غسان سلامة: المنطقة العربية مقبلة على تغيير هائل

حذّر في حديث الى "المجلة" من "مأسسة" التدخلات الاقليمية

Getty Images
Getty Images
وزير الثقافة اللبناني الأسبق وأستاذ العلاقات الدولية والمبعوث الأممي غسان سلامة

غسان سلامة: المنطقة العربية مقبلة على تغيير هائل

بعدما ركّز وزير الثقافة اللبناني الأسبق وأستاذ العلاقات الدولية والمبعوث الأممي غسان سلامة في الحلقة الاولى من حديثه الى "المجلة"، على ثلاثة اسباب تقلقه في العالم، "القلق العميق"، تتعلق بالتغيير المناخي والازمات الاقتصادية، واستعمال القوة، يتحدث اليوم عن وضع العرب في العالم ويقول ان "المنطقة العربية مقبلة في الفترة المقبلة على جو هائل من التغيير. حجم الضغط الاقتصادي وأزمة الغذاء سيتركان صدى كبيراً جداً. ممكن أن نرى احتجاجات وفوضى وخروج الناس الى الشوارع بسبب الفقر والمشاكل".

وهنا نص الحديث:

  • كلامك عن العالم وتطوراته واخطاره، ينقلنا الى المحور التالي من الحديث وهو كيف ينعكس هذا المخاض إن سمّيناه مخاضاً، علينا كعرب،"العالم العربي" أو منطقتنا؟

من أصعب الأمور على مَن تمسّك مثلي منذ نشأته بالفكرة العربية أن يعترف اليوم بأن العالم العربي بات في وضع يجعل من مجرد استعمال مفهوم "العالم العربي" أمرا اشكاليا. فمختلف أجزاء هذا الكيان ذهبت في ديناميات متنافرة يصعب الربط بينها. دول الخليج تستمع اليوم باستقرارها كما بغزل العالم بخيراتها ناهيك عن طموح الكثيرين للاستقرار فيها مما يترجم سياسيا بميل متعاظم لدى هذه الدول نحو مزيد من الاستقلالية بل من الجرأة في خياراتها ومواقفها كما يترجم أيضا بمزيد من التنافس فيما بينها. بالمقابل فان أحوال منطقة الهلال الخصيب في حال مؤلمة من تناقص استقلاليتها ومن ضمور دولها كما من تفكك مجتمعاتها وهي ظواهر مرضية غالبا ما تترافق وتتزامن في تاريخ الدول. أما إن نظرت شطر شمال افريقيا فإنك ستجد ديناميات مختلفة تماما قد يكون أبرزها اليوم هو صعود خطير في مستوى التوتر بين الدولتين الأكبر في ذلك الاقليم أي المغرب والجزائر وقد انقطعت العلاقات بينهما على كل الصعد من العلاقات الدبلوماسية للتواصل السكاني لأنابيب الغاز مما لا يبشر بأيام طيبة لكل الاقليم. من الصعب أن تجد تفككا بهذه الحدة في أوصال العالم العربي منذ استقلال دوله، هذا إن لم تأخذ بعين الاعتبار العلاقات التي باتت متناقضة مع اسرائيل بين تطبيع كامل وتطبيع سري ومقاطعة، أو النفوذ غير المسبوق لايران في الهلال الخصيب واليمن أو التدخل النشط لتركيا في غير موقع من دنيا العرب. لهذه الأسباب مجتمعة بات الحديث عن "عالم عربي" نوعا من الروتين أو ربما من تغليب العنصر الثقافي الذي يبقى قويا وفعالا في ربط العرب ببعضهم البعض ولكنه لم يعد ينفع في توصيف كيان سياسي أو اقتصادي مندمج إلى حد معقول لا سيما وأن وعاءه المؤسساتي المعروف أي جامعة الدول العربية ما عادت إلا شاهدا خاويا على أحلام أجيال سابقة لا يفقهها أبناء الجيل الراهن ولا يشتركون بها البتة.

