السينما حسب بيلا تار

بيلا تار

السينما حسب بيلا تار

 لندن: يحتفي مهرجان القاهرة في دورته الرابعة والأربعين المقامة حالياً، بمخرج من طراز نادر اسمه بيلا تار. ربما ليس بشهرة تاركوفسكي الروسي ولا برغمن السويدي ولا جان- لوك غودار الفرنسي، لكنه لا يقل عنهم إبداعاً وتميّزاً عن السائد الذي نستقبله في يومياتنا العادية كل سنة.
بيلا تار مخرج لديه أسلوب فذّ في استعراض وتقديم حكاياته التي تتمحور، في غالبيّتها حول تأثير الإنسان في المجمع وتأثير المجتمع على الشعوب بما فيها مسائل الغزو الثقافي والاقتصادي وحتى العسكري.
إذ يحل ضيفاً على مهرجان القاهرة فإن المناسبة استدعت أن يكشف الذين لم يعرفوه من قبل عن بعض أفلامه التي عرض منها المهرجان فيلمين هما The Turin Horse وWerkmeister Harmonies، بالإضافة إلى عروض هذين الفيلمين أقام ندوة تحدّث فيها بيلا تار عن أعماله ونظرته وكيف تنفرد وتختلف عن أساليب أخرى.
المشكلة هي أن الندوة سبقت العروض مما جعل الحضور غير قادر على الربط بين ما وفّره المخرج المجري من آرء ومعلومات حول سينماه.

نوافذ مغلقة
ولد بيلا تار في مدينة بيكش، المجر، سنة 1955 وتخرج من أكاديمية المسرح سنة 1981. أخرج أول أفلامه الروائية الطويلة (بعد فيلم قصير واحد)  سنة 1979 بعنوان «عش العائلة» سنة 1979.
فيلمه التالي عن The Outsider سنة 1981 المأخوذ عن رواية ألبير كامو. بعده أنجز نسخته من ملحمة «ماكبث» لحساب التلفزيون المجري قبل أن يعود إلى السينما في 1982 ليقدّم فيلماً بعنوان Frefab People.
كل هذه الأفلام كانت بمثابة بدايات الطريق صوب العمل الذي هز به السكون الراكد حول السينما المجرية ووضعه في مرتبة فنية أعلى بكثير مما كان حققه حتى ذلك الحين. ففي سنة 1994 (وبعد أن غاب عن الإخراج لبضع سنوات) قدّم فيلمه الرائع «Satantango» الذي شوهد في مهرجان تورنتو في العام ذاته.

«ساتانتاغو» رفع أسهمه للشهرة


الفيلم كان من 439 دقيقة بالأبيض والأسود واحتشد له جمهور (في العرض الثالث للفيلم)  نحو 70 متفرجا، لكن مع نهاية الفيلم بقي هناك عشرة مشاهدين نظراً لارتباط النقاد الحاضرين بأفلام أخرى أو خروج من لم يعجبهم أسلوب العمل.
كان هذا الناقد من بين العشرة الذين بقوا والذين خرجوا مبهورين بسينما تأملية تنتمي إلى أفلام تاركوفسكي وألكسندر سوخوروف وثيو إنجيلوبوس كفيلم تأملي بلحظات طويلة ومونتاج قليل. لكن على الرغم من هذا الانتماء إلا أنه تميّز، كما أفلام بيلا تار اللاحقة، بأسلوب خاص.
تحدّث تار في هذا الفيلم عن واقع بلدة كاسدة هاجر معظم من فيها. بقيت حانة يقع فيها مشهد التانغو بين شخوص هرمت نفسياً وبدنياً وليس لديها مكان آخر تلجأ إليه. بقي فيها طبيب بدين سكير ورجلان يلاحقهما المخرج تحت المطر وهما يسيران مسافة طويلة. على جانبي الطريق بيوت بنوافذ مغلقة.
سألته حينها: ما السبب في أن كل نوافذ البلدة مغلقة؟
أجاب: لو فتحتها لكان عليّ الحديث عن كل شخص فيها.
كانت إجابة غريبة على السائل أن يفكر فيها والزاوية الوحيدة لفهم ما قال هو ربط المشهد بحقيقة انتمائه إلى فيلم مُصاغ عن الوحدة التي تعتمر الباقين من أهل البلدة.

من «ألحان واكمايستر»

