصور مختلفة من 10 دول، وجميعها كانت مسجلة وتحمل أرقاما مثبتة دوليا. 

كما شهدت السنوات القليلة الماضية جهودا مكثفة لوزارتي الخارجية والآثار أسفرت عن استرداد كمية كبيرة من القطع الأثرية التي نهبت من المتاحف والمخازن المصرية.

وتم استرداد 5 آلاف قطعة أثرية من أميركا كانت معروضة بمتحف الإنجيل المقدس في واشنطن.. وهي عبارة عن مخطوطات وورق بردي بكتابات باللغة القبطية والخط الهيراطيقي والديموطيقي.. ومخطوطات باللغة اليونانية وصلوات دينية مسيحية باللغتين العربية والقبطية.. وعدد من رؤوس تماثيل حجرية وبرونزية وعدد من الأقنعة الجنائزية

ومن لندن تمت استعادة 3 قطع مهربة بطريقة غير شرعية، عبارة عن تماثيل تعود للعصر الفرعوني واليوناني.. كانت معروضة للبيع بأحد صالات المزادات.

كما تم استرداد تمثال كاهن من العصر الفرعوني (تي كاو بتاح) كان معروضا للبيع في إحدى صالات المزادات في هولندا.

ومن بلجيكا تم استرداد تمثالين من العصر الفرعوني كانا معروضين للبيع في صالة مزادات دون أوراق ثبوتية المنشأ.

كما سلمت إسرائيل 95 قطعة أثرية إلى الحكومة المصرية كان قد تم تهريبها عبر فترات مختلفة.

ومن إسبانيا وبعد مشاورات وجولات عديدة بين وزارتي الخارجية والآثار بالبلدين استردت مصر 36 قطعة أثرية نهاية العام الماضي غالبيتها من التماثيل الفرعونية الحجرية والبرونزية كان قد تم تهريبها خلال عام 2014 عن طريق رجل أعمال بالإسكندرية.

ومن فرنسا تمت استعادة 114 قطعة أثرية أبرزها تمثالا أمنحتب الثالث، وحورس، ومجموعة أخرى تعود لحقب مختلفة لما قبل التاريخ والدولة المصرية الوسطي والحديثة وتمثالين للإله باستت، وأبيس، بالاضافة لأوانٍ وقطع فخارية وبعض الحلي.

 

مجموعة من الآثار المصرية المهربة التي تم استردادها عام 2021 (النيابة العامة المصرية)

نائب العفاريت.. ورجال الأعمال

ورغم ما يعلن من عقوبات والكشف المتوالي عن عصابات تهريب الآثار، إلا أن مسلسل التنقيب غير الشرعي ما زال مستمرا. والغريب في القضايا الحديثة أن أغلب المتورطين هم رجال أثرياء بالفعل ولهم مؤسسات تجارية أو وظائف ذات حيثية، لدرجة وصف البعض لهم بمدمني التهريب والمغامرة التي تكاد تودي بحياتهم.

ويشير الدكتور محمد بخيت المستشار القانوني أن آخر تعديل لقانون الآثار المصري في المادة رقم 41 ينص على أن «كل من سرق أثرا أو جزءا منه سواء كان مسجلا أو مستخرجا من حفائر بطرق شرعية أو غير شرعية يعاقب بالسجن المؤبد وبغرامة لا تقل عن مليون جنيه مصري، وتصل إلى 10 ملايين جنيه بالإضافة إلى مصادرة الأثر»؛ على أن تقترن جريمة السرقة أو التهريب، بجريمة أخرى هي الإتجار غير الشرعي بالآثار.

ويرى خبراء الآثار أن الحل القانوني وحده لا يكفي، ولا بد من التوعية المجتمعية بالقيمة الحضارية للآثار وتراث الأجداد، والقيمة الاقتصادية للبلاد من الناحية السياحية. كما طالب الخبراء بتشجيع الأهالي على تسليم الآثار المكتشفة أو التي يعثر عليها بطرق الصدفة إلى الدولة مقابل مكافآت مالية وأخرى تحفيزية مثل دعوات لزيارة المعالم السياحية داخلية أو خارجية على حساب الدولة.

كما دخلت منظمة اليونسكو على الخط بإطلاق مبادرة لإعادة الآثار المسروقة إلى بلدانها الأصلية، وخصصت مكافآت مغرية لذلك.