AFP
المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي يتفقد المباني التي دمرت بسبب الحرب أثناء زيارته لمدينة خاركيف الأوكرانية في 24 يناير 2023.

  • ماذا عن منعكسات التوتر الصيني – الاميركي والحرب الاوكرانية – الروسية؟

هناك من يعتقد أن المنطقة مقبلة في الأشهر المقبلة على جو هائل من التغيير. حجم الضغط الاقتصادي وأزمة الغذاء سيتركان صدى كبيراً جداً. ممكن أن نرى احتجاجات وفوضى وخروج الناس الى الشوارع بسبب الفقر والمشاكل. السؤال العام: هذا الوضع العالمي الجديد، هذا المخاض بكل أبعاده، اوروبا، اوكرانيا، تايوان، الصين، اميركا، كيف ينعكس على العالم العربي وعلى منطقتنا؟

في عالمنا يجب الموازنة بين العناصر الداخلية وعدم احتقارها، والعناصر الخارجية وأيضاً عدم تهميشها. هناك في حياتنا اليومية في المنطقة نوع من التمازج الدائم بين تأثرات النظام العالمي وبين المبادرات الصادرة من المنطقة. أرى في المنطقة حالياً عدداً من الأمور النافرة. أول هذه الأمور أن هناك عدداً من الأوطان أصبح بناء الدولة فيها متعذراً جداً. وبالتالي ستبقى في حالة صعبة من عدم وجود عقد اجتماعي بين المجتمع والدولة بسبب عدم وجود دولة. العراق، سوريا، لبنان، ليبيا، ربما اليمن، وربما السودان، هي دول حالياً حيث وجود الدولة فيها افتراض أكثر مما هو حقيقةـ افتراض أن هناك دولة، لكن مقوّمات الدولة غير موجودة في حقيقة الأمر. ولن أرى معجزات تغيّر هذا الواقع في الأمد القريب، لذا سيبقى القلق هنا محدداً. ثانياً، في النظر إلى المشكل بين روسيا واوروبا والغرب اجمالاً، هناك حاجة متزايدة بوضوح إلى النفط والغاز العربيين. سيصبح هناك تدخلات هادفة بالذات لتأمين استمرار النفط والغاز بأكبر كميات ممكنة من كل الدول المنتجة في المنطقة العربية، وعلينا أن نقبل بذلك. لذلك سترى دولاً تتجه نحو الجزائر وليبيا لمحاولة فصل الموضوع النفطي والغازي عن الباقي، ومحاولة تأمينه للدول المستهلكة.

سترى أن عدداً من دول المنطقة سيحاول الافادة من هذه الحاجة إلى نفطه وغازه للحصول على أشياء أخرى. هنا أريد أن أتوقف عند الأشياء الأخرى. هذه الأشياء قد تكون سلاحاً لم يُعطَ حتى الساعة، قد يكون دعماً دبلوماسياً في خلاف بلد مع جيرانه. الجزائر طبعاً ستطلب من الدول التي تريد غازاً أن تقف معها في مواجهة المغرب، وغيرها من الدول ستطلب ذلك. لكن أعتقد أن عدداً من الدول المنتجة ستسعى إلى إعادة صياغة علاقة أقوى مع اميركا لتأمين مزيد من الحماية الاميركية لها. أعتقد أن هناك عدداً من الدول بدأت تقول للاميركيين نحن نريد غطاء أكثر فعالية لوضعنا العسكري مقابل أن نسير معكم في أمور مثل الغاز والنفط كما تريدون.

ألمس أن هناك دعوات إلى أن تأخذ الدول الكبرى ولا سيما الولايات المتحدة مبادرات أكبر لأمن واستقلال هذه الدول المنتجة للنفط والغاز مما كان عليه الوضع سابقاً، وهناك طبعاً في الكونغرس الاميركي نوع من التأفف من هذا الأمر. في كل الاحوال، فانني لا أرى تعزيزاً للمنظمات العربية.

