«دافوس الصحراء».. رسائل اقتصادية سعوديّة ثقيلة بعمق سياسي نحو العالم الجديد

1- بدأت فكرة «منتدى دافوس الصحراء» عام 2017 في إطار خطة السعودية لتنويع اقتصادها (غيتي)  

«دافوس الصحراء».. رسائل اقتصادية سعوديّة ثقيلة بعمق سياسي نحو العالم الجديد

جدة: تحمل مبادرة الاستثمار التي يحتضنها مؤتمر دافوس الصحراء هذا العام معنى مختلفاً عن النسخة الأخيرة العام الماضي، ويمكن وصف الاختلاف بأنه جوهري- رغم قصر الزمن- فلا مبتكر هذه التظاهرة الاقتصادية، ولي العهد السعودي، هو نفسه، ولا السعوديّة هي ذاتها، ولا علاقاتها وتحالفاتها الإقليميّة والعالمية وأوضاع سوق النفط والاقتصاد المحلي والعالميّ هي ذاتها. ويمكن القول أيضاً إن أهمية «دافوس الصحراء»بدأت بخطف الأضواء من دافوس السويسريّ، ونسخه المتنوعة في أماكن أخرى، في إشارة مفهومة إلى تعميق مكانة المملكة عالميّاً، وما يتلو ذلك من ثقل يترافق مع الأحداث والمناسبات والمشاريع، التي تحمل بصمات السعودية.

فولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، أصبح رئيساً لمجلس الوزراء السعودي، الأمر الذي يوحي للعالم بأنه حظي بالثقة الملكية المتمثلة في التفويض الثابت بالإدارة التنفيذية للبلاد، وأن قيادة السعودية الجديدة أكثر جهوزية من أي وقت مضى للتفاعل مع متغيّرات العالم وانزياح القوى وانتقال ثقل الاقتصاد إلى «أوروبا الجديدة»، وهو وصف أطلقه ولي العهد على «الشرق»الممتد من السعودية غرباً، وصولاً إلى الصين شرقاً. إنه وصف يفيد بتضمين الدول الصاعدة بقوة مثل روسيا وجنوب أفريقيا والبرازيل وبعض الدول الأفريقية. ويمكن النظر إلى المشهد السيريالي الذي تدمر فيه أوروبا ذاتها بحروب طاحنة، كانت، منذ القدم، وإلى الآن تفضي إلى سؤال وجواب حول من يحكم العالم بعد الحروب!

منذ عهد الملك الراحل، مؤسس الدولة السعودية الحديثة (الثالثة)، قرأت الإدارة السياسية للبلاد موازين القوى العالمية جيداً، فحصل التحالف مع الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية؛ رغم أن ما قبل الحرب لم يكن يوحي بأفول الإمبراطورية البريطانية. وظل الاستعداد للتغيير قبل حصوله مع منح امتيازات التنقيب عن النفط لشركات أميركية واعدة- آنذاك- بصعود دولة عظمى وعالم آخر، قد يأتي غيره بعد حين بحكم طبيعة التجديد الحتمية. ألم تقل العرب: «من لا يتجدد يتبدد».

تغير الزمن، لكن الطبيعة البشرية باقية. فعندما تكتمل عناصر التغيير في المشهد العالمي (صراعات، أزمات، عقوبات.. إلخ) يحدث انزياح القوى، وهو أمر يبدو واضحاً أنه يحدث لصالح المستعمرات القديمة في الشرق والجنوب. ولا تزال الدولة السعودية الحالية تحمل جينات المؤسس وبصمته الشخصية بعد قرابة 7 عقود من رحيله.

توجه السعودية رسائل اقتصادية من الوزن الثقيل، وليست السياسة إلا تجسيداً للاقتصاد، إلا أن السعودية الجديدة تفسح للبرغماتية مكاناً، فالأبواب مفتوحة لمن أراد من أيّ مكان كانوا. ما الذي يمكن استبطانه من رسائل خفية وظاهرة في «دافوس الصحراء»2022!

 

نرحب بالجميع شرط التكافؤّ!

أفسح «دافوس الصحراء»، وهو اسم ذو دلالة بالغة المغزى من ناحية الهوية النفسية والبصرية، وكذلك الطاقة والقدرة على استثمارها، أفسح المجال أمام الجميع للحضور، من أصغر الدول إلى أكبرها، بشرط وحيد، يتمثل في التكافؤ في التعامل ونظرة كل طرف إلى الآخر.

بالنسبة للاسم، ليست الأنهار والبحار والأراضي الخصبة هي ما يصنع الحضارة، فالصحراء شحيحة الماء وقليلة الكلأ، لكن العقل اللامع مع ثروات الأرض، يصنعان حضارة جديدة أيضاً، فيها السياحة والصناعة والفنون.

قبل أيام، تحدث الصحافي الفرنسي المخضرم جورج مالبرونو عن عدم دعوة أي سياسي أميركي لحضور «دافوس الصحراء»2022. وقد أثار الخبر بعض الحديث عن تحولات في السياسة السعودية، وبخاصة مع دعوة وفدين، روسي وصيني، كبيرين.

لكن الحقيقة في مكان آخر!

يقولون عارفون بشخصية ولي العهد السعودي أن الرجل يصر على التكافؤ في التعامل، بغض النظر عن وجهة الطرف الآخر. لم يكن الباب السعودي مغلقاً أمام الأميركيين، ولا غيرهم من الآسيويين أو الروس أو اللاتينيين أو الأفارقة. فليس هناك حديث عن ابتعاد أو اقتراب من الولايات المتحدة أو غيرها. كل من يقبل التعامل المتكافئ، ترحب به المملكة.

