اقتصاد ايران ... إلى الإنهيار مع وقف التنفيذ

الإنفاق على الأذرع والعنف والإعدامات لم يجلب للمواطن الإيراني ولشعوب المنطقة سوى الدمار والفقر والجوع وإنهيار العملات

اقتصاد ايران ... إلى الإنهيار مع وقف التنفيذ

تمكن الإقتصاد الإيراني على مدى عقد من الزمن من تجنب الإنهيار الكامل على الرغم من إنهاكه على وقع العقوبات القاسية التي فرضت عليه مع مضي طهران في تخصيب اليورانيوم، واستمرارها في انتهاج العنف والقمع والإعدامات حيال الاحتجاجات الشعبية الداخلية المتتالية، ناهيك بدعمها روسيا في غزو أوكرانيا.

وعلى الرغم من توظيف طهران كل السبل المتاحة للإلتفاف على العقوبات، فقد ظل سلاح العقوبات الاقتصادية المفروضة من الولايات المتحدة الأميركية والأمم المتحدة والدول الكبرى، الأنجع ضد النظام منذ نحو عشر سنين حتى اليوم للجم السلطات الإيرانية عن المضي في برنامجها النووي.

تعكس المؤشرات الاقتصادية دور هذه العقوبات في تطويع الموقف الإيراني وتليين سياسات النظام بناء على إيقاعها في السنوات المنصرمة رفعا وتطبيقا ومفاوضات.

غيتي

في تحليل الأرقام لفترة ما قبل الإتفاق الذي أبرمه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عام 2015، وما بعده، ومن ثم تخلي الرئيس دونالد ترامب عن هذا الإتفاق في مايو/ أيار 2018 والعودة الى العقوبات، تتبين بوضوح فاعلية العقوبات الإقتصادية المطبقة بحزم في تليين سياسات النظام، مترافقة مع عدم التمكن من الالتفاف عليها عبر دول أخرى تساعد على ذلك تبعا لمصالحها الإقتصادية والنفطية أو الإستراتيجية.

فعندما وافق الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني على الإتفاق للحد من النشاطات النووية في عام 2015 في مقابل تخفيف العقوبات، كان ذلك لأسباب اقتصادية ومالية جوهرية تأذى منها الاقتصاد الإيراني بشدة. ففي حينه، ومع تشديد العقوبات، بلغت مؤشرات النمو والناتج المحلي الإجمالي أدنى مستوياتها، لتتحسن شيئا فشيئا مع المسار الايجابي للمفاوضات، ليبلغ النمو أعلى مستوياته في عام 2016 بعد سنة من توقيع الاتفاق المعروف باسم خطة العمل المشتركة الشاملة مع مجموعة الدول الخمس زائد واحد، وهي الدول الخمس الدائمة العضوية في الأمم المتحدة إضافة إلى ألمانيا وبمشاركة الاتحاد الأوروبي، ليعود هذا النمو بعدها الى الانكماش الشديد.

ديانا استيفانيا روبيو

وتمتعت طهران في حينه بنمو اقتصادي قوي بلغ 8,8 في المئة، بحسب أرقام صندوق النقد الدولي، ليبدأ بعدها الانكماش المضطرد مسجلا 2,8 في المئة عام 2017 (أنظر الرسم البياني أعلاه). يظهر مؤشر النمو في الرسم تراجعا حادا في 2018 و2019 بعد إلغاء الرئيس ترامب الإتفاق، ليتحسن بشكل طفيف في 2020 و2021 اثر انتخاب الرئيس جو بايدن وانتعاش الآمال بالتوصل الى اتفاق جديد لا يزال متعثرا وتتعاظم التوقعات السلبية كل يوم.

ما بين الاتفاق الذي أبرمه باراك أوباما عام 2015، ومن ثم تخلي دونالد ترامب عنه في 2018 تظهر فاعلية العقوبات الاقتصادية بالأرقام

تدهور الريال الإيراني 2018  - 2022 
أراد الرئيس دونالد ترامب أن تكون العقوبات التي فرضها الأقسى على الإطلاق ضد أي دولة، لعزل المنظومة المالية الإيرانية عزلا كاملا من خلال حظر شراء الدولار الأميركي، وانعكس ذلك أزمة نقدية عصفت بالريال الإيراني ولا تزال. ففي حين استقر السعر عند نحو 35 ألف ريال للدولار الواحد خلال فترة تنفيذ خطة العمل المشتركة الشاملة عام 2015، أدت إعادة فرض العقوبات الأميركية في 2018 الى انخفاض قيمة الريال إلى 150 ألف ريال للدولار في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 ليهوي إلى 440 ألف ريال لكل دولار في 28 ديسمبر/ كانون الأول 2022، وهو أدنى مستوياته، متأثرا بتعثر المفاوضات والاحتجاجات التي عمت البلاد إثر مقتل الشابة مهسا أميني بالترافق مع التضخم والفقر. وفي نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أطاح تدهور الريال بمحافظ البنك المركزي الإيراني، علي صالح آبادي، الذي ألقى باللوم على التظاهرات وارتفاع أسعار الفائدة في أكثر من 90 دولة حول العالم، وعينت الحكومة محمد رضا فرزين خلفا له. 

يذكر أن دفعة من العقوبات الأميركية والبريطانية والأوسترالية كانت ما بين سبتمبر/ أيلول وديسمبر/كانون الأول 2022، وهي جاءت على خلفية تزويد إيران روسيا مسيرات حربية وانتهاكات حقوق الإنسان من خلال العنف المفرط في قمع التظاهرت.