أحوال منطقة الهلال الخصيب في حال مؤلمة من تناقص استقلاليتها ومن ضمور دولها كما من تفكك مجتمعاتها

  • هناك من يقول إن هذه الصورة التي رسمناها دفعت بعض الدول العربية الى أن تسير في اتجاه توسيع الخيارات وتبقي علاقات جيدة مع الاميركيين ولكن في الوقت نفسه تعزز علاقتها مع الصين ومع روسيا. هل توافق على هذه الملاحظة أو تراها سطحية وموقتة وليست في العمق؟

أنا أعتقد أن التهديد بعلاقات أمتن مع روسيا ومع الصين هدفه الأساسي الحصول على علاقات أعمق مع اميركا. لم أجد هذا حتى الساعة خياراً. طبعاً للعلاقة مع روسيا والصين جانب سياسي جيد واقتصادي. والصين دولة لا تطلب منك شيئاً. الصين هي الشريك التجاري المثالي، لذلك هي نموذجية، ولو أمكن التخلي عن كل السوق الاوروبية والغربية والاهتمام فقط بالصين، ربما كل الدول تفضل هذا الشيء لأن الصين بلد غير متطلب في هذه الأمور. ولكن من ناحية أخرى هناك شعور أن أفول الغرب ليس بهذه السرعة وأن الولايات المتحدة لم تزل الدولة الكبرى التي لديها السلاح الأكثر تقدماً وهي الدولة الأكثر قدرة على نشر القوى في الخارج والانفاق عليها لأنها لم تزل الاقتصاد الأول في العالم وتتطور تكنولوجياً.

هناك انفتاح على الصين والهند وروسيا أكيد، دول خليجية اشترت صواريخ، وفقد الاميركيون صوابهم في حينه. هناك دول خليجية قد تفكر في شراء طائرات حربية روسية أو، كما فعلت تركيا، مضادات جوية روسية S-300وS-400، لكن ليس هناك إنتاج حربي بتنوع الانتاج الاميركي وتقدمه. حتى الهند التي كانت تعتمد بنسبة 70 أو 75 في المئة على الانتاج الروسي تنتقل الآن الى الانتاج الغربي. وليس هناك من ضمان بالتدخل العسكري الى جانب حلفاء كما هو حاصل. هناك دول عربية كثيرة تحلم بأن يكون لديها شيء مثل المادة الخامسة في اتفاق شمال الأطلسي (الناتو)، أن يقول الاميركيون إن أي اعتداء على البلد الفلاني هو اعتداء على اميركا وأن تدافع عنه.

  • هل تظن أن بعض الدول العربية تريد ذلك؟

أنا أكيد من ذلك لأنها تعمل في هذا الاتجاه وتحاول أن تقنع الاميركيين بالحصول على ضمانات أمنية.

  • هذه الأزمة الاقتصادية في العالم وأزمة الغذاء وأزمة الطاقة، هي بنسب متفاوتة في الدول العربية، لكن الأزمة الغذائية العالمية الهائلة بسبب حرب اوكرانيا الى أي حد ستنعكس على النسيج الاجتماعي الاقتصادي السياسي في الدول العربية؟

أنت لديك عملياً ثلاث مراحل حصلت في الفترة الأخيرة على مستوى الاقتصاد السياسي العربي. المرحلة الاولى كانت فيها معظم الدول وليس كلها ذات اقتصاد موجه، وبالتالي كان هناك نوع من استقلال ذاتي على مستوى الحاجات، لكن رافق ذلك انفجار سكاني غير مسبوق. في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي حصل انفجار سكاني عربي غير مسبوق لم يكن له شبيه في العالم، حتى أكثر من افريقيا. بلد مثل سوريا كانت النسبة فيه فوق 3 في المئة كل سنة، وهذا شيء غير طبيعي. وجاءت المرحلة الثانية، مرحلة انفتاح العمالة. بعد 1973 بدأت الفوائض البشرية تأتيها فوائض مالية من الاستثمارات الخليجية وأيضاً العائدات الآتية من المهاجرين العرب الى مختلف هذه الدول. أنا عشت في عدد من الدول مثل الأردن وتونس وسوريا ولبنان، وفي المرحلة الأولى كانت مرحلة الاقتصاد الموجه.

