إسرائيل على مفترق طرق داخليا... وخارجيا

لا يوجد في الوضع العربي أو الفلسطيني ما يسمح بالاستثمار في التناقضات الداخلية للضغط على إسرائيل بما يفيد الحقوق الوطنية الفلسطينية

(أسوشييتد برس)
(أسوشييتد برس)
إسرائيليون يتظاهرون خارج البرلمان في القدس ضد خطة الإصلاح القضائي لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو

إسرائيل على مفترق طرق داخليا... وخارجيا

شكّلت السياسات التي تنتهجها حكومة نتنياهو، التي باتت تعرّف بوصفها الأكثر تطرّفا بين حكومات إسرائيل منذ إقامة الدولة الغاصبة (1948)، مفاجأة صادمة لمعظم الأطراف الدوليين والإقليميين، سواء بمحاولتها تهميش الطابع الليبيرالي والعلماني والديموقراطي لإسرائيل، أو بسياساتها إزاء الفلسطينيين، ورؤيتها لذاتها ولدورها في الإقليم، وعلى الصعيد الدولي.

مشكلة إسرائيل، هذه المرة، لا تتعلّق باستهدافها الفلسطينيين، فقط، من طريق الاعتقال والقتل وتقويض عملية التسوية معهم، واستمرار الاحتلال والاستيطان وهدم البيوت، وانتهاك المقدسات؛ فكل تلك السياسات ظل أصدقاء إسرائيل يتحملونها، أو يسكتون عنها، أو يغطّونها، باستثناء تعبيرهم عن القلق في بعض بيانات، طوال 56 عاما (أي منذ الاحتلال 1967).

التجرّؤ على دولة عربية

لقد تجاوزت إسرائيل حدودها بالتجرّؤ على دولة عربية، هي الأردن، المنضوية مع تل أبيب في منظومة إقليمية، سياسية وأمنية واقتصادية، في خطاب لـبتسلئيل سموتريتش (باريس، 20/3) وزير المالية، ووزير دولة في وزارة الدفاع (كمسؤول عن الإدارة المدنية في الضفة)، وزعيم حزب الصهيونية الدينية، نفى فيه وجود الشعب الفلسطيني؛ بعدما طالب قبل ذلك بمحو بلدة حوارة (قرب نابلس).

احمد غرابلي (أ.ف.ب)
متظاهرون يشتبكون مع الشرطة خلال مسيرة ضد الإصلاح القضائي للحكومة الإسرائيلية في تل أبيب.

وبحسب محللين إسرائيليين فقد ألحق ذلك الخطاب، الذي تبعه إلغاء قانون فك الارتباط الذي وضع سنة 2005 ونظم تفكيك مستوطنات قطاع غزة وأربع مستوطنات أخرى في الضفة الغربية، ضررا كبيرا بإسرائيل، وبصورتها وعلاقاتها الإقليمية والدولية، لا سيما في ظرف الانقسام السياسي الحاصل فيها. فالمحلل الإسرائيلي عيناب جليلي، مثلا، وصف تلك التصريحات بالمقززة والمحرجة، معتبرا "نفي الفلسطينيين من الوزير سموتريتش، وإلى جانبه خريطة إسرائيل في حجم أمبراطورية جنكيز خان: مصيبة. من ناحية الضرر الأقصى بالحلفاء. وقد أجيز هذا الأسبوع في الكنيست. قانون إلغاء فك الارتباط. خطوة استقبلها البيت الأبيض كاستفزاز قاس، وخرق فظ للاتفاقات... وضرر بحصانة إسرائيل وصورتها ومكانتها" ("يديعوت أحرونوت"، 23/3/2023).

وكتب يوسي فيرتر: "سموتريتش، ألقى خطاباً وخلفه شعار استفزازي "ضفتان للأردن"، يشعل حريقاً في وجه المملكة الجارة. ويتصل الرئيس الأميركي برئيس الحكومة كي لا يدعوه إلى البيت الأبيض وليشرح له ما هي الديموقراطية" ("هآرتس"، 22/3/2023).

والحال فإن مواقف سموتريتش، وبن غفير (وزير الأمن القومي)، وزعيم حزب "قوة اليهودية"، ونتنياهو ذاته، باتت تشكّل احراجا كبيرا لأصدقاء إسرائيل، خصوصا الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وأيضا الأطراف العرب الذين يرتبطون بعلاقات تطبيعية معها، إذ كشفت إسرائيل عن حقيقتها، أكثر من أية فترة مضت، كدولة متعصّبة وعنصرية ودينية في الداخل، إزاء اليهود أنفسهم، في علاقتهم ببعضهم، وعلاقتهم بالدولة، وإزاء الفلسطينيين، سواء من "مواطنيها" أو من فلسطينيي الأراضي المحتلة (1967)، كما بدت عدوانية واستفزازية في محيطها، وحتى في مخاطبتها الغرب، بعدما كانت حريصة على التأكيد أنها امتداد له في المنطقة، وواحة للديموقراطية فيها، وبتمثلها قيم الليبيرالية والعلمانية والحداثة الغربية ذاتها.

