الدمار الاقتصادي والبيئي يحوم حولنا

ما بين الحروب والتضخم وتغير المناخ وكلفة الطاقة والأمن الغذائي

إدواردو رامون
إدواردو رامون

الدمار الاقتصادي والبيئي يحوم حولنا

فيما العالم في حالة حرب، تحولت أزمة المناخ إلى وباءٍ يجر معه الويلات الاقتصادية. في عالم لا يستند إلى الواقع بقدر ما يتسم بالسعي الى الاستقطاب والشعبوية، أحدثت أزمة المناخ انقساما في الآراء نجم عنه اضطرابا اقتصاديا لم نشهده منذ نحو قرن. وفي وقت تتزامن أخبار حالات الجفاف في أوروبا وأميركا الشمالية، مع تلك عن الدمار الذي أحدثه الفيضان في ثلث باكستان، يتعاظم التضخم وندرة الموارد وتدابير الحماية الاجتماعية والإقتصادية، كل هذا ولد مزيجا مهلكا على جبهات عدة تستدعي ضرورة أن يعيد العالم ضبط شؤونه.

في عالم تستعر فيه الحروب الاقتصادية وترتفع تكاليف الوقود، لم يسبق لأمننا المتعلق بالطاقة والغذاء والمياه التعرض لخطر مماثل من قبل حيث يفضي مجالان من هذه المجالات إلى ضغوط تضخمية، وتدفع السياسات النقدية المصارف المركزية الى إتخاذ إجراءات قاسية في محاولة لإعادة الأمور إلى نصابها، وهذه الإجراءات نفسها تعيد إرساء آثار التغير المناخي على حياتنا اليومية. مثلا، شهدت المملكة المتحدة ارتفاع معدل التضخم إلى أكثر من 9 في المئة في الأشهر الثلاثة الأخيرة من 2022. وقدرت "سيتي غروب"، في العام المنصرم، أن يصل مؤشر أسعار المستهلكين (CPI) الى نسبة 18 في المئة ، ومؤشر أسعار التجزئة (PRI) الى 21 في المئة في الربع الأول من 2023. وليست الولايات المتحدة ببعيدة عن تلك المؤشرات، لكنها تتمتع بشيء من العمل الحكومي الفاعل على الأقل، ولا سيما التشريعات التي دفع إليها بايدن، المتمثلة بقانون خفض التضخم (وهذا إنجاز في حد ذاته) سيساعد في التغلب على التضخم وخفضه على المدى القصير.

مع هذه الضغوط التضخمية التصاعدية المدفوعة بزيادة تكاليف الطاقة والغذاء، إضافة الى تداعيات وباء كوفيد-19، لا يمكن تجاهل الإشارات التحذيرية لتأثير تغير المناخ لفترة طويلة جدًا.

الأخطار المتزايدة لانعدام الأمن الغذائي

على مدى سنوات، كانت هناك تحذيرات من تأثيرات تغير المناخ في أمننا الغذائي. وحتى قبل أن يزيد تفشي كوفيد-19 والإجراءات الإقتصادية الأخيرة الأمور سوءا، كانت الهيئات الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) قد نبهت الى أن آثار تغير المناخ ستكون سلبية وغير متوقعة، وستكون موزعة بشكل غير عادل على الصعيد العالمي. وكانت محاصيل الذرة والقمح العالمية قد تلقت ضربة مناخية قبل أن تنال عواقب الحرب في أوكرانيا من مستويات المخزون العالمي. ومع استهلاك ما يقرب من 950 مليون طن متري من الذرة ونحو 700 مليون طن متري من القمح سنويًا على مستوى العالم، يمثل استهلاك القمح وحده أكثر من 20 في المئة من السعرات الحرارية والبروتينات، بحسب سلسلة "الأمن الغذائي وتغير المناخ" لهيئة "التأثير الأكاديمي للأمم المتحدة" (UNAI). إلا أنه يُتوقع أن يحصل تدهور كبير في هذين المحصولين الرئيسين بفعل فقدان الأراضي الزراعية المناسبة بسبب تغير المناخ، وعدم القدرة على التنبؤ بالطقس، مترافقة مع ضغوط غير حيوية للحرارة والمياه وضغوط حيوية مثل الحشرات. وقد جاوزت حدَّها الانخفاضات المتوقعة في أميركا الجنوبية بنسبة 9-19 في المئة من إنتاج الذرة في حلول عام 2050، وفاقها في ذلك الانخفاض المرتقب بنسبة 33 في المئة في بلدان مثل تنزانيا. أما الانخفاض المتوقع في إنتاج القمح فهو الأكثر حدة بنسبة 44-49 في المئة في مناطق مثل جنوب آسيا.