المرحلة الثانية كانت مرحلة السيولة للمال النفطي خارج الأطر المؤسساتية خصوصاً من خلال استيعاب ملايين العمال من مصر ومن سوريا ومن غيرها من الدول في الدول المنتجة للنفط. في فترة من الفترات كان عدد العمال العرب في ليبيا يكاد يوازي عدد سكان ليبيا، من المصريين خصوصاً والتونسيين وأيضاً من الأفارقة.

ثم جاءت المرحلة الثالثة التي هي مرحلة القول بأن هذا لا يكفي. نحن نريد أيضاً أن يتغير نظام الحكم، وهذا ما يسمى إجمالاً بمرحلة "الربيع العربي". يعني تظاهرات في الشارع تقول"الشعب يريد إسقاط النظام". انتهى هذا الفاصل أيضاً نحو العشرية بكبت حقيقي لأنه فشل عملياً في كل مكان وبطرق مختلفة جداً.

Getty Images
لاجئون سوريون يعيشون في مخيمات منذ بداية الحرب في بلدهم، في ظل ظروف اقتصادية ومعيشية صعبة، 26 نوفمبر 2022 اعزاز، سوريا.

  • نحن أمام مرحلة جديدة في العالم العربي. ما هي ملامحها؟

الملمح الأول هو الحس الاجتماعي. هناك رغبة بأن لا يعصر الفقر حياة الفرد، والفقر في العالم العربي سيكون غالباً بسبب عدم الاستثمار في المجالات المنتجة بسبب الانفجار السكاني وبسبب اقفال باب الهجرة نحو اوروبا ونحو الخليج. سيزداد الشعور بأنك مسجون وعاجز عن تأمين الحاجات الأساسية ضمن السجن الذي أنت فيه. ثانياً، سترى أن الخدمات الأساسية التي كانت تقدمها الدولة والتي عجزت عن تقديمها من صحة وتربية والخ، أصبح تقديمها قائماً على القطاع الخاص لفترة طويلة. القطاع الخاص لن يتمكن تماماً من تقديمها إذا لم يكن هناك دورة اقتصادية ناجحة. نحن سنكون أمام مطالبات للدول بأن تتدخل مجدداً أكثر في تقديم الخدمات العامة والدول ستعجز عن ذلك، وبالتالي أنا لا أستبعد قيام حركات اجتماعية عنيفة في المدن.

الأمر الثالث أن هجرة صامتة هائلة حصلت خلال السنوات العشرين الماضية من الريف نحو المدن، أولاً لأن العمل في الزراعة محدود في استعماله لليد العاملة، وثانياً لأن لا عمل إلا في المدينة، فحصلت هجرة واسعة صامتة أدت الى انفجار سكاني كبير في المدن. سنرى أكثر فأكثر أن الشعور بالتهميش والفقر هو أكبر في المدن منه في الريف لأن هناك الكثافة السكانية الكبيرة في مختلف أنحاء العالم العربي. لذلك أتوقع أن يكون عدد من المدن الهادئة أقل هدوءاً في الفترة المقبلة مع مضامين لها طابع اجتماعي أكثر مما كانت عليه أيام "الربيع العربي" الذي كان سياسياً.

