ستيفن سبيلبرغ يعود إلى صباه

ستيفن سبيلبرغ

ستيفن سبيلبرغ يعود إلى صباه

لندن: يختلف فيلم ستيفن سبيلبرغ الجديد «The Babelmans» عن باقي أفلام المخرج الشهير من أكثر من زاوية أهمها أنه ليس عن سام فابلمان، بل عن ستيفن سبيلبرغ نفسه. هذا هو فيلم سيرة شخصيية يحكي فيها سبيلبرغ عن نشأته وعائلته وحبّه للسينما وكيف أحبها لدرجة أنه وقف- مع نهاية الفيلم- على عتباتها الأولى مخرجاً.
لماذا لم يضع قصّة الحياة تحت اسمه أمر يعود إلى أن هذا سيقلّص عدد المشاهدين الذين يودون مشاهدة فيلم يقترح قدراً من الخيال حتى وإن كان سيرة شخصية. والسبب الثاني هو أن سبيلبرغ ليس بحاجة إلى أن يكون مخرج الفيلم وشخصيّته المباشرة أيضاً.. قليلون هم من فعلوا ذلك ونجحوا.
نتعرّف على سامي فابلمان (غبريال لابيل) صغيراً خارج صالة سينما في مدينة نيوجيرسي تعرض فيلم سيسيل ب. دميل The Greatest Show on Earth المُنتج سنة 1952. سبيلبرغ ولد سنة 1956 ما يجعل المشهد مقبولاً لأن الغاية منه الكشف عن أن سبيلبرغ/ سامي كان صغيراً لكي لا يخاف من مشهد حطام القطار في ذلك الفيلم، لكن المشهد والخيال الذي حمله هو بدوره كان نوعاً من الدواء إذ جعله يتعلّق بالأفلام ويعشق- لاحقاً- تصويرها بالكاميرا التي اشتراها والده له.

سامي الصغير


بعد ذلك يقفز الفيلم بنا إلى سامي وهو في سن المراهقة. الآن هو أكثر شغفاً بالأفلام ويصوّر عائلته بتلك الكاميرا أو يدعو رفاق المدرسة لمشاهدة الأفلام بعدما انتقل وعائلته إلى ولاية أريزونا.
هذه الولاية، في مطلع الستينات، لم تكن بعد قد تدرّجت في فهم القوميات الأخرى. سام، اليهودي، تعرّض للعنصرية من قِبل بعض رفاقه ما أدّى لمشاحنات. في الواقع، لم يكن سبيلبرغ بذاته يحتاج إلى المرور في أنبوب هذه التجربة لكي يتبنّى مفاهيمه السياسية التي وشت بتحقيق أفلام تحمل على الألمان حيناً والعرب حيناً وأخرى تبث ذلك القدر من الاهتمام بكل ما يدخل في نطاق التجربة اليهودية من «لائحة شيندلر» إلى كل تلك الأفلام التسجيلية التي أنجزها حول إسرائيل.
هذا جانباً، ليس سوى أحد ما يندفع إليه «ذَ فابلمانز» لكنه ليس الوحيد ولا الأهم. في بال سبيلبرغ المضي بسرد حكاية سامي حتى بداية ولوجه الإخراج (تلفزيونياً أولاً ثم سينمائياً) في أواخر الستينات. بذلك فإن الفيلم الذي يبدأ بسامي صغيراً يشاهد فيلماً أثار مخاوفه، ينتهي به شاباً يحقق أول أفلامه في رحى أحد الاستوديوهات.

من «ذَ فابلمان»

سلسلة مواعظ
ينضم «ذَ فابلمانز» (أو «عائلة فابلمان») إلى عدد متزايد من الأفلام التي تروي جوانب من حياة مخرجيها. جيمس غراي يوفر هذه الأيام أيضاً سيرته الذاتية في «زمن القيامة» (Armageddon Time) الذي يتناول حياته في كنف عائلته (اليهودية أيضاً) إنما على نحو أكثر تحدّياً من ذلك الذي يجيء به سبيلبرغ في فيلمه هذا. غراي يدمج السيرة بالمفهوم السياسي للعنصرية ويقدّم شخصيته الأولى (يقوم بها بانكس ربيتا) منفتحاً على ضرورة التآخي بين العناصر والأجناس البشرية.
في العامين الماضي والحاضر شاهدنا كذلك فيلم شارلوت وَلز Aftersun وفيلم كنيث براناف «بلفاست» وفيلم أليهاندرو غونزاليز إيناريتو Bardo وكلها سير شخصية. حتى فيلم كاميرون كراو Almost Famous إنتاج 2000 الذي تعرّض لمرحلة من حياته تم تحويله إلى مسرحية تعرض في نيويورك حالياً.

