عشرون عاماً من الفوضى بالعراق

رصد للمشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي وصولاً الى "حراك تشرين"

اندري كوجوكارا
اندري كوجوكارا

عشرون عاماً من الفوضى بالعراق

تحل في شهر مارس/آذار الجاري، الذكرى العشرون على الاحتلال الاميركي للعراق، الذي اسفر عن إنشاء نظام سياسي جديد، لم يحظَ بقبول كبير من جميع العراقيين، وسط اتهامات بالفساد وتراجع الاقتصاد والخدمات العامة واستمرار تدخل طهران، وحصول صدامات عسكرية بين اميركا وايران.

الفوضى، سمة اساسية لواقع العراق في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العقدين الماضيين، وصولاً الى “حراك تشرين” الذي قام به شباب لتحريك المياه والتغيير.

خلال العقدين، اصبح نفوذ طهران وواشنطن واضحاً، اذ أن اختيار الرئاسات الثلاث، رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء ورئاسة البرلمان، يخضع للمزاجين الإيراني والاميركي. بل أن أصوات الانتخابات لا تحسم القرار، اذ اصبح تشكيل الحكومة من خلال تفسيرات لمواد الدستور، بدءا من العام 2010 عندما منعت ايران، اياد علاوي من تشكيل الحكومة بعد فوزه في الانتخابات وأعُيدت في العام 2018 عندما احترقت صناديق الانتخابات، ومن ثم في العام 2021 عندما فاز مقتدى الصدر، اذ وقفت ايران، ضده وأرغمته على خوض معركة داخلية أدت الى مقتل واصابة المئات من انصاره، مما جعل الصدر ينسحب من العملية السياسية نهائيا تاركا “للاطار التنسيقي” مهمة تشكيل الحكومة.

وقال السياسي نديم الجابري، وهو أحد الذين كتبوا الدستور العراقي في العام 2005، لـ”المجلة”، “لم يؤسس في العراق، بعد العام 2003، نظام سياسي ديمقراطي، انما بنيت دولة مكونات”. وكان الجابري، امينا عاما لحزب الفضيلة، وهو من ضمن الأحزاب الشيعية الرئيسة التي تبوأت إدارة الدولة بعد سقوط نظام صدام حسين، الا أن رأيّه اليوم اختلف تماما، وأصبح ناقما على النظام السياسي الجديد.

وبحسب الجابري، أن “الديمقراطية تُبنى على أساس أحزاب مدنية مع فرص للتكافؤ وتوزيع الثروة، بينما الأحزاب السياسية الحاكمة تتحفظ على مبادئ الديمقراطية، اذ اخذ النظام السياسي الحالي شيئا واحدا من الديمقراطية وهي آلية الانتخابات التي يجري التلاعب فيها أيضا”.

أضاف الجابري ان التجربة السياسية الحالية بدأت تتهاوى وفقد المواطن الثقة بها لكنه مع ذلك هو من يتحمل المسؤولية عن استمرارها، بالتفافه حول المكونات والعشيرة والمجاميع المسلحة والمنطقة، نتيجة قلة الوعي في بناء دولة المؤسسات. ونوه الجابري الى أن المواطن لم يعد حرا وان التلاعب قد شمل الأصوات الانتخابية لجهات تؤمن بالديكتاتورية، خصوصا ان التغيير في العراق جاء من الخارج وليس من الداخل.

تهاوي التجربة

على الجانب الامني، طغت على الساحة العراقية التنظيمات المتطرفة من السنّة والشيعة، ما أدى الى صراع طائفي استمر لسنوات في البلاد، بغطاء سياسي ودولي وراح ضحيته الالاف من الشباب، وسط إنفاق كبير من قبل الدولة على الجهاز الأمني يصل سنويا إلى أكثر من 20 مليار دولار، لكن ما زالت الاعدامات الجماعية للمدنيين مستمرة حتى الآن وتقوم بها بعض المليشيات الشيعية من جهة وتنظيم «داعش» من جهة ثانية.