  • هل نحن أمام نسخة جديدة من "الربيع العربي"، نسخة اجتماعية من موجات "الربيع العربي"؟ أو إذا أردنا أن ننظر الى المنطقة العربية عموماً، السؤال العربي الأول في السنوات الأخيرة أن مركز الثقل العربي انتقل من الدول التقليدية والعواصم التقليدية وهي القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت الى الخليج العربي. هل توافق على هذا التوصيف؟

نعم ولا. هناك جزء حقيقي، بمعنى أن هناك دولاً في الخليج أصبحت دولاً حيوية لملايين من العرب، وبالتالي أصبح نفوذها وتأثيرها على العرب متوازناً مع حاجة العرب إليها. مصر بحاجة للتمويل الخليجي، واللبناني بحاجة الى أن يجد عملاً في قطر أو الامارات. بالتالي هناك حاجة إلى الخليج وإلى مال الخليج وإلى استقرار الخليج عند ملايين من العائلات العربية، وبالتالي هذا مصدر نفوذ leverage.

ثم هناك أمر آخر، أن الغرب لا يهتم إلا بالأسواق والمال. عندما كنت في ليبيا كنت دائماً أقول إن العالم الخارجي يهتم بليبيا لكنه لا يسأل عن الليبيين. يهتم بليبيا وبخيرات ليبيا وبالوصول الى النفط والغاز وإلى الهيمنة على السوق الليبية ولكن لا يهتم بالليبيين أو برأي الليبيين. كنت دائماً أقول لليبيين إن العالم لا يسأل عنكم. هو فقط يهتم بخيرات بلادكم وعليكم الاعتراف بهذه الحقيقة.

إذا كان الغرب كله اليوم وروسيا والصين مهتمة إلى هذه الدرجة بالخليج، فما بالك بالعرب. أيضاً هناك انتقال للاهتمام بسبب انتقال اهتمام الدول الكبرى نحو الخليج. هناك أيضاً انتقال عربي يلحق الاميركيين. الاميركيون مهتمون بالسعودية والامارات والكويت، وروسيا أيضاً.نصف النخبة الروسية بعد بدء الحرب الاوكرانية هربت إلى دبي. من دون أي شك، هناك لحظة خليجية في السياسة العربية. ثم تمكنت هذه المنطقة من أن تبقى مستقرة خلال مرحلة صخب "الربيع العربي"، وهذا الأمر أعطاها أيضاً موقع الملاذ لعدد من النخب في المنطقة. لكن هل يعني أن هذا الانتقال لا عودة عنه؟ أنا لا أعتقد ذلك. أولاً في الوقت الذي نما فيه نفوذ الخليج نما أيضاً نفوذ ايران وتركيا في المنطقة.

الصين هي الشريك التجاري المثالي، لذلك هي نموذجية، ولو أمكن التخلي عن كل السوق الاوروبية والغربية والاهتمام فقط بالصين، ربما كل الدول تفضل هذا الشيء لأن الصين بلد غير متطلب في هذه الأمور


  • كيف تنظر الى صعود القوى الاقليمية وهي ايران وتركيا واسرائيل؟

اسرائيل قامت بالتطبيع مع عدد من الدول العربية. هناك مشكلة إذاً، لأن نفوذ الخليج تزامن مع مزيد من التأثير التركي والتأثير الايراني والتدخل الايراني وأيضاً الانسياب الاسرائيلي الى داخل العائلة العربية. أنت تقضي تماماً على الفكرة العربية. ولا يمكن إعادة إحياء الفكرة العربية إلا بعودة الخليج الى باقي العرب، وإقرار العرب بأن هناك دوراً مميزاً لهذه الدول المستقرة والغنية. ولكن لا خلاص للمجموع العربي إلا بإعادة قدر من التواصل والتفاهم بين هذه الدول العربية الذي انطفأ تماماً خلال العشرين أو الثلاثين السنة الماضية.

