مصائب السوريين وفوائد قوم المتنبي

مصائب السوريين وفوائد قوم المتنبي

مع الهزات الارتدادية للزلزال الذي ضرب كهرمان مرعش التركية قبل اسبوعين التي لم تتوقف ويبدو انها ستستمر لفترة كما يقول علماء الجيولوجيا، ومع ارتفاع عدد الضحايا ليصل الى نحو خمسين الف انسان بينهم نحو 10 الاف سوري قضى معظمهم تحت الانقاض في مدن لجأووا اليها في تركيا، أو في مناطق شمال غرب سوريا الخارجة عن سلطة النظام السوري.

مع حكايا بدأنا نسمع بها لناجين تمنوا لو انهم قضوا مع عائلاتهم، واطفال باتوا بلمح البصر ايتاما ووحيدين، مع الاف البشر عاد العراء مآواهم بانتظار خيمة ما تأتيهم من جهة مانحة، لا يبدو ان بالامكان الحديث عن حدث آخر.

كلمة "كارثة"، قد لا تصف حقيقة ما حل بالناس، اقل من دقيقة استمر فيها الزلزال كانت كفيلة ان تغير حياتهم وتقلبها رأسا على عقب لسنين طويلة.

الصور التي شاهدها العالم بأسره على شاشات التلفزيون وصفحات الانترنت ليست المشاهد الوحيدة التي يمكن رصدها، مشاهد ما بعد الزلزال قد يكون لها اثر الزلزال نفسه.

في المشهد الاول، ايام تمضي والسوريون في مناطق شمال غربي سوريا محرومون من اي مساعدة، حتى من كانوا يقومون بمهام "دولة"، وهنا اقصد الدفاع المدني "الخوذ البيضاء"، على مدى ايام يطالبون ويستنجدون بالعالم بضرورة ارسال اليات ومعدات تساعدهم على رفع الانقاض وانقاذ من بقي فيه رمق، ولكن ما من مجيب.

كانت الذريعة ان لا طريق الى تلك المناطق، وان الطريق قد تضرر بفعل الزلزال، لكن نقل جثامين السوريين الذين قضوا في تركيا ليدفنوا في سوريا أثبت كذب الادعاء، فالطريق سالكة ولا اسباب لوجيسيتة منعت نقل الجثامين، اذن وحدها الاسباب السياسية منعت اغاثة وانقاذ السوريين.

كلمة "كارثة"، قد لا تصف حقيقة ما حل بالناس، اقل من دقيقة استمر فيها الزلزال كانت كفيلة ان تغير حياتهم وتقلبها رأسا على عقب لسنين طويلة.

في المشهد الثاني: بشار الاسد يزور حلب متفقدا الاضرار، زارها بعد زيارة اسماعيل قاني قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" الايراني، زارها ضاحكا فرحا لم يستطع اخفاء فرحته. فرحة لم يفهمها البعض في تلك اللحظة ولكنها باتت اليوم مفهومة للجميع، وخصوصا اذا ما اخذنا بالاعتبار ان مقتل 10 الاف سوري لن يسبب اي حزن لمن تسبب بمقتل مئات الالاف منهم. في حلب توجه بالحديث لقائد ميليشيا عراقية تابع لايران وتسيطر على أجزاء كبيرة من حلب، مبتهجا قائلا له انهم سويا انتصروا.


المشهد الثالث الذي يجمع بين المشهدين، كانت حملة بعض الاعلام والاعلان المبرمجة التي تطالب برفع الحصار عن سوريا، وتقول ان العقوبات تحول دون انقاذ السوريين. بينما الحقيقة التي لا تقبل النقاش هو ان سوريا الدولة ليست محاصرة، وتجارتها مع دول العالم مستمرة، وان المحاصر كانوا السوريون العالقون تحت الانقاض في مناطق المعارضة، يحاصرهم النظام ومعه روسيا بمنع دخول مساعدات الا من معبر باب الهوى، هذا المعبر الذي سمح ان يتم نقل الجثامين ومنعت المساعدات في الايام الاولى من ان تمر من خلاله.

وبينما كانت تركيا تمنع دخول المساعدات للسوريين في مناطق شمال سوريا عن طريق المعبر، اوردت وكالة "رويترز" خبرا مفاده ان تركيا تبحث اعادة فتح معبر مع النظام السوري وارسال المساعدات عن طريقه، بعد قطيعة استمرت لاكثر من عشر سنوات، ليبدو ان الزلزال ايضا لم يؤجل من نية الرئيس التركي اردوغان بالتطبيع مع الاسد.


