المنهجية السعودية الرباعية في مكافحة الفساد

الفساد في المملكة العربية السعودية أصبح من الماضي

المنهجية السعودية الرباعية في مكافحة الفساد

جدة: أواخر الشهر الماضي، ضجت وسائل الإعلام السعودية والمنصات الرقمية، بفضيحة فساد خطيرة، قام بها رئيس جامعة سعودية، استغل فيها تفويضه بالإشراف على حسابات مصرفية؛ لاختلاس مبلغ يعادل 133 مليون دولار بالتعاضد مع شركاء آخرين.

لقد كانت القضية من الخطورة بمكان، حتى إن السلطات السعودية، اتخذت إجراءات فورية وقاسية فور اكتشاف خيوط الجريمة ومعطياتها وأدلتها الظرفية، وأمرت بالتشهير الفوري بالاسم وطبيعة القضية وأسلوب الفساد المتبع مع تكرار مكثف في اليوم نفسه واليوم التالي أيضاً. لقد شعر الجسم الأكاديمي السعودي بالخذلان من أشخاص يفترض أن يكونوا غيورين على المال العام وقيم الشفافية ونظافة الكف أكثر من غيرهم. ولذا، كان عقاب التشهير هو الجزاء الأوفى.

تقدم السعودية الجديدة صورتها لدى مواطنيها والمقيمين لديها، وكذلك الخارج، على أنها دولة قانون ومؤسسات، يصعب اختراقها بالفساد. ولعل جملة موجودة على موقع «نزاهة»، وهي هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، قالها ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان، تلخص نظرة الدولة السعودية إلى هذه القضية الشائكة: «الفساد في المملكة العربية السعودية أصبح من الماضي، ولن يتكرر بعد اليوم». لم يكن المقصود عدم حصول الفساد، فهو حاصل لا محالة في أكثر الدول شفافية، فالنفوس الخبيثة، موجودة في جميع المجتمعات؛ دون استثناء.. المقصود هنا هو اختفاء ثقافة الإفلات من العقاب على الفساد، وعدم الاكتفاء بالإعفاء من المنصب- إن كان المدان بالفساد موظفاً حكومياً- أو إعادة الأموال إلى خزينة الدولة، بل تجاوز ذلك نحو العقاب الشامل للفاسدين ومسهلي الفساد.

إن هذه الثقافة الجديدة المعززة بالأفعال، فتحت أفقاً جديداً لدولة القانون والمؤسسات، واتبعت منهجية منضبطة في مكافحة الفساد. نسلط الأضواء على هذه المنهجية وعناصرها الأربعة.

 

القروش قبل الأسماك الصغيرة

مع بدء توليه لزمام السلطة في المملكة، توعد ولي العهد السعودي، رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، بدعم كامل من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الفاسدين مهما علا شأنهم. وبالفعل كانت حملة مكافحة الفساد عام 2017، نقطة مضيئة في هذا المجال.

لم يكن يتخيل أحد أن تطال الحملة أشخاصاً ذوي مناصب مرموقة، وجرى استخلاص ما يقارب 100 مليار دولار، ذهبت لخزينة الدولة.

وقد تعرضت تلك الحملة لهجوم مضاد من قبل الصحافة الغربية بدعوى أنها تهدف للقضاء على المنافسين السياسيين لولي العهد؛ رغم أن جميع من جرى التحفظ عليهم بايعوا ولي العهد على السمع والطاعة. وهنا يظهر، أن استهداف الفساد على أعلى الرتب، يمتاز بالجدية والحزم والقوة في مواصلة هذا المسار.

ومن المعروف، أن أحد أهم مشكلات الدول العربية وغيرها، يتمثل في عدم الاقتراب من علية القوم، والبحث عن الفساد الصغير. لقد عبرت المملكة هذا التحدي بنجاح، وصار الآخرون من الرتب الأدنى أكثر تخوفاً من الانخراط في أعمال الفساد. فمن لا يردعه ضميره وأخلاقه وقيمه، تردعه القوة الضاربة للقانون.

يقول المراقب السياسي العربي، سامر الصالح، في حديث إلى «المجلة»: «لقد فاجأ الأمير محمد بن سلمان المراقبين والسياسيين حول العالم العربي، وبخاصة منطقة الخليج بهذه الجرأة في استهداف القروش قبل الأسماك الصغيرة. لم تكن تلك الحملة يتيمة، فقد تأسس نهج محكم لمكافحة الفساد، ويتواصل إلى الآن بتحديثات منتظمة؛ بغض النظر عن خلفية الشخص ومكانته. إن من يجرؤ على الفساد في السعودية، يدخل في مغامرة غير محمودة العواقب».

 

التشهير

إذا كان الإنسان لا يحب أن يعرف أحد عنه أموراً عادية، وقد يعتبرها تدخلاً في شأنه، فكيف بالتشهير بالاسم الثلاثي والمنصب وطبيعة الجرم والمنافع المادية للكسب غير المشروع.

