"الترند" كبديل عن التفكير الحرّ

"الترند" كبديل عن التفكير الحرّ

مَن يذكر سام بانكمان – فريد؟ قبل شهور قليلة كان الشاب الأميركي الذي وُصف بعبقري العملات الرقمية، من بين صفات أخرى وضعته في مصاف صانعي التاريخ، يحتل الشاشات بشعره الأشعث. وفي غضون اسابيع قليلة باتت قصة حياته منذ الولادة حتى سقوط شركته المالية العملاقة خبرا لا يغادر شاشات اجهزة التلفزيون والهواتف الذكية حتى يعود للظهور.

واستُعرضت تفاصيل علاقاته الشخصية وما جرى في الحفلات التي كان يقيمها في احدى جزر الكاريبي وتعيينه صديقته التي لا خبرة لها في اي مجال معروف، على رأس مؤسسة جمعت مليارات الدولارات من مودعين غافلين. المهم أن الرجل اودع السجن وانطفأت سيرته وربما باستثناء بعض المحامين وافراد عائلته، لم يعد احد يسمع بسام الذي جالسه في أيام صعوده كبار رجال المال والتكنولوجيا والسياسة (بيل كلينتون على سبيل المثال) ليستفيدوا من ذكائه النادر.

قبل بانكمان- فريد، طغى خبر آخر على مواقع السوشال ميديا وعالم الانترنت. فقد ظهر في المدينة موقع جديد قيل انه سيزلزل كل منصات التواصل الاجتماعي ويغير كافة معطيات الاتصال بين الناس. كان ذلك هو موقع "كلوب هاوس" الذي ترافق ظهوره مع انتشار وباء كوفيد 19. لا داع للتذكير بالصخب الذي رافق انطلاق "كلوب هاوس" والتدافع على التسجيل فيه ومديحه والاطناب في ذكر محاسنه. في نهاية الامر، اختفى او كاد "كلوب هاوس" ولم يعد يثير حماسة من رأى فيه ثورة في الشبكة الالكترونية.

ثمة عناوين اخرى جرى التعامل معها بذات الاهتمام المفرط الذي احيطت به مسألتا سام بانكمان- فريد و"كلوب هاوس": مسلسل معاوية الذي انقلب الى متراس للتنابذ المذهبي والطائفي حتى قبل ان يعرض، على الرغم من ان القياس على المسلسلات المشابهة السابقة يقول ان المقاربة التاريخية ستكون مستقاة من التيار العريض للكتب المدرسية. وفي أيامنا هذه ننام ونصحو على مقالات ومطولات عن برنامج الذكاء الاصطناعي "تشات جي بي تي".

لنقل انه "الترند" وهو المصطلح السائد في يوميات العاملين في القطاعات الاعلامية والاعلانية المختلفة والذي يشير الى الاتجاه الغالب في ما يفترض انه قطب جاذب للقراء والمتصفحين والمشاهدين وكل من يمكن اعتباره من "الجمهور المستهدف" لعرض وترويج وتسويق السلع والافكار والبضائع والاحزاب والسياسات. وغالبا ما تمر الاصوات الداعية التي التعقل والتروي والنظر الى الزوايا المتعددة لما تطرحه الة السوق الهادرة، على غرار نوام تشومسكي وصاحبيه في مقالهم في "نيويورك تايمز" (ونشرت "الشرق الاوسط" ترجمة له قبل ايام) حول حدود "تشات جي بي تي" ونواقصه بل مهازله وأخطاره، من دون اهتمام يُذكر.

تفاقمت سيطرة "الترند" منذ ان كتب ادورنو عن "الصناعة الثقافية" في اربعينات القرن الماضي. يومها كان التصنيع يجري على مستوى الافلام والصحف والمجلات بغية فرض نمط معين من السيطرة الاجتماعية وبالتالي السياسية على العامة. مع الثورة الرقمية بات من العسير البقاء في منأى عن أذرع "الشبكة" التي لم تعد مجموعة من الحواسيب المتصل بعضها ببعض بل عالم كامل يستلم الانسان منذ لحظة يقظته الصباحية الى ان يأوى الى فراشه ليلا.

الهروب من "الترند" مستحيل اذا. فهو مصمم بكفاءة عالية ليحيط بالانسان ويدرجه في آلية لا فكاك منها "لاقناعه" باستهلاك أصناف معينة وموالاة قوى سياسية بعينها وتصديق "حقائق" ورفض اخرى. "الحقيقة" وهي مفهوم فلسفي واسع، يجب ان تصل الى المشاهد/ الضحية في اقل من دقيقة واحدة. والحقيقة هي ما يقول من أطلق "الترند"

أفلام الخيال العلمي عن مجتمعات "الديستوبيا" الجحيمية التي تتحكم فيها الالات بكل تفاصيل حياة البشر وعواطفهم وحاجاتهم، تنقل السيطرة على المجتمع الانساني الى الآلة. بيد أننا لم نصل الى المرحلة تلك بعد. فالتحكم والسيطرة وإن كانا يفوقان كثيرا ما كان يصفه ادورنو، إلا أنهما ما زالا في عهدة بشر يسعون لتقرير مصائر بشر آخرين. 


الهروب من "الترند" مستحيل اذا. فهو مصمم بكفاءة عالية ليحيط بالانسان ويدرجه في آلية لا فكاك منها "لاقناعه" باستهلاك أصناف معينة وموالاة قوى سياسية بعينها وتصديق "حقائق" ورفض اخرى. "الحقيقة" وهي مفهوم فلسفي واسع، يجب ان تصل الى المشاهد/ الضحية في اقل من دقيقة واحدة. والحقيقة هي ما يقول من أطلق "الترند". 


بيد أن هذه نصف القصة وهي معروفة منذ عقود. المفارقة الجديدة ان "الترند" الذي يعتمد على الرسالة السريعة والمختصرة لاستخراج موقف ورأي ومال من "الجمهور المستهدف"، غالبا ما تروج لأراء مقتضبة وجازمة لا تقبل التفسيرات الطويلة والمعقدة. وهكذا، وبتأثير من "ترند" سام بانكمان- فريد تصبح كل العملات الرقمية عمليات نصب واسعة النطاق يديرها منحرفون وشذاذ افاق. ويصبح "تشات جي بي تي" صاحب الكلمة الفصل في شؤون وشجون العالم الى ان يظهر من يحطم الخرافة هذه بـ"ترند" اشد واعنف من ذلك الذي نشر خبر برنامج الذكاء الاصطناعي. 
الأثر الابعد للنوع هذا من محاولات تطويع المجتمعات والسيطرة عليها، تفضي الى ما بات مرئيا وملموسا في العديد من دول العالم حيث يتصاعد الاستقطاب السياسي والعرقي والطائفي وتتكرس ممارسات اجتماعية واقتصادية تقضي على ما تبقى من اجماعات وتوافقات كبرى كان يُنظر اليها قبل سنوات معدودة كقيم كونية. 
 
 

font change