مرثاة
حين التقيت بالمخرج هنا، في القاهرة، في جلسة على غير موعد ذكّرته بذلك الحوار. ضحك وقال:
أتذكر هذا السؤال لأنك الوحيد الذي سألني إياه ولا زلت عند كلامي.
- ما رأيك في الفيلم الآن؟
أجاب: «رأيي ليس حيادياً. كل فيلم حققته كان نتيجة جهد كبير في الكتابة والتنفيذ لذلك لا أستطيع أن أقول إنني أحب مشهداً على آخر ولا فيلما على آخر، لأن كل أفلامي تخرج من منظومتي الفكرية ومن جهد كبير أبذله على الورق وفي التصوير».
قبل وصول مساعدته إليه للذهاب به للندوة المقامة له طرحت عليه سؤالاً آخر: هل توافق إذا ما وصفتك بأحد شعراء السينما؟
قال: «بالطبع ولو أنني لا أقصد أن أكون شاعراً بل أنقل من الحياة ما يُثير اهتمامي واقعياً. الشعر يأتي عبر الصورة ودلالاتها لكنه ممتزج بالدقائق الطويلة التي قد تستغرقها اللقطة. أفلامي مرثاة عن الأوضاع وربما هي سوداوية فيما تطرحه لكني لا أستطيع أن أنقل سعادة لا أشعر بها حولي».
مع مطلع «ساتانتاغو» ترقب دخول قطيع من البقر وسط البلدة الصغيرة التي ستقع معظم الأحداث فيها. الكاميرا تتحرك في «تراكينغ شوت» مواز لحركة البقر ولوقعها البطيء. هناك جدار قديم متآكل يقف حائلاً دون مشاهدة البقر كونه يقع بينها وبين الكاميرا، لكن الكاميرا تستمر بالتحرك متمهلة لتلتقط بعد نحو دقيقة او أكثر البقر وقد عاود الظهور بعد نهاية الجدار. يضعنا ذلك في مكان مهدوم. هناك مستنقع من الماء على طريق فيه حفر وما يبدو كما لو كان أشلاء عمارة. صوت كلب ينبح. صوت هدير غامض. صوت قطار بعيد.

وحدة
ليس مدخل الفيلم هو الغريب وحده، بل أيضاً الإيقاع المتهمل عن قصد جميل. لكن المقدّمة غريبة لأنها موحية بإيقاع الحياة في قرية مجرية في لحظة خاصّة من تاريخها. وهذه اللحظة لا يمكن عكسها عبر  أي إيقاع آخر. القرية انتهت قبل أن يبدأ الفيلم مشواره فيها وسنعرف أن أحد القلائل الذين بقوا فيها هو طبيب سكير آل على نفسه تسجيل وقائع ما قبل وما بعد موتها. هذه المقدّمة مسكونة، أيضاً،  بروح المكان. موحشة ويزيدها شعور الوحشة ذلك الصوت الهادر الذي استبدل المخرج الموسيقى به. المطر الهاطل  والكاميرا الساكنة التي تخشى أن تقدم على حركة تهز المسكون والموحش.
القصّة الشاسعة مسرودة بالإيقاع ذاته ما يمنح الفيلم وحدة فنية رائعة. وهي تدور حول شخص كان قدّم نفسه لأهل البلدة على أساس أنه سيخلّصهم من الفقر والعوز والفشل الإداري الذي  صاحب الفترة السابقة (الشيوعية من دون ذكر اسمها). لكن هذا الشخص، واسمه إرمياس (يصاحبه تابع اسمه بترينا) ليس سوى مخادع ينجح في سلب أهل البلدة ما كان بحوزتهم من مال. وإحدى القراءات المتوفّرة في الفيلم تقوم على أساس التقابل الموحى به بين شخصية إرمياس وبين شخصية المسيح من حيث إنه عائد من الموت وهو الوعد بالحياة الرغيدة التي لم- ولن- تقع (الرأسمالية).
يتدفق ذلك النوع من الشعر الموحش للطبيعة وللإنسان ويتكرر ذلك في مشهد الطبيب السكير. رجل بدين يسقط أرضاً. تقف الكاميرا فوقه وينتابك الشعور بأنه سقط ميّتاً. بعد نحو دقيقة أو دقيقتين ينهض بجهد. يمسك ببرميل صغير ويخرج من بيته ليلاً لكي يملأه بالخمر. تسير الكاميرا خلفه كما لو أنها تقوم بوصفه في مرثاة شعرية. الفيلم كله يحمل هذا المفهوم وتلك المعالجة.

«حصان تورينو»

ليست قصّة
الموضوع الذي يتطرق إليه المخرج المجري بيلا تار مرة بعد مرّة هو البؤس. إنه ليس الموضوع الذي يريد معظم الناس مشاهدته، لكنه الموضوع الذي ينبري إليه بضعة مخرجين حول العالم مميزين أساساً برغبتهم في عدم مشاركة هذا المعظم من الناس أهواءهم ومناهم وتفكيرهم وألوان حياتهم.
هم وحيدون كشخصياتهم وبيلا تار كذلك.
المرء لا يحتاج إلى اختيار مشاهد تدل على صور البؤس في أفلامه، بل يكفي أن يذكر هذه الأفلام. وكل الأفلام التي حققها واهتم بها هي انعكاس لبؤس الناس في عالمه. الصعوبة هي البحث عن كيف يثير هذا الموضوع الداكن اهتمام مثقفي ونقاد السينما حول العالم؟ لماذا نجد في هذه الأفلام حافزاً فنيا واضحاً؟ لماذا لا تنضوي أعماله تحت فئة الميلودراميات التي دأبت عليها سينمات أخرى؟
الجواب على هذه الأسئلة يكمن في أن بيلا تار لا يلفّق ما يعرضه. لكي يفعل ذلك عليه أولا أن يكون راوياً قصصياً، لكن تار لا يحقق أفلامه ليروي قصّة، بل يحققها وفي باله المحيط الاجتماعي العام والصدام الشخصي بين وضع وآخر. بين قديم وحديث. ثابت ومتغيّر. أحداثه القليلة، حتى في فيلم «تانغو الشيطان» لا تشكل محركاً ودافعاً سردياً، بل تبقى جزءا من العمل المنتمي إلى الحياة. بالتالي هو جزء من حياة مرصدة.
الحياة لا توفّر القصص كما نراها عادة. القصّة لكي تقع أحياناً ما تتطلّب سنوات، هذا إذا انتهت أحداثها عند حد معين.

