جيورجيا ميلوني... مفاجأة السياسة الايطالية

آندي أدواردز
آندي أدواردز

جيورجيا ميلوني... مفاجأة السياسة الايطالية

في الوقت الذي كانت تنادي فيه أوروبا بقيادة سياسية قوية، أدّى النجاح الذي أحرزته جورجيا ميلوني رئيسة الوزراء الإيطالية في تحقيق الاستقرار في سياسات البلد التي سادها الاضطراب إلى ترجيح قيامها بدور قيادي أوسع في الشؤون الأوروبية.

فمنذ أن تقاعدت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل عن لعب دور في سياسة الصفوف الأمامية في عام 2021، تواصل البحث في مسعى للعثور على زعيم أوروبي بإمكانه أن يلعب دورا حاسما في الشؤون العالمية. أصبحت المستشارة الألمانية الصوت المهيمن في السياسة الأوروبية خلال السنوات الـ 16 التي أمضتها في السلطة والشخصية المرجعية التي يلجأ إليها زعماء العالم الآخرون عندما تلوح في الأفق أزمة عالمية كبرى.

وفي حين أنّ تقدير ميركل للأمور لم يكن على الدوام معصوما عن الخطأ – إذ أنّ تعاملها مع أزمة اللاجئين السوريين قد أدى إلى تقويض مكانتها السياسية جدّيا – فقد كانت تُعتَبر زعيمة تتمتع بالحكمة والحصافة وكان حكمها على الأمور محطّ تقدير كبير، سواء أكان ذلك في طريقة تعاملها مع تداعيات الانهيار المالي الذي حدث عام 2008 أو السياسة التي اتبعتها بغرض احتواء مخططات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التوسعية.

تلك علامة بارزة على الدور المهيمن الذي كانت تلعبه ميركل في السياسة الأوروبية جعلت من الصعب أن يظهر أي مرشح مناسب كي يحلّ محلها. ولم يستطع زعيما ألمانيا وفرنسا، وهما الدولتان اللتان تهيمنان عموما على المشهد السياسي في أوروبا، حتى الآن ملء الفراغ الناجم عن تقاعد ميركل.

ولا شك في أن التردد الذي أبداه خليفة ميركل في منصب المستشار، أولاف شولتز في الاستجابة للأزمة الأوكرانية يعني فيما يعنيه أنّ برلين وجدت نفسها غالبا على خلاف مع حلفائها الأوروبيين، الأمر الذي اتضح من الخلاف الأخير الذي حصل بشأن تزويد القوات الأوكرانية بدبابات غربية.

بالمقابل، أدّت محاولات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للعب دور في قيادة الجهود الدبلوماسية التي هدفت إلى تحسين العلاقات مع روسيا، إلى نتائج عكسية تماما، فبدلا من السعي إلى الوصول إلى تسوية للصراع في أوكرانيا عن طريق التفاوض، استجاب بوتين لمبادرات ماكرون ببساطة بأن كثّف هجومه العسكري ضدّ الشعب الأوكراني.

كان بوريس جونسون هو الزعيم الأوروبي الوحيد الذي قام بدور قيادي حقيقي في القضية الأوكرانية، لكن جهوده انتهت على نحو مفاجئ عندما تمّت إقالته من منصبه على نحو تعوزه الكياسة في الصيف الماضي.

وفي ظلّ ندرة السياسيين الأوروبيين الذين يتمتعون بمؤهلات قيادية جديّة، ظهر في سماء السياسية الإيطالية بشكل غير متوقع نجم ميلوني كقوة مهيمنة في السياسة الإيطالية أدّى إلى تكهنات بأنها قد تبرز على الساحة كمرشحة مثلى لتولي الدور القيادي الذي كانت تتولاه ميركل.

تبدّى ظهور ميلوني كلاعب رئيسي في السياسة الأوروبية في وقت سابق من هذا الشهر عندما سافرتْ إلى الهند والإمارات العربية المتحدة بهدف تنشيط علاقات روما في تلك الناحية من العالم. وأعربت ميلوني عن رغبتها في إعادة بناء العلاقات الدفاعية التي كانت قائمة بين البلدين في نيودلهي، حين اجتمعت برئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، وتوصّل البلدان إلى اتفاق يقضي بإجراء تدريبات عسكرية وتدريبات مشتركة.

Getty Images

في غضون ذلك، هدفت الزيارة التي قامت بها ميلوني إلى الإمارات إلى إصلاح العلاقات في أعقاب الخلاف الدبلوماسي الأخير، الذي نجم عن القرار الذي اتخذته الحكومة الإيطالية السابقة والقاضي بفرض حظر على بيع الأسلحة للإمارات. ودفعت هذه الخطوة التي اتخذتها روما الإمارات إلى القيام بالردّ فطردت الطائرات والأفراد الإيطاليين من قاعدة المنهاد الجوية الإماراتية ومنعت الطائرات العسكرية الإيطالية من استخدام مجالها الجوي.