وكانت القضية التي سقط فيها كل من النائب البرلماني السابق علاء حسنين والذي أطلق عليه (نائب العفاريت)، وشريكه رجل الأعمال المعروف حسن راتب، قد أثارت ضجة كبيرة، بسبب شهرة الرجلين.

فالنائب حسنين كان ضيفا على برامج تلفزيونية عديدة بدعوى أنه قادر على الاستعانة بالجان والعفاريت لعلاج الأمراض، قبل أن يتوجه مع شريكه راتب على أمل تسخير الجان للكشف عن الكنوز الأثرية المختبئة في باطن الأرض.

وقد تم ضبط النائب البرلماني مع شقيقه و22 آخرين وفي حوزتهم 201 قطعة أثرية، وتم اتهامه بتزعم تشكيل عصابي للتنقيب عن الآثار وسرقتها وإخفائها بأحد أوكارهم بمصر القديمة. بينما وجهت لراتب تهمة تمويل عمليات الحفر والتنقيب لشريكه. وأصدرت المحكمة قرارها بسجن علاء حسنين و4 آخرين 10 سنوات، وحبس راتب 5 سنوات.

 

شقة الزمالك وكنز علي بابا

ولعبت الصدفة دورها في الكشف عن كنز أثري هام يحوي المئات إن لم يكن الآلاف من القطع الأثرية من كافة العصور ومختلف الحقب، بالإضافة إلى مخطوطات.. ولوحات فنية.. ومجوهرات.. ومقتنيات ثمينة.. في شقة بالزمالك. إنها حقا «مغارة علي بابا» التي فتحت بعد أمر قضائي إثر نزاع مالي بين ورثة صاحب الشقة ومالك العقار ليتم اكتشاف الكنز الكبير.. ويؤكد ورثة صاحب الشقة أن المحتويات المتواجدة هي من تراث أجداده ولديهم كل الوثائق المستندات الدالة على ملكيتهم لها وبطرق مشروعة. الدولة وضعت يدها على محتويات الشقة والخبراء يفحصون، لكن الأكيد أن المحتويات كنز لا يقدر بمال.

 

كنوز تحت المنازل

وفي شمال العاصمة القاهرة وبالتحديد منطقة عين شمس، المقامة على أطلال «مدينة أون» التي كانت تعتبر بمثابة جامعة علمية لعاصمة البلاد في ذلك الوقت في العصر الفرعوني، تم ضبط 8 أشخاص يقومون بالحفر أسفل عقار للتنقيب عن آثار تحته بالاستعانة أيضا بأحد الدجالين. وبالفعل عندما داهمت الشرطة العقار وجدت مقبرة أثرية بداخلها تابوت لملك فرعوني.

وفي نفس المنطقة تم ضبط 3 أشخاص وبحوزتهم مجموعة من القطع الأثرية ولوحة كبيرة وعدد من التماثيل الحجرية مختلفة الأشكال والأحجام عثروا عليها أسفل منزل، وكانوا يعدون لبيعها لأحد التجار.

وفي أسيوط وسوهاج المدينتين الجنوبيتين والغنيتين بالآثار تم ضبط عامل بحوزته 54 قطعة فرعونية عثر عليها عند الحفر أسفل منزله. أما في مركز المنشأة بسوهاج فقد عثر عامل آخر على 30 قطعة من التماثيل الحجرية الفرعونية أثناء الحفر أيضا تحت جدار عقار يمتلكه.

كما كانت للصدفة دورها في الكشف عن مقبرة من العصر الروماني بمنطقة التل الأثري بسوهاج مكونة من غرفتين كاملتي النقوش والرسومات.. وبها 3 مومياوات. فمن خلال فيديو مع أحد الأشخاص (سائق) ظهرت مقاطع وصور لآثار داخل مقبرة، وبعد القبض عليه اعترف أنه وبعض الشركاء عثروا عليها بطريق الصدفة خلال عملية حفر.

ومن أطرف الوقائع ما شهدته منطقة نزلة السمان القريبة من أهرمات الجيزة، عندما استغل عروسان ليلة زفافهما والضجيج الذي حول منزلهما لاستخراج 30 قطعة أثرية من مقبرة تم اكتشافها أسفل البيت، لكن الفرحة لم تكتمل، حيث تم القبض عليهما ومصادرة المضبوطات.

