المغرب يخرج من اللائحة الرمادية

أزمة صامتة بين الرباط وباريس لا تشمل الاتحاد الأوروبي الذي يعتمد على المغرب في علاقته بأفريقيا

Shutterstock
Shutterstock
ساحة سوق جامع الفنا الشهيرة في مراكش

المغرب يخرج من اللائحة الرمادية

تنفس النظام المالي والمصرفي الصعداء في المغرب بعد قرار المجلس التنفيذي لمجموعة العمل المالية Financial Action Task Force (FATF-GAFI) مطلع الشهر الجاري، إزالة المملكة المغربية من نظام "المراقبة المركزة" بعدما كانت ادرجت الرباط في القائمة الرمادية لتصنيف المجموعة، ومقرها باريس، في شأن تبييض الأموال ومحاربة تمويل الإرهاب والجريمة العابرة للحدود والتهرب الضريبي.

بعد أكثر من ثلاث سنوات من الاتصالات والمفاوضات والتدقيق والمتابعة التفصيلية الدقيقة والمراقبة الميدانية، اقتنعت المجموعة المالية أخيرا بضرورة نقل المغرب من "قائمة الشك" إلى "لائحة اليقين"، بوضعها في مصاف الدول الأكثر صدقية وشفافية في مجال محاربة تمويل الإرهاب وغسل الأموال والتهرب الضريبي. وهي لائحة تكاد تكون حكرا على دول صناعية وقوى كبرى، وبعض الدول الصاعدة ذات النظام المصرفي المنفتح، ومنها دول في مجلس التعاون الخليجي. في المقابل بقيت دول أخرى ضمن مجموعة العشرين G20 في القائمة الرمادية، منها تركيا وجنوب أفريقيا، وأخرى اعُتبرت ملاذات ضريبية مثل جزر كايمان وباربادوس وبنما، بينما تم تعليق عضوية روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، وتم الاحتفاظ بإيران وكوريا والشمالية ومينامار في القائمة السوداء، وهي دول مشمولة بالعقوبات المالية والاقتصادية والتجارية التي تلزم الأعضاء، أي نحو أكثر من 180 دولة، عدم التعامل المصرفي معها ومنع نقل الأموال إليها وتمويل التجارة كونها دولا مارقة تدعم الإرهاب عبر تمويل جماعات إجرامية مسلحة. وسيتم الحسم في جميع هذه اللوائح السوداء والرمادية في اجتماع مجلس المحافظين المقبل في 24 فبراير/شباط 2024.

Shutterstock

تأسست مجموعة العمل المالية عام 1989 لمحاربة تبييض الأموال المتأتية من تجارة المخدرات، خصوصا في أميركا اللاتينية في عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان، وتمت إضافة محاربة تملك أو تمويل أسلحة الدمار الشامل في مطلع التسعينات خلال فترة الحصار على العراق زمن الرئيس الراحل صدام حسين. واتسعت ممنوعات الجمعية لتشمل محاربة الإرهاب بعد الاعتداءات على برجي التجارة العالمية في نيويورك في 11 سبتمبر/أيلول 2001، وبعدها توسعت تدخلاتها لتشمل الجريمة العابرة للحدود، وتهريب البشر والهجرة غير المشروعة، والاحتيال الضريبي والفساد المالي، وغيرها من الأعمال التي تهدد النظام المصرفي العالمي، أو تساعد على تفشي الجريمة الدولية، أو الاغتناء غير المشروع والرشوة.

إن قرار مجموعة العمل المالية سيرفع الثقة في كامل القطاع المصرفي المحلي، بما يعزز مكانة المغرب في المنتديات الاقتصادية والمالية الدولية، وهو مصدر قوة إضافية للقطاع المصرفي بشكل عام.

وكالة "موديز"

وتعتبر الهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والمصارف الإقليمية، والشرطة الدولية "انتربول"، ضمن الأعضاء المراقبين والمنفذين والمتابعين لقرارات المجموعة المالية (FATF)، وفي إمكانهم إثارة أي موضوع له علاقة بالإجرام الدولي بما فيها الاحتيالات السيبريانية (Cyber fraud) على الحسابات المصرفية الخاصة، أو اقتراح وضع أي بلد على اللائحة السوداء أو تعليق عضويته بعد مصادقة الأعضاء. 

ويرجَّح بقاء إيران في القائمة السوداء أو تعليق عضويتها باعتبارها دولة تناهض القانون الدولي في حال فشلها التوصل إلى اتفاق جديد مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في شأن برنامجها النووي. ويتهم المغرب طهران بتزويد مسلحين انفصاليين طائرات درون قتالية، نشرتها في صحراء الجزائر لزعزعة الأمن والاستقرار الإقليمي في شمال أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط، وهو اتهام كاف لجعلها دولة راعية للإرهاب.