لقد أثبت هذا الأسلوب نجاعته كجزء أساسي من آلية ردع الفاسدين، وبخاصة إذا فكروا في العار الذي سيلحق بهم وبمحيطهم عند اكتشاف أمرهم.

ويقول الصالح: «يلعب التشهير على الوتر النفسي للإنسان. وبعيداً عن العقوبات المتخذة بحق الفاسدين، فإن التشهير بحد ذاته هو الأكثر إيلاماً على الإطلاق. فمن يرغب في النبذ والوصم بالعار؟».

إن التشهير بالفاسدين وجعل سيرتهم على كل لسان، جزء من المنهجية السعودية لمكافحة الفساد، إذ إن التشهير يستتبع بالضرورة مناقشات على وسائل التواصل وذماً لجرائم الفساد وشخوصها، وقد يقود إلى المساهمة في تشجيع من يعرفون بحالات الفساد ويخشون من الانتقام، أن يدلوا بما يعرفون من فساد بعيد عن أعين الرقابة.

ويهدف التشهير في نهاية المطاف إلى النبذ الاجتماعي وتعزيز مستويات الشفافية وضرب المثل على أن المصير ذاته ينتظر كل فاسد.

 

تعزيز المشاركة المجتمعية

ترسل «نزاهة» تحديثات شهرية منتظمة إلى الجمهور عبر خدمة الرسائل النصية عن أحوال الفساد في البلاد. وتشمل تلك التحديثات إطلاع الجمهور على عدد الجولات الرقابية وجولات التحقيق مع المشتبه بهم، إلى جانب أماكن العمل وعدد الموقوفين وطبيعة التهم، التي تشمل غالباً الرشوة واستغلال النفوذ الوظيفي وغسل الأموال والتزوير.

كما تحث تلك التحديثات المواطنين والمقيمين على الإبلاغ عن شبهات الفساد المالي أو الإداري، فليس كل الفساد هدفه المال. فمثلاً، المجاملة في التوظيف (ولو كان دون رشوة) شكل من أشكال الفساد. وقد خُصص رقم وعنوان بريد إلكتروني أو عبر الموقع الإلكتروني لـ«نزاهة» للإبلاغ السهل.

قد لا يعلم صناع القرار بما يجري في المستويات الأدنى من الإدارة، فالدولة السعودية لديها ملايين الموظفين في مختلف القطاعات. ولذا يأتي إشراك المجتمع بالإبلاغ عن الشبهات من أجل تحفيز أجهزة الرقابة، وعلى رأسها «نزاهة» بالحضور والتأكد وإجراء التحقيق، مع حماية كاملة للمبلغين بتوفير السرية.

لكن الأمر ليس مفتوحاً على مصراعيه، فالبلاغات الكيدية عقوبتها شديدة.

 

العقوبات المشددة والفساد القديم

تنشر «نزاهة» تحديثات مستمرة عبر وسائل الإعلام عن العقوبات النظامية المتخذة بحق المدانين بقضايا فساد. فلم يعد يكتفى بإعادة المبالغ المنهوبة والفصل من الوظيفة والتشهير، بل إن هناك عقوبة جنائية بأحكام قضائية بعدد من سنوات السجن، وذلك من أجل الفصل بين إعادة الحقوق والعقاب على الجرم.

لقد بتنا نسمع عن عقوبات تمتد لسنوات بحق الفاسدين، ومصادرات للأملاك وتتبع الفوائد الناتجة عن أعمال الفساد واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة. لقد أصبحت معالجة الفساد أكثر شمولاً من أي وقت مضى واجتثاثه من جذوره.

لكن الأهم في هذه الحملات المتواصلة، هو متابعة قضايا الفساد القديم، وليس الذي بدأ في العهد الحالي. فمبدأ المعالجة الشاملة وعدم الإفلات من العقاب، يقتضيان بالضرورة البحث في ملفات الفساد القديمة، التي مر عليها عشرات السنين. وبالفعل، بات القبض على فاسدين تلقوا رشى أو عمولات قبل 10 سنوات أو أكثر، أمراً معتاداً.

إن هذا الأمر، يمنح الهياكل القضائية والتنظيمية الوطنية فرصة لتعميق العدالة والشفافية والتوعية بأهمية المال العام والوظيفة العامة، وهو أمر يستغرق جهداً لتثبيته على شكل قيم يفخر بها المجتمع، ويسعى للتمثل بها وتقليدها.

وينبغي التركيز على أن الفساد ليس مقتصراً على القطاع العام والعسكري، فهناك فساد في القطاع الخاص، ويجري التبليغ عليه أيضاً، فهو بوابة فساد عظيمة وأحد مصادر غسل الأموال.

font change

مقالات ذات صلة