العودة ضرورية إلى مسألة حقوق الإنسان في عالم اليوم، بعد المجازر اليومية التي يشهدها قطاع غزة والجمود العالمي إزاءها والامتناع عن وقفها. وهي لا تقتصر على انهيار موقع الإنسان في الصراعات العنيفة الدائرة وعودة التمييز الشديد بين "أصناف" من البشر يجوز قتلهم وبشر يُفرض احترام حقوقهم بسطوة الدول الكبرى، بل يتجاوز ذلك إلى الدور المنتظر للبشر في منظومة كونية بدأت ملامحها في الالتئام بين مكونات سياسية وثقافية واجتماعية.
الصحافيون الفلسطينيون الخمسة الذين قالت إسرائيل إنها استهدفت واحدا منهم في غزة لارتباطه بحركة "حماس" والضحيتان اللتان سقطتا في الضربة ذاتها، ليسوا سوى جزء من الدفعة اليومية التي يقدمها الفلسطينيون لآلة النظام الجديد. فتحول نقاط توزيع المساعدات التي أقامتها "منظمة غزة الإنسانية" إلى حقول رماية لتدريب الجنود الإسرائيليين على قنص الأهداف المتحركة، لا يبدو أنه أزعج أحدا من قادة العالم، سيان أكان متمدنا أم متوحشا.
حتى الجانب الإحصائي من عملية القتل اليومية لم يعد يلقى اهتماما يُذكر. من يعرف ما هو عدد الضحايا الفلسطينيين الذين سقطوا يوم أمس؟ حتى لو استخرجنا الرقم من مواقع المؤسسات الإنسانية أو وسائل الإعلام، من يكترث؟ من يستطيع أن يمنع موت طفل جائع؟ من يوقف دبابة عن تدمير منزل من أجل متعة الجنود الإسرائيليين؟
في المقابل، تدعو إلى الغثيان تصريحات مسؤولي الجهة التي تقول إنها تمثل الضحايا والتي تبادر إلى ازدراء موتهم ودمار مجتمعهم وتقييم ما يزيد على 60 ألف ضحية ومئات آلاف الجرحي وتحول 70 في المئة من القطاع إلى أنقاض، كـ"خسائر تكتيكية" في حين أن إسرائيل "أصيبت بخسارة استراتيجية". لا مجال للإنكار أن قولا كهذا، وهو متكرر على ألسنة قادة "حماس"، يصب الدم– وليس الماء– في طاحونة الإبادة الإسرائيلية: فإذا كان أهل القتيل غير مبالين، فلماذا تطلبون من العالم التدخل وإبداء المسؤولية عن مصائر من يموتون؟
على أن اقتران الإبادة باللامبالاة، ليس محصورا في غزة فقط. فالعالم قد حسم أمره على ما يبدو ورجع إلى أساليب القرن التاسع عشر أيام سيطرة "بارونات النهب" وأخلاقهم. إذ ماذا يمكن القول عن عودة العبودية الصريحة في أماكن مثل مناجم الكوبالت والذهب في أفريقيا والتجارة واسعة النطاق بالبشر التي تسمى هجرة غير نظامية على شواطئ البحر المتوسط وأوروبا وماذا عن تخفيف الكثير من الولايات الأميركية لسن عمالة الأطفال وإلغاء الحد الأدنى للأجور على الأطفال الذين عادوا بكثافة إلى المزارع لقطف الثمار وسط تهديدات أصحاب العمل بالترحيل؟
من يحرك عالم اليوم يعيش في قوقعة تحميه من التأثر بما يجري خارجها وهو قادر على تحويل كل الكوارث إلى أرباح
هذه ليست حالات منعزلة. ثمة ناظم عام يمتد من غزة إلى العالم بأسره يعلن من دون خجل أن قيمة الإنسان ترتبط بما يفيد به الآلة الاقتصادية الجهنمية التي أفلتت كوابحها، وليس بالانتماء إلى الجنس البشري. وبينما تُقدّم هذه الظواهر باعتبارها "طبيعية في عالم اليوم"، يطوى بصمت كل ما اعتمدته البشرية التي صدمتها فظائع الحرب العالمية الثانية فأصدرت "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان". فبعد انكشاف معسكرات الاعتقال في أوشفتيز وغيره وارتفاع الإبادة العرقية إلى مستوى الصناعة المتكاملة، قررت الدول المنخرطة في منظمة الأمم المتحدة الوليدة أن تضع حدا لسلوك قيل يومها إنه لا يتلاءم مع ما وصل البشر إليه من حضارة.
ليس ما ورد هو لتبرير أو لتخفيف هول ما ترتكبه إسرائيل في غزة، ولا لإنكار حجم المعاناة غير المحتملة التي يعاني منها فلسطينيو القطاع تحت أنظار العالم، بل للإشارة إلى أن من يحرك عالم اليوم يعيش في قوقعة تحميه من التأثر بما يجري خارجها وهو قادر على تحويل كل الكوارث إلى أرباح، في أجواء أورويلية مرعبة.
المأساة أن المحاولات الخلاصية التي بذلتها البشرية على مر القرون سرعان ما كانت تتحول إلى كوابيس وتقضي على المزيد من الضحايا ما جعل إنسان اليوم يقف حائرا بين التمسك بالقيم التي تبعده عن التوحش وبين الانضمام إلى رهط المنغمسين في دماء إخوتهم البشر.