 نصر معنوي 

اعتبرت الرباط  خروجها من  اللائحة  الرمادية  نصرا ديبلوماسيا وسياسيا وقانونيا، ونوعا من الاعتراف الدولي بصدقية المؤسسات المغربية، يُقوّي الثقة في الاقتصاد المحلي، وتنويها مستحقا بجهود تشريعية وقانونية وإدارية وتدبيرية على مدى سنوات، تمت خلالها ترقية المعاملات المالية والاستثمارية إلى درجة متقدمة من الشفافية، في مجال حماية حقوق المودعين والمتعاملين والمستثمرين، ومنها حماية البيانات الشخصية.

وقالت وكالة التصنيف الأميركية "موديز" (Moody's) "إن قرار مجموعة العمل المالية سيرفع الثقة في كامل القطاع المصرفي المحلي، بما يعزز مكانة المغرب في المنتديات الاقتصادية والمالية الدولية، وهو مصدر قوة إضافية للقطاع المصرفي بشكل عام".
وكانت وكالة "موديز" صنفت المغرب في رتبة Ba1، أي نظرة مستقرة في الائتمان السيادي بالعملات الوطنية والدولية، أو ما يُعرف بأخطار القروض التي تعمل بها المصارف، وتشكل مرجعية في تحديد سقف الفائدة المدينة وشروط التمويل. وصنفت وكالة "فيتش" (Fitch) المغرب في رتبة BB+، وهو التصنيف نفسه لوكالة "ستندارد أند بورز" (S&P) التي تستعد لإصدار ترتيب جديد للمغرب قد يُعيده إلى تصنيفه في رتبة استثمار (Investment Grade) التي كان خسرها بعد تراجع وضعه المالي وإدراجه في اللائحة الرمادية. وتمنح صفة "دولة استثمار" لكل اقتصاد يقع ترتيبه بين AAA  ودرجة BBB بحسب المعايير الدولية.

العودة الى الأسواق المالية

لم ينتظر المغرب طويلا لينتقل وفد من وزارة المالية المغربية إلى نيويورك وبوسطن ولندن بعد يوم واحد من الحدث السعيد، للتعريف بفرص الاستثمار ومجالات التوظيف المالي، عبر طرح سندات سيادية "يوروبوندز" (Euro Bonds) في أول خروج إلى السوق المالية الدولية منذ ما قبل جائحة كوفيد-19. 

وعلم أن المغرب حصل على عروض دولية من مصارف ومؤسسات مالية وصناديق سيادية تجاوزت قيمتها 11 مليار دولار من أربع قارات.
وعبرت وزيرة الاقتصاد والمالية نادية فتاح العلوي عن ارتياحها لجولة "Roadshow" في هذا التوقيت الصعب من التحولات الدولية وشح المعروض من التمويل بسبب الازمة العالمية والتضخم الذي دفع المصارف المركزية إلى رفع أسعار الفائدة المرجعية مما زاد في تكلفة الاستدانة. وهذه المرة الأولى منذ عقود يقترض المغرب بسعر فائدة مرتفع يزيد نحو نقطتين مئويتين على المعدلات السابقة.

Shutterstock

والحقيقة أن عجز الموازنة الذي يزيد على خمسة في المئة من الناتج الإجمالي، والضغط الممارس على المصارف التجارية، والحاجة إلى تمويل مشاريع القطاع الخاص والمستثمرين، كلها أسباب دفعت الحكومة إلى طرق باب السوق المالي الدولي للتخفيف عن السوق المالية المحلية من جهة، وتنويع مصادر تمويل عجز الموازنة من جهة ثانية. وتحتاج السيولة المصرفية إلى ضخ نحو 93 مليار درهم (9 مليارات دولار) في السوق المالية، للاستجابة إلى طلبات قروض الأفراد والشركات، بعد رفع المركزي أسعار الفائدة المرجعية إلى 2,5 نقطة، لكبح جماح التضخم الذي بلغ 8,8 في المئة في يناير/ كانون الثاني الماضي. ولا يستبعد العودة إلى طلب خط ائتماني مرن من صندوق النقد الدولي.

ويتوقع المصرف المركزي أن تحسّن الوكالات الدولية قريبا تصنيف المغرب، وترفعه إلى درجة استثمار (Investment Grade)، بعد نجاح رفع قروض سيادية ميسرة في السوق الدولية، والخروج المستحق من اللائحة الرمادية، بإجماع أعضاء المجموعة المالية الدولية. ويستند في ذلك الى إطلاق العمل بقانون جديد للاستثمار أكثر ليبيرالية هو الخامس من نوعه في 60 سنة، يواكب خطة استثمارية من القطاع الخاص بقيمة 50 مليار دولار.  