بالطبع، يطغى على هذه التوقعات واقع الدور المحوري الذي تلعبه كل من أوكرانيا وروسيا في توفير المواد الغذائية الأساسية على مستوى العالم، وهي كالآتي: 30 في المئة من القمح، 60 في المئة من زيت دوّار الشمس، وما يقرب من خمس الذرة، وفقا لـتقرير "التأثير العالمي للحرب في أوكرانيا على أنظمة الغذاء والطاقة والتمويل" الذي نشرته الأمم المتحدة في أبريل/نيسان 2022. كما أدت درجات الحرارة المرتفعة وانخفاض مواسم هطول الأمطار إلى جانب نقص إمدادات الأسمدة من هاتين الدولتين، وتغير المناخ، إلى ضرر كبير في كل أنحاء الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، على خلفية ضعف المحاصيل في البرازيل في وقت سابق من العام المنصرم.

نعيش في عالم نصف سكانه في حاجة ماسة الى العمل ولا حل إلا بالتعاضد لصالح كوكبنا

إذن التضخم هو النتيجة الحتمية لهذا الوضع، وبينما يستمر مؤشر "منظمة الغذاء العالمية" "الفاو" لأسعار الغذاء في الانخفاض، لا يزال يتخطى قيمته قبل عام بنسبة 7,9 في المئة. ويخفي ذلك معدلات تضخم أسعار الغذاء التي شهدها العديد من أفقر البلدان في العالم، وتتصدر قائمة هذه البلدان زيمبابوي ولبنان وفنزويلا، من بين 36 دولة أعلنت عن معدلات تضخم حالية في أسعار المواد الغذائية تزيد على 20 في المئة من بينها قبرص والأرجنتين والمجر. وبلغ متوسط معدل التضخم ​​في الاتحاد الأوروبي 12,8 في المئة في تموز/يوليو الماضي، بينما أعلنت الأمم المتحدة عن "توقعات اقتصادية قاتمة تفرض ضغوطًا خطيرة على الأمن الغذائي العالمي".

يترتب على هذا كله الأثر الحتمي الثاني، وهو تأمين الغذاء: أي المحافظة على القوت الكافي لإبعاد الكثيرين عن شبح سوء التغذية. وقد أفاد البنك الدولي في تقرير "تحديث الأمن الغذائي" في أغسطس/ آب 2022 بأن "ارتفاع أسعار المواد الغذائية على نحو غير مسبوق أدى إلى أزمة عالمية ستدفع ملايين آخرين من الناس إلى الفقر المدقع، مما يؤدي إلى استفحال الجوع وسوء التغذية، ويهدد بالقضاء على المكاسب التنموية التي تحققت بجهود مضنية". وتحدد منظمة "العمل ضد الجوع" تغير المناخ كعامل حاسم وراء ارتفاع نسبة الجوع في العالم: فقد زاد عدد الأشخاص الذين يعانون من نقص التغذية بمقدار 150 مليونًا خلال السنوات الثلاث الماضية.

في مواجهة هذه التحديات الأكثر إلحاحًا، على القادة السياسيين والاقتصاديين الاستجابة لها أو التعامل مع انتفاضات حتمية بدأنا نشهدها فعلياً في كل أنحاء العالم. اليوم، ومقارنة بما كان عليه الحال سابقاً، فإن التعاطي بذهنية "فليأكلوا البسكويت" سيؤول بلا شك إلى إقصاء محتمل لهؤلاء القادة من مناصبهم في السلطة.

أزمة الطاقة: الإخفاقات الكبرى

تتمثل التداعيات الاقتصادية الكبرى الأخرى للتأخر في التعامل مع وقائع تغير المناخ بلا شك بإمدادات الطاقة والضغوط التضخمية التي، إن توانت الحكومات عن التدخل للسيطرة عليها، من المحتمل أن تدفع الملايين على مستوى العالم إلى الفقر المدقع وهم فعلا وجدوا أنفسهم أمام الاختيار بين التدفئة أو تناول الطعام هذا الشتاء.