ولكن جهود ميلوني استطاعت إصلاح ذات البين، حين أُعلِن عن تعاون مجموعة إيني الإيطالية للنفط والغاز مع شركة بترول أبو ظبي الوطنية (أدنوك) لإقامة عدد من مشاريع نقل الطاقة.

وصرّحت ميلوني بعد اجتماعها مع رئيس الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان بأنه قد إعيد تأسيس الثقة المتبادلة من أجل القيام بتعاون مستقبلي في مجالات تتراوح بين مجالات الطاقة ومجالات الدفاع.

وقالت للصحافيين في أبو ظبي إن المحادثات قد جرت "على أفضل ما يرام وسنعيد بناء الشراكة الاستراتيجية التي كانت تربطنا. ارتبطت إيطاليا تاريخيا بعلاقات قوية للغاية مع الإمارات التي واجهت صعوبات جديّة في السنوات الأخيرة."

في ظلّ ندرة السياسيين الأوروبيين الذين يتمتعون بمؤهلات قيادية جديّة، ظهر في سماء السياسية الإيطالية بشكل غير متوقع نجم ميلوني كقوة مهيمنة في السياسة الإيطالية أدّى إلى تكهنات بأنها قد تبرز على الساحة كمرشحة مثلى لتولي الدور القيادي الذي كانت تتولاه ميركل

ويشبه النهج العملي الذي تبنته ميلوني في تعاملها مع الحلفاء السابقين موقفها الذي تبنته في جهودها الرامية لتحقيق درجة من الاستقرار لاقت ترحيبا في الدوائر السياسية الإيطالية منذ أن أصبحت أول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في البلاد العام الماضي.
لم تكن ميلوني البالغة من العمر 46 عاما شخصية كبيرة في السياسة الإيطالية، بل كانت شخصية هامشية إلى أن فازت على نحو مفاجئ في الانتخابات العامة في سبتمبر / أيلول الماضي. بعد أن بدأت حياتها المهنية السياسية في سن المراهقة، عندما كانت ناشطة في حزب تربطه كما يقال صلات بالفاشية الجديدة، صعدت إلى السلطة على نحو متسارع من خلال قيادتها لحزب "فراتيلي دي إيطاليا"، أو حزب إخوة إيطاليا.


وعلى الرغم من أنها قادت حزبها على مدى 10 سنوات، إلاّ أنّ خبرتها الحكومية اقتصرت على الفترة القصيرة التي قضتها كأصغر وزيرة في إيطاليا في حكومة برلسكوني من 2008 إلى 2011. من ثمّ أصبحت شخصية معزولة على الساحة السياسية الإيطالية بعدما بقي حزبها بين قلة من الأحزاب الإيطالية خارج حكومة الوحدة الوطنية التي قادها رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماريو دراجي.


وفي حين أنّ هذه الخطوة عنت وقتها أنّ حزبها قد وُضع في متاهة سياسية، إلا أنها غدت عاملا مهما فور انهيار حكومة دراجي بعد أن استنزف الصراع الداخلي التحالف الحاكم. نتيجة لذلك، وجد حزب إخوة إيطاليا نفسه فجأة القوة المهيمنة على الساحة السياسة الإيطالية بعد فوزه بنسبة 26 في المائة من الأصوات، مقارنة بنسبة 4.3 في المائة كان قد منحه إيّاها استطلاع للرأي العام أُجري قبل أربع سنوات. وضع هذا الفوز ميلوني في موقع قوي مكّنها من تشكيل حكومة جديدة، وهو ما قامت به من خلال إنشاء ائتلاف جديد مع حزب "الرابطة" الذي ينتمي لليمين المتطرف والذي يقوده ماتيو سالفيني ومع حزب "فورزا إيطاليا" الذي ينتمي إلى يمين الوسط بزعامة رئيس الوزراء السابق سيلفيو برلسكوني. وصرحت ميلوني بعد فوزها في الانتخابات أنّ "الإيطاليين بعثوا برسالة واضحة مفادها أنهم يؤيدون حكومةً يمينيّة بقيادة حزب إخوة إيطاليا".


وقد ساعد فشل الأحزاب اليسارية المعارضة في تشكيل ائتلاف بديل قابل للحياة، ميلوني في سعيها لتحقيق درجة كبيرة من الاستقرار السياسي في إيطاليا. إذ لم يحصل الحزب الديمقراطي، والذي حلّ في المرتبة الثانية في انتخابات العام الماضي بنسبة 19 في المائة من الأصوات، سوى على 16 في المائة فقط من الأصوات في استطلاع للرأي العام، في وقت تستمرّ فيه شعبية حزب إخوة إيطاليا في النمو، حيث تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أنها ارتفعت الآن إلى 31 في المائة من الأصوات. 