  • هل أنت قلق من صعود الدول الاقليمية غير العربية؟

هي صعدت وأنا قلق من أن يتحول هذا الصعود الى أشياء ثابتة ومُمَأسسة، أن تحل تحالفات جديدة مكان الجامعة العربية والاتفاق العربي المشترك، وهذا ما يحصل أمامنا، أن تنشئ هذه القوى قواعد داخل الأراضي العربية، قواعد عسكرية ثابتة، أن يصبح تدخلها مقبولاً وعادياً، وبالتالي أن تندثر الفكرة العربية من دون أن ننتبه. لكن صعود هذه القوى داخل الداخل العربي حصل. عندما يقول أحد المسؤولين الايرانيين إنه عندما يتحدث، يتحدث أيضاً باسم أربع عواصم عربية، هي بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء. هذا ليس كلاماً مبالغاً به. وعندما نرى تأثيراً تركياً في شمال العراق وفي شمال سوريا وفي شمال لبنان وفي الصومال وفي ليبيا، نرى أنه تأثير حاسم. ألا نزال نتحدث عن صعود القوى الاقليمية غير العربية؟! الصعود حدث. نحن نرى تجلياته في كل يوم.

Getty Images
أنصار تنظيم "حزب الله" في لبنان يرفعون صورة المرشد الايراني علي خامنئي

  • أنت لبناني عملت في العراق وليبيا وأيضاً مهتم بسوريا على الأقل هذا بشكل مباشر وباليمن، كيف تشعر بما يحصل في لبنان وفي سوريا وفي العراق وفي ليبيا وفي اليمن؟

أنا أعتقد أن في كل هذه الدول التي ذكرت صداماً قوياً بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني. انه صراع عنيف. المجتمع الأهلي قائم على انتمائك إلى فئة بالولادة، فئة دينية ومذهبية ولغوية الخ. المجتمع المدني قائم على فكرة أنك مواطن كغيرك من المواطنين، لك الحقوق نفسها وعليك الواجبات نفسها، وقادر على أن تتفق مع أي شخص ضمن تركيبة معينة ضمن حدود البلد الذي أنت فيه وأن تصوغ عقداً اجتماعياً مع الدولة القائمة. الآن عشنا في خلال مرحلة التحديث العربي الذي قاده جمال عبد الناصر والبعث وغيرهما في مرحلة بناء قسري لمجتمع مدني. "الربيع العربي" فجّر المجتمع المدني وأعاد تشغيل المجتمع الأهلي. أعاد تشغيل الولاءات السابقة لبناء الدولة.   

نحن الآن أمام ثلاثة سيناريوهات في اليمن، في السودان، في سوريا، في العراق، وفي لبنان: إما نسير الى الخلف فنثبت قوائم المجتمع الأهلي القديم من طوائف وقبائل ومذاهب وتعاضدات جهوية الخ أو نطويها مجدداً ونقوم بحركة حداثة جديدة قائمة على فكرة المجتمع المدني التي هي بالتمام نقيض المجتمع الأهلي أو، وهذا الأرجح، سنبقى نتأرجح؛ فساعةً نقول إننا حوثيون وموارنة أو سنّة وشيعة وعلويون، وساعةً نقول إننا مواطنون ونريد حاجاتنا من استشفاء ودواء وحرية تعبير واختيار رؤسائنا بالديمقراطية. إما نُمأسِس التراجع الذي حصل في السنوات العشر الماضية في اتجاه المجتمع الأهلي، وإما ننتفض ونعود إلى عملية بناء ولكن بطريقة غير قسرية، غير التي عوّدنا عليها البعث وعبد الناصر وغيرهما، بطريقة أكثر انفتاحاً على المجتمع المدني وتشغيل المجتمع المدني لبناء الدولة، أو نبقى نتأرجح بين الأمرين. فعندما تتحدث، لا أعرف إن كنت تتحدث كماروني أو كلبناني، كزيدي أو كيمني، كشيعي أو كعراقي، ككردي أو كعربي، لا أعرف. إذا بقينا في هذا التأرجح فنحن ذاهبون نحو الجدار. علينا إتخاذ قرار ما.

أنا أعتقد أن هذا ما يجمع هذه الدول.

(الحلقة الثانية والأخيرة)

font change

مقالات ذات صلة