ليس من المعقول أن يتحول الكونغرس إلى منبر لعداء السعودية. من أراد من السياسيين الأميركيين الاطلاع على ما لدى المملكة، فإنه ليس لديها ما تخفيه. طريقة الإملاء والتعامل مع جمهوريات الموز- بحسب وصف وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية، عادل الجبير، قبل أعوام- لا تجدي!

ومن أردا من السياسيين الأميركيين أن يكون صديقاً للمملكة، فلا مانع من دعوته أو حضوره لـ«دافوس الصحراء»أو غيره من الأحداث الاقتصادية السعودية المتتالية.

 

اقتصاد وسياسة

تتبع إدارة السعودية الجديدة أسلوباً برغماتياً في التعامل مع الاقتصاد بما يخدم مصالح المملكة. فالشراكات الاقتصادية السعودية، تنمو بالتوازي مع إفساح المجال للشركات العملاقة ومتعددة الجنسيات، أيا كانت ملكيتها، للعمل بحرية في المملكة. فمثلاً أمازون الأميركية تعمل في المملكة بمقرات عملاقة، شأنها شأن هواوي الصينية.

السوق السعودية مفتوحة على الاستثمارات بكافة أشكالها مع تركيز خاص على الابتكار. وليس الابتكار بالنسبة للسعودية، ترفاً، بل إنه حاجة ملحّة بفضل وجود مشاريع عملاقة، قائمة على الابتكار، ولا شيء غيره، مثل «نيوم»و«ذا لاين»، وهي مشاريع تحتاج إلى عقول وخبرات من كل أنحاء العالم. وهكذا، يصبح دافوس الصحراء، منصة لاستعراض الابتكار السعودي ودعوة العالم إلى تنميته ومنحه قيماً مضافة؛ ليكون نقطة مضيئة في تقدم الإنسانية.

يعطي «دافوس الصحراء»إشارة للمستثمرين الدوليين، بأن البلاد تتمتع بملاءة مالية هائلة، تمكنها وحدها واعتماداً على قدراتها الذاتية، من تمويل فرص لا محدودة ومشاريع ذات أثر محلي وإقليمي ودولي. ويمكن التعويل على نمو اقتصادي مرتقب لعام حافل بالتحديات.

 

... والطاقة

يمثل «دافوس الصحراء»منبراً سعودياً يتوجه للعالم؛ ليؤكد إمساك السعودية بحصة وازنة ومقررة في سوق النفط العالمية، وحيدة وبالتعاضد مع الشركاء أيضاً، مع التأكيد على أنها ضامن أمن الطاقة؛ دون أن تحدد سقوفاً سعرية- كما صرح وزير الطاقة والثروة المعدنية، الأمير عبد العزيز بن سلمان.

إن المملكة ملتزمة بضبط جموح أسواق النفط بالتعاون مع شريك أثبت موثوقيته حتى الآن، ممثلاً في روسيا ضمن منظومة «أوبك+»، الأمر الذي يعني عدم ترك السوق للشح أو التخمة، وتفادي حصول اختلالات سعرية مؤذية.

إن البرود الديمقراطي تجاه المملكة، ليس جديداً عليها، فقد كان بيل كلينتون آخر رئيس يقدر المصالح السعودية- الأميركية ويتفهمها. وإن إصرار أكبر منتج- وليس مصدّرا- للنفط في العالم، وهو الولايات المتحدة، ودخولها القوي على خط الغاز المسال، وبيعه لأوروبا بخمسة أضعاف ثمن الغاز الروسي، على تحميل المملكة وزر اختلالات سوق النفط وغلاء الخام الأهم للمشتقات النفطية التي تباع داخل الولايات المتحدة، مسألة محيرة!

جدير بالذكر أن أهم وجهات تصدير النفط السعودي تذهب غالبيتها العظمى إلى الشرق، حيث النمو والازدهار وتشكل ملامح عالم جديد، تكون السعودية أكثر تأثيراً فيه.

 

الشركاء الدوليون

عام 2000، كان التبادل التجاري السعودي- الصيني 3 مليارات دولار، ثم تضاعف في عقدين ليلامس حدود 70 مليار دولار، وهو ضعف حجم التبادل التجاري السعودي- الأميركي البالغ نحو 37 مليار دولار بنهاية العقد الثاني من الألفية الجديدة. ومن المفيد ذكره أن الميزان التجاري راجح لصالح السعودية بفارق معتبر.

إن طبيعة الأمور والقوانين والأعمال، تقود إلى الاهتمام بشكل أكبر بمن يتضاعف معهم التعامل التجاري، فكلما زاد حجم الأعمال بين البلدين، زادت الملتقيات وكثر التنسيق واشتبكت المصالح أكثر فأكثر. ليس هذا النمط من التفكير والتعامل، موجهاً ضد أي شريك تجاري خارجي للمملكة، بل إنها حقائق السوق.

تلك الحقائق التي تشكل واقعاً سعودياً جديداً على كل الأصعدة، هي في صلب الرسائل السعودية إلى العالم. وينبغي الانتظار أكثر، فربما رأينا النسخة المقبلة من «دافوس الصحراء»بمعطيات جديدة وعالم غير الذي نعرفه أو أن نكون في الطريق نحو ذلك.  

font change