ويرى الخبير الامني علي البيدر ان «القوى السياسية التي حكمت العراق بعد 2003، كان هدفها الرئيسي عدم إبقاء المؤسسة الأمنية التي كانت حليفة لنظام صدام حسين، وبالتالي خلق منافس لها يزعزع كيانها. كما حلّ الاحتلال الاميركي المؤسسات الأمنية وانشأ مؤسسات جديدة ضعيفة».

وتبدو مدن العراق في حالة حرب، اذ تتواجد عناصر الشرطة والجيش في كل مكان، مع سياراتهم واسلحتهم. فيما تستمر الاغتيالات وعمليات الاختطاف. اذ قتل الالاف امام انظار الأجهزة الأمنية دون ان تفعل شيئا. ويرجع ذلك بحسب البيدر إلى التدخلات السياسية في المشهد الأمني من خلال اختيار القيادات الأمنية على أساس حزبي وطائفي ما اضعف دور المؤسسات الامنية، بالإضافة الى الفساد وغياب التخطيط وسوء الإدارة والتدخلات الإقليمية الحادة في الملف الأمني.

وقد اغتيل الباحث الأمني البارز، ومستشار رئيس الوزراء، هشام الهاشمي، على يد أحد عناصر ميليشيات «كتائب حزب الله»، وهو شخص يعمل برتبة ضابط في وزارة الداخلية، وبالرغم من اعتقاله وإعلان ذلك منذ أكثر من سنتين، الا أنه حتى الآن لم يحاكم، بسبب الضغوط السياسية التي تمارس على القضاء، اذ تشير مصادر إلى أن القاتل قد أطلق سراحه، وجرى تهريبه الى إيران.

تبدو مدن العراق في حالة حرب، اذ تتواجد عناصر الشرطة والجيش في كل مكان، مع سياراتهم واسلحتهم. فيما تستمر الاغتيالات وعمليات الاختطاف. اذ قتل الالاف امام انظار الأجهزة الأمنية دون ان تفعل شيئا. ويرجع ذلك بحسب البيدر إلى التدخلات السياسية في المشهد الأمني من خلال اختيار القيادات الأمنية على أساس حزبي وطائفي ما اضعف دور المؤسسات الامنية


ونوه البيدر، الى أن المؤسسات الأمنية أصبحت ترتبط بعناوين سياسية، خصوصا ان جزءا من المنظومة السياسية يرى أن لا مكان له في العملية السياسية إذا استقرت الاوضاع في العراق. لذلك، هي تريد ابقاء المؤسسة الأمنية ضعيفة، مبينا أن ضعف هذه المؤسسة وتراجع دور الدولة، سرّع من ظهور المجاميع المسلحة، التي قامت بتثبيت جذورها داخل المؤسسات بشكل سري او علني. 


ومعروف ان المؤسسة الأمنية انهارت في العام 2014، عندما دخل 500 مسلح من تنظيم «داعش» الأراضي العراقية، قادمين من سوريا، ما اسفر عن خروج ثلث مساحة البلاد، من تحت سيطرة الدولة. فتطوع الاف من الشعب العراقي وقدمت الدول العربية والأجنبية قواتها عبر التحالف الدولي لطرد «داعش». وازدادت خلال الفترة هذه الأوضاع الإنسانية سوءا، اذ فقد، بحسب «المرصد العراقي لحقوق الانسان» 27 ألف عراقي بين عامي 2014 - 2018 واغلبهم من المناطق التي كانت تخضع لسيطرة «داعش».
ووفق المرصد، فإن قسماً من المغيبين منذ عام 2014، جرى التخلص منهم بقتلهم خارج نطاق القانون وبعد استجوابات بسيطة حصلت في مناطق نائية لا تستطيع حتى قوات الجيش والشرطة دخولها. كما أُفرغت مناطق سنية بالكامل من اهاليها مثل جرف الصخر التي تسيطر عليها بعض المليشيات.

