تنتشر في شوارع طهران هذه الأيام لافتات وصور لملوك وقادة إيران القديمة، على ما تحمل تقارير وكالات الأنباء، في إحياء لعصر ذهبي يُرجى أن يُلهم الحاضر الصعب.
صورة للشاه الساساني شابور تقول: "جندي إيران". وأخرى للنقش الشهير لاستسلام الإمبراطور الروماني فاليريان للشاه ذاته بعد هزيمة الرومان في معركة أديسا (الرها في العصر الإسلامي– أورفا حاليا) سنة 260 للميلاد، تتشارك الفضاء العام في المدن الإيرانية مع صور ضخمة للمرشد علي خامنئي وللمسؤولين الذين قتلوا في الهجمات الإسرائيلية على إيران في يونيو/حزيران الماضي.
ولفت اهتمام الكثير من المتابعين، طلب المرشد من قارئ السيرة الحسينية، تلاوة نشيد "يا إيران" الذي يمزج بين المشاعر الدينية والقومية أثناء إحياء مراسم عاشوراء.
العودة إلى الماضي المجيد لتعبئة أمة تخوض صراعا صعبا، ليس بالأمر الجديد. وشهيرة الشعارات التي رفعها الزعيم السوفياتي يوسف ستالين عن "روسيا المقدسة" و"تلبية نداء الوطن الأم" وطلبه إلى الكنيسة الأرثوذكسية حث المؤمنين (أو من تبقى منهم بعد حملات التطهير) على الانخراط في الدفاع عن الاتحاد السوفياتي في الأيام الحالكة للهجوم النازي الألماني على الدولة السوفياتية التي من المفترض أنها تضم عشرات العرقيات والشعوب والأديان والمذاهب إلى جانب الشعب الروسي والمذهب الأرثوذكسي. ولم يكن غريبا أن يشكل الماضي القيصري الروسي ملجأ أيديولوجياً لروسيا ما بعد الشيوعية، حيث برز الاهتمام الشديد بشخصيات ذلك الزمن خصوصا بطرس الأكبر الذي أدخل روسيا إلى أوروبا الحديثة، مع تبرئة إيفان "الرهيب" من جرائمه بذريعة انكبابه على بناء الدولة وتكريس وجودها.
تبدو العودة إلى الماضي غير مكلفة ومضمونة النتائج وتوفر ملجأ للسلطات التي تبحث في دفاترها القديمة عما يساعدها في تجاوز محنها من دون أن تتنازل عن شيء من خطابها
الصين بعد ماو تسي تونغ سارت على درب مشابه إذ تراجعت النزعة الأممية التي نادت الماوية بها– في نسخة تختلف عن الأممية السوفياتية– واتجهت من دون تردد إلى تمجيد الماضي الصيني سواء في كفاحه ضد الأعداء الأجانب كالغزاة اليابانيين والمغول، أو في تقديمه الصين كبلد متقدم تقنيا وثقافيا.
أما صدام حسين وأثناء حربه ضد إيران بين 1980 و1988 التي أسماها "قادسية صدام"، فقد بعث تراثا كاملا من العداء العربي–الفارسي والأدبيات التي تتراوح بين النصوص الدينية ومقتطفات من السجالات أثناء الحقبة العباسية الرافضة لظاهرة الشعوبية والزندقة، والتي تبخس الفرس وتمجد العرب.
وليس مهماً إذا كان الماضي المستعاد، في المقام هذا، متخيلا أو واقعيا. فنازيو ألمانيا شيدوا خرافة تربط التاريخ المفترض بمستقبل يحمل الازدهار طوال ألف عام مقبل للشعب الألماني. وأضافوا كل ذلك على حفنة من "الأدلة" الزائفة عن التفوق العرقي للشعب الآري المتخيل.
ولا يغيب عن البال الاستخدام الكثيف للنصوص والعبارات الدينية التي تطرحها إسرائيل في حروبها والأسماء الرمزية لعملياتها، ناهيك عن تصريحات مسؤوليها التي لا تغيب عنها الاستعارات التوراتية والتذكير بمواقف لأنبياء اليهود وأقوالهم.
وفي جميع الحالات المذكورة وغيرها، تبدو العودة إلى الماضي غير مكلفة ومضمونة النتائج وتوفر ملجأ للسلطات التي تبحث في دفاترها القديمة عما يساعدها في تجاوز محنها من دون أن تتنازل في واقع الأمر عن شيء يذكر من خطابها.
وإذا كانت الأمثلة أعلاه ترجع كلها إلى دول تحضر فيها الأيديولوجيا بأوجهها المتعددة، الدينية والستالينية والنازية والصهيونية، بقوة في حياتها السياسية وتشمل اجتماعها واقتصادها، وتحارب في الميدان وخارجه ضد أعداء الأمة، فإن التجربة تفيد بأن كل تحضير لأرواح الماضي لا يحمل خيرا لشعوب الدول التي تنحو المنحى هذا. فـ"الهندوتفا" في الهند القائمة على تمجيد الإنجازات الإمبراطورية والثقافية القديمة، على سبيل المثال، تحمل بذور هيمنة عرقية ودينية ضد مواطنين آخرين. فيما يشكل شعار "عودة بني أمية" غطاء لما قد يصل إلى حد الحرب الأهلية انتقاما لما تعرض له سنّة سوريا في العقود الستة الماضية.