هل نجحت العقوبات؟ 

لا شك في أن العقوبات أحدثت ضررا بالغا بالاقتصاد الكلي الإيراني. إلا أن نسب النمو انتعشت في عامي 2021 و2022 على الرغم من التقلبات الحادة لنمو الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 2017 و2020، لتسجل 4,7 في المئة، لكنها حاليا في تراجع مستمر. واستنادا الى أرقام صندوق النقد الدولي، يبدو أن العقوبات لم تثن إيران، خصوصا في السنوات الأربع الأخيرة، عن تصدير النفط، على الرغم من جهود إدارة ترامب لمنع ذلك، فلم توفر طهران فرصة للتهريب أو التضليل والاحتيال على أجهزة التعقب الدولية.

إلا أن العقوبات أحبطت خطة رفع الإنتاج النفطي إلى 4,5 ملايين برميل نفط يوميّا، التي تحتاج الى استثمارات ضخمة تصل إلى 200 مليار دولار، ليتراوح حجم الانتاج ما بين 2,2 و2,6 مليون برميل في اليوم فقط بين عامي 2019 و2022 بحسب تقديرات الصندوق. ولم تتمكن العقوبات من «تصفير» صادرات النفط كما كان مخططا، لكن ذلك لا ينفي أثرها الكبير في تدهور حجم الصادرات النفطية الى ما دون الـ 400 ألف برميل يوميا في 2020، متراجعة من نحو 1,85 مليون برميل في عام 2017، إلى نحو 850 ألف برميل في 2021، قبل أن تعاود الارتفاع في عام 2022 لكنها لا تزال دون المليون برميل في اليوم. 

الإنفاق على الأذرع الى متى؟

على الصعيد المالي، استهدفت العقوبات الأميركية القطاع المصرفي في إيران، وشملت أكثر من 70 مؤسسة مالية، كونها وسيلة لتمويل البرنامج النووي، بما في ذلك تحويل مليارات الدولارات إلى "فيلق القدس" التابع لـ "الحرس الثوري" لتمويل وكلائه في العراق ولبنان واليمن وسوريا. كما لجأت طهران إلى استحداث شبكة من شركات التغطية في دول مختلفة حول العالم. 

المفارقة أن طهران وزعت أكثر من 16 مليار دولار للنظام السوري و«حزب الله» في لبنان والميليشيات العراقية والحوثيين في اليمن وأذرع أخرى، ما بين عامي 2012 و 2018، على الرغم من الصعوبات الاقتصادية والمعيشية التي يعاني منها الشعب الإيراني، بحسب تقرير لوكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية في عام 2019. 

يقدر حجم إنفاق إيران على «حزب الله» ما بين 700 مليون ومليار دولار سنوياً.

تقرير لمعهد الشرق الأوسط (Middle East Institute) في 2021

لقد فرض تمدّد إيران داخل هذه الدول، تحدّيات أمنية وسياسية كبرى عليها، وأجبرها على زيادة حجم إنفاقها الخارجي المرتفع أصلا. ويتيح الدعمٍ المالي الكبير لهذه الأذرع بناء مؤسّسات عسكرية ومالية واجتماعية وخدماتية مستقلة عن الدولة، من شأنها أن تنافس إمكانات دولها المنهوبة من السلطات الإيرانية إما مباشرة أو عبر أذرعها المتعددة، وترعى من خلالها شؤون منتسبيها والمقربين منها. وفي تقرير عن «حزب الله» أصدره معهد الشرق الأوسط (Middle East Institute) في واشنطن في يوليو/ تموز 2021، قدر حجم إنفاق إيران على «حزب الله» مثلا ما بين 700 مليون ومليار دولار سنوياً.

كذلك تخصّص إيران جزءا كبيرا من موازنتها السنوية لأغراض عسكرية، وفق تقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، السنوي للعام 2021، إذ تحتل إيران المرتبة 14 عالميا من حيث الإنفاق العسكري البالغ 24 مليارا و600 مليون دولار، بزيادة 11 في المئة عن العام الأسبق، ويعود 34 في المئة منه إلى الحرس الثوري. ولا تشمل هذه الأرقام الإنفاق على الأبحاث وعلى بعض الهياكل العسكرية، مثل "فيلق القدس" و"الباسيج"، كما لا تشمل الانفاق العسكري غير المعلن، من طريق عائدات الصادرات الإيرانية غير الشرعية، ولا سيما النفطية منها، وكذلك التبرّعات الطوعية والإجبارية، ولا تشمل أيضا عائدات استثمارات الهياكل العسكرية الاقتصادية، وخصوصا الحرس الثوري الذي يملك استثمارات عدّة في مجالات متعدّدة كالكهرباء والعقارات.

على الرغم من ذلك كله، فان عامل الوقت في الشأنين الإقتصادي والمالي يبقى حاسما، فلا يمكن لطهران الإستمرار طويلا في تمويل أذرعها العسكرية المختلفة بالوتيرة نفسها، أو بالوسائل نفسها، في مقابل دفع المواطن الإيراني أغلى الأثمان، وبحسب آخر إحصاءات البنك الدولي لأسوأ عشر دول في إرتفاع أسعار الغذاء، وانعدام الأمن الغذائي، سجلت إيران ارتفاعا بنسبة 84 في المئة كمعدل سنوي للفترة ما بين يوليو/ تموز وأكتوبر/ تشرين الأول 2022 مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. وكذلك حال المواطنين في سوريا ولبنان والعراق واليمن من أجل مشروع  "ولاية الفقيه" الذي لم يجلب لشعوب المنطقة سوى الدمار والفقر والجوع.  

font change

مقالات ذات صلة