جزء من الصورة
حين يدخل المرء أعماله يجد أن العالم الذي يختار هذا المخرج تصويره هو الفيلم نفسه. هذا العالم قد يكون البيت وقد يكون القرية أو البلدة، أو أي موقع  منعزل (عادة)، لكنه العالم كله بالنسبة لأبطاله الذين لا يعرفون من الحياة سوى محيطهم القريب.
لذلك يصدّق المرء كل ما يقدّمه المخرج إليه. يصدّق هذه السماء الضبابية وهي تمطر والبرد وهو يقرس الأبدان ويصدق الشخصيات الواقعة في العوز والمعاناة من تراكماته ونتائجه. يصدق ما في الفيلم بأسره من قراءات، سواء وافق عليه أو تحفّظ. فهذا ليس مهماً. فيلم لبيلا تار هو رأى ورؤية ومخرج وبسبب حسن المعالجة يحترم المشاهد ما يراه وما يقرأه شريطة أن يقبل شروط المخرج الفنية. التصوير المدقع في الرتابة. الإيقاع البطيء والحركة المحدودة والأحداث المتباعدة. أفلامه ليست جمالية- تزيينية (لا في التلقي الذهني ولا في  الاستقبال البصري)  والبعض في المجر وصفها بأنها «ليست جميلة» وفي مطلع الثمانينات بعد ثلاثة أفلام له فقط، وُصف بأنه «مخرج البشاعة».
لكن هذا جزء من الصورة الكبيرة. هناك الأسلوب الذي يعتمده المخرج لعمله. تلك اللقطات الطويلة زمناً كما لو أن الفيلم لا يعرف مقص المونتير والتصوير من بعيد ليحافظ على مسافة ليس عليه، كمخرج، تجاوزها صوب شخصياته. هذا ما يجعل المسافة قائمة أساساً بين المخرج وبين الفيلم كمادة مسرودة. لولا تلك المسافة ما كانت هناك حاجة لتقديم الأفلام بهذا الأسلوب ولتحوّل الفيلم من فن للقراءة إلى حكاية للمشاهدة. كما قال لهذا الناقد في حديث غير صحافي تم بيننا سنة 2001.

بيلا تار... وحيداً في سينماه


فيلم بيلا تار، أي فيلم لبيلا تار، يصفع الناظر بمشاهد من الصعب أن تُمحى من البال. في الحقيقة، فيلمه  الطويل جدّاً «تانغو الشيطان» كلّه يبقى في البال كما لو شوهد بالأمس بمشاهده الطويلة، معايشاته المتمددة التي لا يمكن معرفة متى ستنتهي صوب معايشة أخرى. بلقطاته التي تحرص على تأطير البيئة المنتقلة إلى الشاشة. بذلك يبقيها تحت الضوء وفي المدّمة. الساحة الكبيرة التي تتحرك عليها الأشياء والشخصيات معا. إنه كما لو أن المخرج يخشى (أو ربما يدرك) أنه لو اقترب كثيراً من الشخصيات التي لديه اضطر المشاهد لإهمال ذلك المحيط. على ذلك يسمح لنفسه بلقطات قريبة عند الضرورة خصوصاً في الحالات التي تعكس البؤس كاملاً.
الفيلمان المعروضان لبيلا تار في القاهرة هما من هذه السلالة ذاتها. لا يقلان عن «ساتانتانغو» مطلقاً في نواحي الإبداع والقدرة على مزج الواقع المعتم بذلك النحو من الشعر الوجودي الخاص.
بيلا تار الآن (في أواخر الستينات من حياته) مرتاح لأفلامه القليلة التي أنجزها. كان أعلن توقفه عن الإخراج وانصرافه لتدريس السينما وإلقاء المحاضرات حيث تتم دعوته. سألته قبل انصرافه عما إذا كان، كأي مخرج يبتعد عن عشقه للإخراج، نادم على ذلك القرار أو سيعود عنه. أجاب: «لا أعتقد لأن العمل يتطلب جهداً لم أعد أتحمّله. كنت بالطبع أستطيع تحقيق أفلام أكثر عدداً مما حققته حتى الآن (ثمانية) لو أني رضيت تنفيذ أعمال لا همّ لها أو بلا أسلوب خاص. لكني لست نادماً بل سعيد أني بأفلامي القليلة أرضيت نفسي وجمهوري. هذا يكفيني».

font change