الاقتصاد والمجتمع


لم يكن الجانب الاقتصادي، أفضل من جانبي السياسة والامن. فمنذ 2003 وحتى نهاية 2022، كان دخل العراق من النفط 1.27 تريليون دولار حسب تقارير شركة تسويق النفط العراقي "سومو".ولم تساهم هذه الأموال في ايجاد تنمية اقتصادية، بسبب الفساد المالي والإداري، اذ ما زالت البلاد تعاني من أزمات مختلفة مثل انقطاع التيار الكهربائي لأكثر من 12 ساعة في العاصمة بغداد، واستيراد الوقود والغاز من الدول المجاورة، وانهيار قطاعات الزراعة والصناعة والتعليم والصحة. 


كما استفحل الفساد المالي والإداري في العراق، اذ ان الإيرادات النفطية لم تستثمر في بناء صناديق سيادية تخصص للأجيال المقبلة. وهدرت الأموال بتوظيف مؤيدي الأحزاب الحاكمة والمليشيات داخل الدولة وبناء دولة عميقة موالية لهم. وتجاوزت اعداد الموظفين الاربعة ملايين شخص، بعدما كانوا اقل من مليون شخص في العام 2003. 
كما تسهل سرقة الاموال العراقية. ويقول وزير المالية الأسبق علي علاوي ان أكثر من 250 مليار دولار، نهبت من العراق الى الخارج. ووقعت في عهده أكبر جريمة سرقة للمال العام بلغت 2.5 مليار دولار. واطلق سراح السارق خلال حكومة محمد شياع السوداني رغم اعتراف المتهم بالسرقة. 
 

استفحل الفساد المالي والإداري في العراق، اذ ان الإيرادات النفطية لم تستثمر في بناء صناديق سيادية تخصص للأجيال المقبلة. وهدرت الأموال بتوظيف مؤيدي الأحزاب الحاكمة والمليشيات داخل الدولة وبناء دولة عميقة موالية لهم

ووفقا لعضو مجلس إدارة "مؤسسة الشفافية الدولية"، محمد الربيعي، فان الفساد بعد 2003، حظى بغطاء سياسي وانتشر في جميع مفاصل الدولة، ما أثر على جودة الحياة. ويموت الالاف سنويا بسببه، نتيجة سرقة أموال المشاريع الصحية والخدمية. وأضاف لـ"المجلة"، إن "الفساد دمر حياة العراقيين. ولا يمكن القضاء عليه، لأنه مدعوم من جهات سياسية، لذلك انعكس سلبا على حياتهم، اذ اصبح المواطنون يتعالجون في مستشفيات دول متعددة، وكذلك التعليم". يتابع "اما السكن، فمن غير المعقول أن  يزيد سعر المتر الواحد عن 7 الاف دولار، نتيجة غسل الأموال التي تجريها بعض الأطراف التابعة للسياسيين الذين استولوا على أموال الدولة ويقومون بتهريبها الى خارج العراق".
وقال الربيعي أن الأموال المسروقة ما زال معظمها خارج العراق. وتتطلب استعادتها جهدا كبيرا قبل استثمارها في الاقتصاد الوطني، لأنها حاليا تخدم اقتصادات دول عدة. 

شهادات... وحراك


من جهته، قال أستاذ الاقتصاد في الجامعة العراقية، عبد الرحمن المشهداني لـ"المجلة"، إن الحكومات منذ تأسيس الدولة العراقية في العام 1920 وحتى سقوط النظام السياسي السابق، في العام 2003، كانت جميع الإيرادات تبلغ 287 مليار دولار، بينما منذ العام 2003 وحتى الآن فان الإيرادات النفطية وغير النفطية تتجاوز 1.5 تريليون دولار، ولم يقوموا ببناء مدن جديدة وجسور وقطارات ومستشفيات وغيرها، وما زال العراقيون يعتمدون بشكل رئيسي على المؤسسات التي أنشأت قبل العام 2003. أضاف ان العراق في تراجع مستمر على كافة المستويات مثل الصحة والتعليم والبطالة والفقر، ولا توجد أي حلول، لان الذين حكموا فكروا في بناء السلطة وليس بناء الدولة، مشيرا إلى أن الدولة قبل العام 2003 كانت تدار بـ880 الف شخص، بينهم 300 الف يعملون في المؤسسة الأمنية. 
وتابع أن "المرض الهولندي" (الذي يطلق على انتشار الاستهلاك وغياب الانتاج) اصاب الاقتصاد العراقي وانتشر في كل اعضائه. كما أن كل مؤسسات الدولة تعتمد على إيرادات النفط بالإضافة الى المتقاعدين وشبكة الحماية الاجتماعية سواء كانت هذه المؤسسات منتجة او لا، مشيرا إلى أن تمييزا يحصل للمواطنين، فالموظف يحظى بالقروض والتقاعد وغيرها، بينما غير الموظف لا يحصل على شيء. وأكد أن الامية تنتشر حاليا في جميع انحاء البلد، بينما كان العراق من البلدان الأولى التي قضت عليها، بالإضافة الى أن التعليم بدأ ينهار. اذ من غير المعقول، ان تتسرب اسئلة الامتحانات الوزارية الى مواقع التواصل الاجتماعي قبل ساعات من بدء الامتحان، مشيرا الى أن الصدفة جلبت هذه الطبقة لتحكم العراق، فخربت مفاهيم الدولة. و