لتمر ايام اخرى وليبلغ مارتن غريفيث منسق الأمم المتحدة للإغاثة في حالات الطوارئ في اجتماع مغلق لمجلس الأمن الدولي أن الأسد وافق على السماح للأمم المتحدة بتوصيل المساعدات إلى سوريا عبر معبرين حدوديين آخرين من تركيا لمدة ثلاثة أشهر. اي انه اعترف انه هو من كان يحاصر السوريين لا "قانون قيصر" ولا العقوبات.


وليبدأ بعد ذلك المشهد الرابع: مشهد محاولات تعريب بشار الاسد والتطبيع معه، وليتوهم البعض ان الاسد منزعج من النفوذ الايراني وانه يستنجد بالاشقاء العرب، وان بالامكان مساعدة السوريين المنكوبين من خلاله، ولكن ضحكاته في حلب وكلماته كفيلة بأن تنفي هذا الادعاء. فهاهم وزراء عرب زاروا دمشق، ومسؤولون اتصلوا بالأسد الذي خطت طائرته الرئاسية في سلطنة عُمان، في زيارة  هي الاولى التي اتخذت طابعا رسميا  منذ انطلاق الثورة السورية في آذار 2011.


وفي مشهد غير ذي أثر، هو مشهد "الائتلاف السوري" المعارض والمؤسسات المنبثقة عنه وعن المعارضة، فقد يكون الزلزال هو القشة التي كشفتهم للجميع، واصبح وجودهم عبأ على الثورة والسوريين.


وبين هذا وذاك، وبعد توقف استمر اسابيع، عاودت اسرائيل قصف سوريا، هذه المرة قصفت قلب العاصمة، وهي نادرا ما تشن ضربات مماثلة داخل دمشق، بل تقتصر ضرباتها معظم الاحيان على مواقع عسكرية على أطراف العاصمة وفي ريفها ومناطق أخرى. وحتى لحظة كتابة هذه السطور لم يعرف تماما من او ماذا استهدفت اسرائيل، الا ان المؤكد ان موقع الاستهداف هو نفسه الموقع الذي اغتيل فيه القيادي في "حزب الله" اللبناني عماد مغنية عام 2008، وان الموقع هو عبارة عن  مكان سري تعقد فيه قيادات من النظام مع شخصيات ايرانية اجتماعات.


وحده مشهد القصف الاسرائيلي لا يزال غامضا وان كان يبدو انه رسالة مزدوجة، فلا اقوال الاسد وتسريباته ستقنع الاسرائيلين بانزعاجه من الوجود الايراني، ولا محاولة تلميع صورته بالسماح بالمساعدات الانسانية بالدخول ستنسي العالم ان ايران ما زالت هناك باستخباراتها والميليشيات الموالية لها واذرعها الثقافية والاقتصادية والتعليمية والتجارية.


وحدهم السوريون يرون مشهدا آخر يبدو ان قلة غيرهم تراه، هو مشهد دمار مدنهم وقراهم وصور ابنائهم قتلى في المعتقلات، ولقب شهيد أمام اسم من يحبونه قضى ببرميل متفجر  او بالسلاح الكيماوي او بقصف الطيران، هذه المشاهد التي لم تنسيهم اياها المشاهد التي خلفها الزلزال.


قال المتنبي يوما ان "مصائب قوم عند قوم فوائد"، وكان حينها يتحدث عن نساء من الروم أخذن سبايا، فمصيبة تلك النساء والصبايا وعائلاتهن هي فوائد لمن اخذهن.


واليوم يحاول الاسد ان يستثمر في دماء السوريين الضحايا الذين سقطوا تحت أنقاض الزلزال، وهو الذي أدمن منذ اثني عشر عاما على سحق السوريين وقتل أحلامهم، وفي حلب مدينة المتنبي وشاعرها الأثير ، وقف بشار ليستعيد حكمة المتنبي لكن بالاتجاه العكسي، لقد أخذ الأسد سوريا رهينة عنده، وبات السوريون جميعا أسرى لديه فلا هو يطعمهم ولا هو يطلقهم، حتى بات العالم أجمع أمام ابتزاز قبيح لم يصل له خيال المتنبي، فإما يدير العالم ظهره لهؤلاء الأسرى ويتركهم للموت تحت الركام والجوع، أو يبادر بإطعامهم ولكن وفق شروط الآسر القبيح.


 

font change