فرنسا تضيق على مصارف المغرب

تاريخيا كانت باريس هي العاصمة الأوروبية التي دعمت صمود الاقتصاد المغربي في وجه الأزمات، لكنها تحولت إلى المعرقل الأول لجهود المغرب في التحول إلى بلد جاذب للاستثمار والتمويلات الخارجية، في نوع من المنافسة داخل الأسواق الأفريقية. ويملك المغرب 27 فرعا مصرفيا في أفريقيا جنوب الصحراء إضافة إلى مصر وتونس، وتحظى هذه المصارف الثلاثة (البنك الشعبي، والتجاري وفا بنك، وبنك أوف أفريكا) بأكثر من ثلث المعاملات المالية والمصرفية في مجموع القارة السمراء في 2022، بحسب البنك الأفريقي للتنمية في ساحل العاج.

وترى فرنسا أن تراجعها المالي في القارة سببه هيمنة المصارف المغربية، لذلك تستعد باريس لتقديم مقترح قانون داخل الاتحاد الأوروبي يفرض على المصارف المغربية وعددها سبعة فروع في أوروبا، تطبيق شروط العمل نفسها المطبقة على المصارف البريطانية بعد خروجها من الاتحاد، على اعتبار أنها تحقق فائض قيمة في بلد ليس عضوا في الاتحاد الأوروبي على الرغم من انه يملك وضعية الشريك المميز. 

ولا تخفي باريس تخوفها من توسع المصارف المغربية حتى داخل فرنسا ودول أخرى مثل بلجيكا وايطاليا واسبانيا وهولندا حيث توجد جالية مغربية تقدر بخمسة ملايين نسمة، تضاف  إليها جالية من أفريقيا جنوب الصحراء تعتمد على المصارف المغربية في تحويلاتها إلى بلادها الأصلية. وبلغت تحويلات المغاربة العام الماضي إلى بلدهم أكثر من 10 مليارات دولار، وهو ما يمثل 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ويساهم في تمويل نصف عجز الميزان التجاري، وتشكل نسبة من ودائع المصارف المحلية تساعد في المحافظة على قيمة الدرهم، وتعزز الاحتياط النقدي المقدر نحو 36 مليار دولار. وترى أوساط مصرفية فرنسية انه إذا أضيفت إلى هذه التحويلات تحويلات الجاليات الأخرى التي تستخدم المصارف المغربية في أوروبا وأيضا النشاط السياحي والنقل الجوي بين القارتين، فسيصبح المغرب دولة مركزية في المجال المالي قد تستغلها دول مثل الصين أو بريطانيا لتهميش أطراف أوروبية.

أزمة صامتة
وبحسب المفوض الأوروبي المكلف سياسة الجوار والتوسع، أوليفر فاريلي  فإن الاتحاد الأوروبي يعتمد على المغرب في علاقته بأفريقيا وجنوب البحر الأبيض المتوسط باعتباره شريكا قديما وأساسيا ولا سيما في هذه الظروف الدولية الصعبة.

ويعتقد أكثر من محلل "أن الأزمة الصامتة بين الرباط وباريس حول الصحراء وأفريقيا والاقتصاد والاستثمار، لا تتقاسمها بالضرورة بقية العواصم الأوروبية، ولا تراها مناسبة في الظروف الحالية". وتتسابق جل دول الاتحاد لطلب ود المغرب في الانفتاح على فرص جديدة للاستثمار وواعدة في مجال الطاقات المتجددة والمواد الأولية في المنطقة والقارة، آخرها زيارة المستشار النمساوي كارل نيهمر للرباط. ولا يستبعد مراقبون أن  يكون التقارب المغربي الأميركي الإسرائيلي (اتفاقات ابراهام) جزءا إضافيا من أسباب الأزمة بين الرباط وباريس.
في المقابل يُعتقد أن المشكلة بين فرنسا وأفريقيا أعمق وأكثر حساسية، وسببها طول استغلال خيرات قارة غنية شعبها فقير يموت في الصحارى والبحار. وقد وجد الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه شخصا غير مرغوب فيه (persona non grata) في أكثر من محطة، خلال زيارته الأخيرة للغابون وأنغولا والكونغو الديموقراطية مطلع الأسبوع الأول من مارس/آذار، حيث سمع كلاما قاسيا وشاهد علم بلاده يُمزق للمرة الأولى في أراض كانت تعتبرها فرنسا محمية خاصة تلد نفطا وماسا وذهبا وخشبا كل يوم، لكن ذلك انتهى اليوم.

font change