قال ان هناك اكثر من 5 الاف من الأشخاص لا يمتلكون شهادات تبوأوا مناصب مهمة في الدولة. ورتبت الأحزاب قانونا يبقيهم في مناصبهم ويدرسون في وقت واحد، اذ هناك من يحمل شهادة الدكتوراه ولا يمتلك شهادة الإعدادية او المتوسطة. 


ونوه الى أن النظام أوجد طبقة طفيلية من القطاع الخاص، استولت على أموال الدولة وعقاراتها مثل المساحات الخضراء في المناطق والمساحات المخصصة لبناء المستشفيات في الاحياء السكنية. وذلك قبل ان تقر قانونا لتمليك هذه الأراضي للذين وضعوا اليد عليها، بدلا من محاسبتهم. 


وبعد تراجع الاقتصاد خلال السنوات الماضية، ظهر حراك شعبي وأغلبه من الشباب الشيعة، في بغداد والمحافظات الجنوبية، يدعو الى اسقاط النظام السياسي، نتيجة انتشار الفساد المالي والإداري وانهيار مؤشرات جودة الحياة، واستفحال البطالة والفقر، كما قامت اجهزة معينة في عهد عادل عبد المهدي والمليشيات المساندة لها، بتنفيذ اغتيالات بحق قيادات الحراك، واقتحام ميادين الاحتجاج، ما ادى الى سقوط اكثر من 800 شخص، خصوصا ان المتظاهرين بدأوا منذ العام 2015 في حرق القنصليات الإيرانية، وعزوا تدهور الأوضاع الى التدخلات الإيرانية في الشأن العراقي.

 ديانا ايستفانيا روبيو  


وقال القيادي في "حراك تشرين"، ضرغام ماجد، إن المليشيات والمافيات انتشرت في مفاصل الدولة، وتدعم الحكومات الفاسدة التي نهبت ثروة البلاد، وتقوم بتصفية الحراك الشعبي، الذي يطالب بتصحيح مسار العراق، مشيرا الى أن الحراك الشعبي سيستمر لتحقيق مطالب الشعب في انشاء نظام سياسي عادل يخدم جميع فئات الشعب، ويزيل الخراب والفوضى. وأكد أن المتحكمين الفعليين في القرار العراقي منذ العام 2003، هم سفراء دول عدة، مثل اميركا وايران وتركيا، وأن اي قرار يخدم الشعب ويضر اقتصادات هذه الدول، لا ينفذ، مشيرا الى أنه من غير المعقول ان الكهرباء في ثاني اكبر منتج للنفط بمنظمة أوبك، تبقى عصية وتغيب يوميا لساعات طويلة، والسبب أن هناك دولة مستفادة من هذه الازمة وتحصل سنويا على مليارات الدولارات عبر شراء العراق منها الغاز والكهرباء وهي ايران.


ولفت إلى وجود منافذ حدودية مع إيران، غير خاضعة لسيطرة الدولة، وتحت سيطرة المليشيات، حيث يجري إدخال جميع البضائع التي تضر المنتج المحلي، بالإضافة الى ادخال المخدرات التي انتشرت في البلاد.

font change