 

قطع أثرية نجحت مصر في إحباط تهريبها للخارج (وزارة السياحة والآثار المصرية)

 

مغامرات.. ونهايات

إذا كان بعض المغامرين ينجحون في الوصول إلى الكنز.. فإن هناك من يلاقي الحظ السيئ أو النهاية المأساوية. ويرى اللواء أمين عز الدين مساعد وزير الداخلية لأمن الإسكندرية سابقا أن الكثير من المغامرين تأخذهم أحلامهم بعيدا.. أو يخدعهم دجال بالسحر على أمل الوصول لكشف هام. ويقول عز الدين: «المأساة الكبرى أن كثيرا من المغامرين بعمليات التنقيب غير الشرعي، تنهار عليهم الحفائر ويلقون حتفهم خنقا داخل السراديب. أما الناجون منهم فلا يجدون سبيلا لتهريب بضائعهم ويتم القبض عليهم».

ومن أمثلة ذلك ما حدث عام 2009 عندما لقي 4 أشخاص حتفهم أثناء التنقيب عن أثر فرعوني أسفل عقار.. حين سقطوا جميعا داخل حفرة بعمق 8 أمتار وانهارت عليهم بعد ذلك مخلفات الحفر وهم داخل تجويف صخري بمنطقة قريبة من الأهرام. وفي مدينة الفيوم تم انتشال 3 جثث لعمال من حفرة عميقة سقطوا فيها أثناء التنقيب عن الآثار بقرية قرب بحيرة قارون. وعاملان في منطقة مصر القديمة نقبا في حفرة عمقها 7 أمتار بجوار جدار مسكنهما وماتا اختناقا.

ويرى خبير الآثار دكتور زاهي حواس أن أسطورة لعنة الفراعنة حمت الآثار لسنوات عديدة... ويشير في كتابه «الحارس» أو مذكراته الشخصية إلى أن الآثار المنهوبة خلال أحداث ثورة يناير 2011 عاد معظمها بالصدفة. ويذكر منها:

عثر صبي عمره 16 سنة كان ضمن المتظاهرين على تمثال أخناتون الذي يعد من أهم آثار المتحف المصري في صندوق قمامة وأخذه إلى منزله بالمعادي.. لكن أسرته أعادت التمثال.

ويروي أيضا: التقي مفتش الآثار محمد عبد الرحمن بالصدفة مع أحد المتظاهرين الذي أخبره أنه عثر على مجموعة من القطع ويريد أن يعرف قيمتها.. فاتصل المفتش بالشرطة وتم إعداد كمين وضبط الرجل ومعه حقيبة كبيرة مملؤة بقطع أثرية.. وتمت إعادتها للمتحف.

كما نجح مشرف صيانة بوزارة الآثار في إعادة مجموعة قيمة من الآثار المنهوبة في أحداث يناير أهمها تمثال توت عنخ آمون، مكتوب عليه بماء الذهب، وتمثال خشب لتوت عنخ أمون، ومجموعة من الأواني الذهبية والبرونزية.

ويروي مشرف الصيانة أنه كان يجلس على مقهى بجوار وزارة الثقافة وسمع بالصدفة مشادة بين 5 أشخاص لنزاعهم علي مجموعة من القطع الأثرية مسروقة من المتحف.. وأن أحدهم كان يريد إعادتها للدولة وآخرين يريدون بيعها، لكنه تدخل وأقنعهم بتسليمها لأنها مسجلة ولن يستطعيوا بيعها.

 

سرقة الآثار في الدراما

ولأنها قضية متواصلة الأحداث، لم تبتعد سرقة الآثار وتهريبها عن الأعمال الدرامية سواء في الأفلام أو المسلسلات. وتعرض النجم هاني رمزي للقضية في فيلم «نمس بوند» عندما تقمص دور ضابط شرطة يحقق في قضية قتل، قادته في النهاية إلى عصابة كبيرة لتهريب الآثار. كما كشف مسلسل «جبل الحلال» بطولة النجم محمود عبد العزيز عن مدى إدمان رجال أعمال رغم تمتعهم بالثراء والنفوذ بالعمل غير الشرعي للتنقيب عن الآثار وتهريبها. وأخيرا مسلسل «طايع» الذي كشف عن شخصيات نافذة بالمجتمع تقوم بتهريب الآثار عبر الحقائب الدبلوماسية ومن خلال رجال أصحاب نفوذ.

 

font change

مقالات ذات صلة