«زمن القيامة»

ما يزعج في تجربة سبيلبرغ الجديدة (وهو أمر لم يلتفت إليه نقاد الولايات المتحدة كثيراً) هو السذاجة العاطفية التي تحوّل كل شيء إلى تبسيط رغم جديّة المعروض. كعادته يهتم سبيلبرغ بالسرد بحد ذاته تاركاً العمق والتعمّق في نهاية سلّة المشتريات. كل شيء هنا لامع (حتى شخصية والدته التي تقوم بها ميشيل وليامز التي لا نفهم كثيراً عن أسباب سلوكها بل نتابعه فقط).
ضمن هذا التبسيط يلجأ الفيلم (كتب سبيلبرغ السيناريو مع توني كوشنر) إلى سيل من المواعظ في حواراته. هذه بعضها:

«الأفلام هي أحلام لن تنساها».
«الفن خطير مثل قم أسد» Art is dangerous as a lions mouth
«نحن مدمنون والفن هو مخدّرنا» We are juncies and art is our drug
«الحياة تغيّر مظهر كل شيء» Life changes the look of everything
«تفعل ما يخبرك به قلبك» You do what your heart tell you to do

بمثل هذا القدر من المواعظ يقترح الفيلم أن نقبل بها كجواب على كيف صاغ بطل الفيلم (وظلّه سبيلبرغ) حياته المهنية والشخصية.
على ذلك، ليس هناك شك في أن الفيلم سيدخل قاعة الأوسكار في العام المقبل. وقد يحدث ذلك لجانب دخول «زمن القيامة»، و«باردو» منصّة التنافس على أحد الأوسكارين الرئيسيين: أفضل فيلم وأفضل مخرج. سبيلبرغ ليس غريباً على الأوسكارات إذ تم ترشيحه 15 مرّة بدأت سنة 1978 بسباق أفضل مخرج عن Close Encounter of the Third Kind وورد آخرها في العام الماضي عن West Side Story كأفضل فيلم وأفضل مخرج. وهو فاز في الواقع بثلاث أوسكارات من بين هذه الترشيحات اثنان منها عن «لائحة شيندلر» (Schindler's List) كأفضل فيلم وأفضل مخرج. الفوز الثالث حدث سنة 1999 عن «إنقاذ المجنّد رايان» (Saving Private Ryan) كأفضل مخرج.

سباق الأمس
صوّر بعض الإعلام الافتراضي فيلم «قصّة الجانب الغربي» على أساس أن فوزه بأوسكار أفضل فيلم وفوز مخرجه بأوسكار أفضل مخرج هو تحصيل حاصل لا شك فيه. لكن الجائزتين ذهبتا إلى فيلم أسوأ ((CODA للمخرجة Sian Heder ولمخرجة لم توفّر أفضل أفلامها بدورها هي جين كامبيون عن Power of the Dog.
كان في سباق أفضل فيلم أيضاً فيلم السيرة «بلفاست» لكينيث براناف الذي ورد اسمه في سباق أفضل إخراج أيضاً.
بالنسبة لستيفن سبيلبرغ فإن «قصة الجانب الغربي» هو أول فيلم ميوزيكال حققه وهو الذي جال بين أنواع قصصية كثيرة فأنجز الخيال العلمي والفانتازيا والدراما وأفلام الحرب والجاسوسية أساساً. وهو مستلهم من مسرحية وليام شكسبير «روميو وجولييت» بعدما سطا عليها جيروم روبنز وحوّلها إلى مسرحية باسمه نالت نجاحاً كبيراً في نيويورك ولندن. بعد ذلك قام روبرت وايز بتحقيقها فيلماً سنة 1961 وذلك الفيلم هو الذي نال الأوسكار في العام التالي كأفضل فيلم وأفضل إخراج لجانب 8 جوائز أخرى.
كان هذا الفيلم الميوزيكال الجيد (أفضل من نسخة سبيلبرغ) ثاني اقتباس يقوم به سبيلبرغ عن فيلم تم صنعه من قبل. ففي سنة 2005 قام سبيلبرغ بتحقيق «حرب العالمين» (War of the Worlds) المأخوذ عن فيلم بايرون هسكين (المقتبس بدوره عن رواية هـ. ج. وَلز).
لكن عدم قيام سبيلبرغ بإعادة صنع أفلام أخرى أعجبته صغيراً لا يعني أنه ليس خريج كل تلك الأعمال التي تابعها بشغف حين كان ما زال صبياً. في الخمسينات بلغ شغفه بالتصوير أن أهداه كاميرا لازمته لبضع سنوات أخرى قبل أن يبدأ برنامجاً دراسياً مفاده الوقوف عند بوابة شركة يونيفرسال منتظراً السماح له بالدخول. بالنسبة إليه كان الاستوديو بمثابة ملاهي مدينة وولت ديزني لسواه. وفي البداية اكتفى حراس الأمن عند البوابة بملاحظته واقفاً لأكثر من ساعة في كل يوم إلى أن أبلغ عنه أحدهم مسؤوليه فاستحصلوا له على بطاقة زائر.

