فرنسا: سنتا تقاعد تكشفان أزمات عميقة  

فرنسا: سنتا تقاعد تكشفان أزمات عميقة  

هما سنتان لا غير. إذا اضيفتا على سن التقاعد ليصبح 64 عاما، لن تقدما أو تؤخرا كثيرا. ازدياد المعدل الوسطي للأعمار بفضل تحسن الرعاية الطبية، يجعل من السنتين اضافة مقبولة للكثير من المتقاعدين الذين يشكون من أن نهاية حياتهم المهنية قد أفرغت وقتهم من المعنى ويوفر الكثير من المال على خزينة الدولة.

هكذا يقول اصحاب التعديل الذي أدخل على نظام التقاعد الفرنسي بعد تظاهرات صاخبة في الشوارع وجلسات عاصفة للجمعية العامة (المجلس الادنى من البرلمان) رفضا للتعديل. لكن ككل مشروع يعني رفاه ملايين البشر، تكون السياقات والخلفيات في أحيان كثيرة أخطر من المقدمات والحجج المعلنة.

فهناك، أولا، السياق العام. فالتعديل يأتي ضمن حزمة من الاصلاحات التي يدفع بها الرئيس ايمانويل ماكرون منذ ما قبل وباء "كوفيد 19" وتأخرت بسببه. الاصلاحات تلك، يُدرجها معارضوها في إطار تفكيك "دولة الرعاية" التي ازدهرت في العديد من الدول الاوروبية بعد الحرب العالمية الثانية وشلمت طيفا واسعا من الضمانات الاجتماعية للفئات الافقر والاقل دخلا. ماكرون يقترح بالتوازي مع رفع سن التقاعد، التعويض على الشركات الخاصة بمبلغ ثمانية مليارات يورو وتخفيض الضرائب عن الشرائح ذات الدخل الاعلى من السكان.

يضيف المشروع ان المتقاعدين سيحصلون على 1200 يورو كراتب ثابت شرط ان يكونوا قد اتموا "مدة عمل كاملة" تصل الى اربعين عاما. هذه الفقرة فتحت افواه الكثيرين من الفرنسيين دهشة. ذلك ان تحقيق هذا الشرط شبه مستحيل في ظروف سوق العمل الفرنسية حيث تعدد حالات التسريح من العمل وتستمر البطالة لعدد من السنوات بين التسريح والعثور على عمل جديد إضافة الى ان بدء العمل بعمر الاربعة والعشرين عاما والاستمرار فيه من دون انقطاع يعادل ضربا من ضروب الخيال.

هي إذا "إصلاحات" للتخلص من عبء الانفاق الاجتماعي للدولة وللشركات.

ومن بين الذرائع التي قدمها انصار الاصلاحات واحدة تقول ان فرنسا باتت تعيش في ظل هرم سكاني مقلوب حيث يرتفع عدد المتقدمين في السن ويكثر بينهم المرضى والحالات التي تتطلب عناية صحية مكلفة، فيما يتضاءل عدد الشباب الذين يدخلون الى سوق العمل ويُفترض بهم حمل اثقال الهرم المقلوب.

الردود التي قدمها النقابيون ومعارضو الاصلاحات تتلخص في ان النظام التقاعدي الحالي لا يمر بأزمة مالية وان حساباته تسير على ما يرام برغم تزايد عدد المتقدمين في العمر وأن الامر سيبقى على هذه الحال ما لم تُخفض التعويضات التي يتعين على الشركات دفعها والضرائب التي تشمل الاغنياء. بكلمات ثانية، ان إصلاحات ماكرون تفتعل مشكلة في نظام التقاعد بتخفيضها ضرائب الاغنياء وتسارع الى جباية الثمن من المتقاعدين.

المسألة الثانية تتعلق بأسلوب ماكرون ذاته وشخصيته الفوقية في التعامل مع مواطنيه. فمنذ مظاهرات "السترات الصفراء" في 2018 و2019، لم يُظهر الرئيس الفرنسي اي تفهم لمعاناة متوسطي ومتدني الدخل جراء ارتفاع اسعار الوقود والنقل ومشكلات الارياف والمناطق الزراعية ولم يجد غير دفع قوى الشرطة للتعامل مع المتظاهرين. و في الازمة الحالية، رفض ماكرون استقبال ممثلي النقابات الذين طالبوه بالتفاوض معهم لإيجاد حل وسط يضمن حقوق من يمسهم التعديل القانوني الذي كان ما زال اقتراحا ولم يصبح قانونا نافذا.

افضى كل ذلك الى تساؤلات عن مستقبل الديمقراطية الفرنسية في وقت تتعرض فيه الانظمة الديمقراطية في الغرب الى اختبارات قاسية من اليمين ومن اليسار على ما يتجلى في الولايات المتحدة

تقود المسألة هذه الى الوجه الثالث للأحداث في فرنسا. ففي الوقت الذي يقيم في قصر الاليزيه رئيس "نخبوي" غير مبال بظواهر الغلاء الفاحش والتضخم وارتفاع حدة التفاوت الاجتماعي، فإن الرئيس ذاته يرسل عبر رئيسة مجلس وزرائه اليزابيث بورن طلبا لتمرير تعديل قانون التقاعد باستخدام الفقرة الثالثة من المادة 49 من الدستور الفرنسي التي تتيح للحكومة اقرار القوانين من دون الحصول على موافقة البرلمان. 


معروف ان المادة هذه ادخلها الرئيس شارل ديغول في 1958 لإبقاء السلطة الحقيقية بين يديه والحيلولة دون تحول النظام السياسي في الجمهورية الفرنسية الخامسة الى نظام برلماني والحفاظ على سمته الرئاسية. وتصبح الأمور مدعاة للتساؤل (بل الاستنكار عند المعارضين) عندما يظهر أن ماكرون لجأ الى المادة المذكورة 11 مرة اثناء مدة حكومة اليزابيث بورن وحدها. وهذا رقم لم يصل اليها احد سابقا سوى ميشال روكار، رئيس الوزراء الاشتراكي في عهد فرنسوا ميتران عندما كان يخوض معركة ادخال المزيد من المكتسبات الاجتماعية الى القانون. 


الوجه الرابع هو تعميق الانقسام السياسي في البلاد بين حزب "النهضة" الذي يقوده ماكرون ويسانده "الجمهوريون" (الديغوليون السابقون) وبين قوى تمتد من أقصى اليسار الى أقصى اليمين يعارض كل منها الإصلاحات المقترحة لأسباب تتعلق بناخبيه وجمهوره. لكن القوى المعارضة هذه لم تتجاوز خط الانقسام العميق بين اليمين واليسار على ما اظهر التصويت على حجب الثقة عن الحكومة، اذ لم يساند اقتراح "التجمع الوطني" اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبين سوى 94 نائبا فيما حظي اقتراح اليسار بمختلف مكوناته بأصوات ب278 صوتا من بينهم 19 من "الجمهوريين" المحسوبين على يمين الوسط. وحال دون سقوط حكومتها تسعة اصوات فقط. 

افضى كل ذلك الى تساؤلات عن مستقبل الديمقراطية الفرنسية في وقت تتعرض فيه الانظمة الديمقراطية في الغرب الى اختبارات قاسية من اليمين ومن اليسار على ما يتجلى في الولايات المتحدة. 

النقابات تستعد لتظاهرات واضرابات عامة غدا. الحكومة سعيدة بنجاتها وتمريرها قانون التقاعد. الشارع يغلي. 

 

font change