في مقولة لرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل زمن الحرب، "أولئك الذين يفشلون في التعلم من التاريخ، محكوم عليهم بتكراره"، نجد إشارات التحذير متعارف عليها منذ عقود. مرت ظروف عدة شكلت حافزاً للتغيير نحو الطاقة المتجددة، إلا أنها كانت عابرة وتفتقر الى الزخم الطويل الأجل الذي يتطلبه حجم الاستجابة العالمية. فمصادر الطاقة لدينا (في الأساس) تأتي من مصادر محدودة وغير متجددة. وفي حين أنه قبل عقود من الزمن كان يُنظَر إلى هذه المعضلة على أنها فردية ولا شأن للآخرين بها، فقد حان الوقت لأن نكون الجيل الذي يتشارك القلق بشأنها.

أدى فشل معظم البلدان في الانتقال إلى إمدادات الطاقة المحلية والمتجددة إلى دفع الكثيرين لمواجهة احتمالات انقطاع التيار الكهربائي هذا الشتاء. من الواضح أن ألمانيا كانت الأكثر تضررا، وهي التي سعت في السابق سعيًا دؤوبًا إلى التزام إيقاف تشغيل الطاقة النووية والانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة. لكن قرار روسيا إيقاف تشغيل "نورد ستريم 1" إلى أجل غير مسمّى استدعى اتخاذ إجراءات فورية لمواجهة احتمال انقطاع التيار الكهربائي أو الترشيد، وهي ظواهر سائدة، ومنذ سنوات للأسف، في دول كثيرة من العالم.

في عام 2021، وفّرت روسيا 55 في المئة من واردات ألمانيا من الغاز (كما أفاد المنتدى الاقتصادي العالمي، أغسطس/ آب 2022)، وانخفضت هذه الواردات إلى أكثر من النصف بحلول يونيو/ حزيران 2022. وفي حين أن الحل الواضح هو الاستمرار في الإستثمار بزيادة الاعتماد على الطاقة الخضراء، يواجه الألمان، على المدى القصير، كما كثيرين غيرهم، ضغوطًا فورية من قبل شعوبهم وقطاع الأعمال نتيجة للزيادات التضخمية المفرطة في تكاليف الوقود والطاقة وما يتعلق بها من المصادر الموثوق بها.

تنجم دوامات التضخم الذاتية المتواصلة عن الحاجة إلى وجود مخزون من إمدادات الغاز لتجاوز فصل الشتاء، إلا أن الألمان كانوا قد اتخذوا خطوات في أبريل / نيسان الماضي للاقتراب من الأهداف المتوقعة من الطاقة المتجددة. وصرح روبرت هابيك، نائب المستشار الألماني، "من جهة، تقترب أزمة المناخ من ذروتها. ومن جهة أخرى، يظهر الغزو الروسي مدى أهمية التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري وتعزيز التوسع في مصادر الطاقة المتجددة".

وسعت حزمة المقترحات المقدمة آنذاك إلى مضاعفة الطاقة الخضراء من 40 في المئة إلى 100 في المئة بحلول عام 2035 وأعلى من الهدف السابق البالغ 65 في المئة بحلول ذلك الوقت، مع مقترحات بزيادة إنتاج طاقة الرياح براً وبحراً (وتهيئة هذه الأخيرة لتضاهي قدرة 10 محطات نووية بحلول عام 2030). على الرغم من ذلك، تتطلع البلاد إلى الطاقة النووية التقليدية من أجل إنقاذ نفسها. وتجرى اختبارات التحمل على المفاعلات النووية الثلاثة التابعة للدولة، التي توفر لها 6 في المئة من احتياجات الطاقة، وقد تم تمرير قانون لإعادة تشغيل محطات الطاقة التي تعمل بالفحم والنفط كإجراء احتياطي!

أدى الاندفاع إلى شراء مصادر بديلة للغاز الطبيعي المسال وتخزينه، إلى إحداث ضغوط تضخمية ليس فقط على المستهلكين والشركات في أوروبا وأميركا الشمالية، ولكن على الصعيد العالمي أيضًا. وأضحت دول مثل باكستان، التي كانت مرتبطة بعقود لتوريد الغاز الطبيعي المسال بأسعار معقولة، تواجه عواقب تعثر الموردين وتجد نفسها مضطرة للشراء بأسعار فورية أعلى بكثير.

من الخطأ الاعتقاد أن هذه مجرد تداعيات حرب روسيا في أوكرانيا فقط. إذ كما هو الحال مع انعدام الأمن الغذائي، لطالما كانت هناك مخاوف على أمن الطاقة بسبب تغير المناخ. وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2021، علقت وكالة الطاقة الدولية على الارتفاعات القياسية لأسعار الغاز والفحم والكهرباء قائلة: "لم تنتهج الحكومات سياسات قوية بما يكفي لتوسيع مصادر وتقنيات الطاقة النظيفة لسد الفجوة (في النفط والغاز الطبيعي)".