ميشيل وليامز وبول دانو

أفلام هابطة
من هنا وصاعداً كان عليه أن يقدم على الخطوة التالية وهي البحث عن عمل ليبرهن من خلاله عن جدارته. في البداية سمحت له يونيفرسال بالجلوس مع فناني التوليف في الاستوديو ليتعلم وليساعد في الشؤون الصغيرة التي يحتاجها المونتير. هذا العمل كان تطوعاً لكن سبيلبرغ، بعد حين، أقنع الشركة الكبرى بأن تمول له أفلاماً قصيرة وهذه كانت مدخله إلى تحقيق بضعة أفلام تلفزيونية وأحدها «مبارزة» (Duel) شق طريقه للعروض السينمائية سنة 1971 وأعجب الروّاد. آنذاك أدركت يونيفرسال أن لديها فارساَ جديداً فقامت بتمويل فيلميه السينمائيين اللاحقين «شوغرلاند أكسبرس» (1974) و«جوز» (1975).
الباقي هو من التاريخ الذي تألفت مراحله من وثبات نجاح عدة وسريعة ولو أنه من الخطأ الاعتقاد بأن كل ما حققه سبيلبرغ تحوّل إلى ذهب. بعض أعماله تبلورت كأفلام محددة النجاح أو غير ناجحة على الإطلاق بداية بفيلمه «1941» سنة 1979 وانتهاءاً بـ«The BFG» سنة 2017. رغم ذلك هو من بين أكثر المخرجين نجاحاً وقوّة في هوليوود وحول العالم بالفعل.
سبيلبرغ مدينة صناعية بحد ذاته. أنتج حتى الآن 167 فيلماً وأخرج (للسينما فقط) 58 فيلماً إلى الآن. العديد من أفلامه حققت نجاحات مذهلة من بينها سلسلة Jurassic Park التي تحوّلت إلى Jurassic World وسلسلة Indian Jones كما- بالطبع- فيلماه Close Encounter of the Third Kind وE.T. The Extra Terrstrial
لكن إخفاقاته التجارية والفنية كثيرة أيضاً وعادة لا يعمد المؤرخون والنقاد أخذها بعين الاعتبار عندما يتناولون سيرته.
بعض هذه الإخفاقات تعود إلى الثمانينات والتسعينات ومن بينها فيلم «1941» وHook وAlways بعضها الآخر ورد في سنوات متأخرة كما حال Ready Player One سنة 2018 و The BFG سنة 2016 وThe Adventures of Tintin في العام 2011.
هذا الأخير من نوع الرسوم المتحركة التي كان من المفترض بالمخرج الآخر بيتر جاكسون (سلسلة The Lords of the Ring) ) تحقيق جزء ثان منه لكن فشله التجاري أوقف تلك الشراكة. وبيننا لم يكن فيلم سبيلبرغ إنجازا جيدا في مستواه. ما ذهب إليه من تصوير شخصية تان تان التي وضعها البلجيكي المعروف باسم واحد هو Hergé مختلف في مفاداته وتفسيره كما في شخصيته عن تلك التي وضعها الكاتب.
في العام 2011 أيضاً قام سبيلبرغ بتحقيق فيلم آخر مقتبس عن رواية للصغار (كما للكبار أيضاً) وضعها مايكل موربورغو، بعنوان War Horse حتى أتباع سبيلبرغ من النقاد عاب على سبيلبرغ سوء تنفيذه لذلك الفيلم.

font change