 

"الإيطاليون بعثوا برسالة واضحة مفادها أنهم يؤيدون حكومةً يمينيّة بقيادة حزب إخوة إيطاليا"

رئيسة الوزراء الايطالية جورجيا ميلوني

وبالتالي فقد مكّنتها شعبيتها المتنامية من السير قدما في أجندتها اليمينيّة، وحافظت في ذات الحين على شركاء التحالف المزاجيين في مكانهم. وفي حين أقدم الكثيرون في أوروبا على شجب ميلوني باعتبارها تغذي الميول الفاشية، فإنها تقدّم نفسها على أنها تميل أكثر لسياسة يمين الوسط، وهو نفس التقليد الذي يتبعه المحافظون البريطانيون ويتبعه الجمهوريون في أميركا. ولقد أثبت جدول أعمالها اليميني الصريح أنه يحظى بشعبية لدى الناخبين الإيطاليين، حيث أنها لا تبدي تعاطفا كبيرا مع حقوق المتحولين جنسيا، وتؤيد قيم الحياة الأسرية التقليدية. 
وقد يكون في التعليقات التي أدلت بها في تجمع انتخابي في روما قبل ثلاث سنوات أفضل تلخيص لفلسفتها السياسية، عندما أعلنت: "أنا جورجيا. أنا إمراة. أنا أم. أنا إيطالية. أنا مسيحية ... عندما لا تكون لدينا هوية، وعندما نعود بلا جذور، فإننا سنفقد الضمير، ولن نكون قادرين على الدفاع عن حقوقنا."
شهد صعود ميلوني إلى السلطة تغيرا كبيرا في نظرتها السياسية. كانت تُعتبر ذات يوم واحدة شخصيات اليمين المتطرف المثيرة للشغب، والتي دافعت عن سحب إيطاليا من منطقة اليورو وعارضت العقوبات على موسكو بعد غزو روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، ها هي ذي تتبنى الآن نبرة أكثر تصالحية تجاه الاتحاد الأوروبي، لأسباب ليس أقلها اعتماد الاقتصاد الإيطالي بشكل كبير على الاتحاد الأوروبي وعمليات الإنقاذ السخية التي ما زالت تتلقاها من بروكسل. ومع ذلك، فهي لا تزال تدعو إلى إجراء إصلاحات أساسية لهيكل الاتحاد الأوروبي والحد من نفوذ بروكسل مع تعزيز استقلال الدول الأعضاء.

Getty Images


ولكن اللافت هو تبنيها موقفا أكثر تشددا تجاه روسيا بعد غزو أوكرانيا العام الماضي، وهو نهج جعلها على خلاف مع شركاء التحالف الرئيسيين، مثل برلسكوني. قبل زيارتها الأخيرة إلى كييف، كان على ميلوني أن تتعامل مع غضب غير عادي من برلسكوني، صديق بوتين القديم، والذي صرح بالفم الملآن أنه لو كان لا يزال رئيسا لوزراء إيطاليا، ما كان سيذهب أبدا للقاء الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي لأن هجومه على دونباس هو المسؤول في النهاية عن الدمار الذي حل بأوكرانيا.


كانت زيارتها خطوة بينت موقف ميلوني القوي داخل الائتلاف الحاكم متغلّبة على تعليق برلسكوني، وبدلا من الانصياع لبرلسكوني، قدمت تعهدا شخصيا للزعيم الأوكراني بأن إيطاليا ستدعمه بالسلاح "حتى النهاية."
ثمة مؤشر آخر على أن ميلوني لا تخشى تأكيد مواقفها يمكن رؤيته في تعاملها مع أزمة المهاجرين في إيطاليا منذ فترة طويلة، حيث بدأت إجراءات حازمة لوقف تدفق المهاجرين من شمال إفريقيا إلى جنوب إيطاليا من خلال إعاقة قدرة المساعدات الإنسانية للسفن التي ترسو في الموانئ الإيطالية واتخاذ الإجراءات اللازمة لتنظيم المجموعات التي تقوم بتشغيل هذه السفن.
لا تزال ميلوني في أيامها الأولى في رئاسة الوزراء، ولكن هناك بالفعل اراء تقول بأنها، بعد أن حقّقت قدرا من الاستقرار في المشهد السياسي الإيطالي المنقسم، فإن الزعيمة الإيطالية الجديدة قادرة على أن تصبح شخصية مؤثرة في الشؤون العالمية، شخصية يمكن أن توفر في نهاية المطاف لأوروبا القيادة الديناميكية التي هي في أمس الحاجة إليها.

font change