ويعتبر ارتفاع كلفة الطاقة عاملاً رئيسًا يساهم في الضغوط التضخمية في كل أرجاء العالم. لا توجد أمة محصنة. واتخذت اجراءات مالية كبيرة للحد من الأعباء على الأسر والشركات حيث يمكن للحكومات القيام بشكل من أشكال إجراءات ضبط الأسعار أو الدعم. مع ذلك، وفي حين أن هذه ضرورة مطلقة لدرء خطر المجاعة، من المحتمل جدًا أن تكون هذه الأموال هي تلك التي يتم تحويلها بعيدًا عن الاستثمار الطويل الأجل في مصادر الطاقة المتجددة والتي يمكن أن تكون المنقذة لنا في السنوات المقبلة. ومن دون وضع هذه الأموال وما يتعلق بها من ضوابط نقدية في الموضع الصحيح، فهذه الضوابط من شأنها أن تتفاقم في السنتين المقبلتين، ومن المحتمل أن يرتفع التضخم بحدة، مع سعي الموظفين إلى مطابقة ارتفاع التكاليف مع حزم أجور أفضل. ومع مواجهة الشركات عبء التكاليف المرتفعة للمواد والتجارة والطاقة وربما العمالة، ومع استحالة تحمل هذه التكاليف الزائدة، سيؤدي ذلك إلى مزيد من الفجوات في سوق التوريد العالمي وربما ارتفاعاً إضافياً في التكاليف، ناهيك عن حصول تأخير في الإمدادات.

ارتفاع أسعار المواد الغذائية على نحو غير مسبوق سيدفع ملايين الناس إلى الفقر المدقع، ويؤدي إلى استفحال الجوع وسوء التغذية، ويهدد بالقضاء على المكاسب التنموية التي تحققت بجهود مضنية.

البنك الدولي

في تقريره "آفاق الاقتصاد العالمي" في يوليو/ تموز الماضي، عدل صندوق النقد الدولي توقعاته بخصوص التضخم العالمي إلى مستوى أعلى بسبب تكاليف الغذاء والطاقة، ليصل إلى ما يقرب من 10 في المئة في الاقتصادات النامية. وتوقع أن تساعد السياسات النقدية للحد من التضخم التي تنتهجها البنوك المركزية في الحد من نمو الناتج العالمي إلى 2,9 في المئة فقط واضعة "سيناريو بديل منطقي يعكس المخاطر، وارتفاع التضخم بمقدار أكبر، وانخفاض النمو العالمي إلى نحو 2,6 في المئة عام 2022 ونحو 2 في المئة عام 2023"، وهو ما يصفه صندوق النقد الدولي بأنه "يصنف النمو ضمن أدنى ما دون 10 في المئة من الناتج منذ عام 1970".

لكن الحروب جميعها تنتهي، ولطالما شكلت هذه الحروب محفزاً للتحول الاقتصادي. أما من الناحية السياسية، تبرز الحاجة لإعادة ضبط العالم الذي أصبحنا عليه وهو لا يرتكز على الوقائع ويتسم بالاستقطاب والشعبوية. نعيش في عالم نصف سكانه في حاجة ماسة الى العمل ولا حل إلا بالتعاضد لصالح كوكبنا، وإلا فعلينا مواجهة الدمار الاقتصادي والبيئي الذي يحوم حولنا. لا يزال الأمل موجوداً تبعاً لاستجابة العالم بشكل إيجابي وجريء لضمان تحول قطاعات النمو من الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المتجددة، ومن الزراعة المكثفة إلى الزراعة المستدامة. نتطلع الى مستقبل يحتم علينا أن نتعامل مع الماء باعتباره أثمن مورد لدينا لاستدامة الحياة على كوكبنا. لطالما سعى القادة السياسيون إلى الاستمرار في تنمية الاقتصادات، ولكن بأي ثمن؟ هناك حاجة ماسة إلى إدارة اقتصادية بنظرة بيئية أكثر استدامة كجزء من عملية إعادة الضبط ولضمان تعلمنا من أخطاء الماضي وتحقيق النمو المستدام الذي يستحقه ويرغب فيه الجميع في كل أنحاء العالم.
 

font change

مقالات ذات صلة