سموتريتش، ألقى خطاباً وخلفه شعار استفزازي "ضفتان للأردن"، يشعل حريقاً في وجه المملكة الجارة. ويتصل الرئيس الأميركي برئيس الحكومة كي لا يدعوه إلى البيت الأبيض وليشرح له ما هي الديموقراطية.

يوسي فيرتر - "هآرتس"

مأزق داخلي وخارجي

فاقم من مشكلة تلك التصريحات، أنها أتت في وقت صعب لإسرائيل، بالنظر إلى الانقسام الحاد داخل المجتمع الإسرائيلي، والتصارع بين تياراته السياسية، على صلاحيات "محكمة العدل العليا" ومكانتها، على خلفية توجهات الحكومة المتطرفة لإحداث انقلاب في النظام السياسي لصالح اليمين القومي والديني، من طريق تغليب طابع إسرائيل الديني على العلماني، والبعد اليهودي فيها على حساب البعد الديموقراطي (الخاص بمواطنيها اليهود)، والتخفّف من المكوّن الليبيرالي بإطاحة المساواة في الحقوق بين المواطنين، والفصل بين السلطات، بحجة وجود غالبية سياسية في الكنيست (64 من 120 عضوا). لعل ذلك يفسّر توصيف إسرائيليين لما يجري باعتباره بمثابة انقلاب سياسي، وتحول نحو الديكتاتورية والفاشية، وكوصفة للحرب الأهلية، كما يفسر حال الغضب والتوتر بين الإسرائيليين والتظاهرات العارمة التي باتت تشهدها مدنهم.

أحمد غارابلي (أ.ف.ب)
متظاهرون يشتبكون مع قوات الأمن خارج البرلمان الإسرائيلي في القدس وسط تظاهرات مستمرة ودعوات الى الاضراب العام

بديهي، أن تعزز تصريحات سموتريتش إزاء الفلسطينيين والأردن، والاضطرابات الحاصلة بين الإسرائيليين أنفسهم، وبين المجتمع الإسرائيلي والحكومة، المناخات المناهضة لتوجهات حكومة نتنياهو في الخارج، وتزيد عزلتها، وتصعّب قدرتها على تمرير ما تريد، بدلالة رفض إدارة بايدن دعوة نتنياهو إلى زيارة واشنطن، واستدعاء الخارجية الأميركية السفير الإسرائيلي لتوبيخه (وهو ما حصل في الأردن أيضا)، وبدليل بيانات الرفض والإدانة التي ظهرت في عواصم الدول الأوروبية لمواقف سموتريتش وبن غافير ونتنياهو، وضمنها تمنّع ريشي سوناك رئيس الوزراء البريطاني عن اصدار بيان مشترك بعد زيارة نتنياهو للندن.

كل ما تقدم سيصعّب على اسرائيل مواجهة التحديات الخارجية، في سعيها إلى تحشيد الجهود للضغط على إيران، وعزلها، وتقويض برنامجها النووي، وفي محاولتها توسيع دائرة الدول العربية التي ترتبط معها بعلاقات سياسية واقتصادية وأمنية، فضلا عن كون ذلك يوتر العلاقات مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية المشغولة بحرب روسيا في أوكرانيا.
 
وقد عبّر بن كسبيت عن ذلك حين قال ان الدول العربية التي وعد نتنياهو بـ"توسيع دائرة السلام معها"، وسّعتها مع إيران،"والأميركيون غير مستعدين ليسمعوا بزيارة نتنياهو لواشنطن، كما أنه لم يتلقَّ دعوة قريبة أيضاً إلى أبو ظبي" ("معاريف"، 13/3/2023). وعند جيرمي يسسخاروف فإن "هذه الخطوات لن توسع دائرة التطبيع في المنطقة ... حكومة نتنياهو تهدد مستقبل إسرائيل" ("هآرتس"، 16/3/2023). 


تفيد كل المعطيات بأن ثمة تصدّعا داخليا كبيرا في إسرائيل، على الصعيد الاقتصادي وفي المؤسسة العسكرية، بل إن معظم النخب الإسرائيلية تبدو على طرف أخر، في مواجهة شعبوية نتنياهو وحلفائه، 

بيد أن ما يجدر التذكير به هنا، هو أنه لا جديد جوهريا في ما تفعله حكومة نتنياهو وسموتريتش وبن غفير، إذ هي فقط أكثر تجرؤا، التسوية أو وقاحة، في كشف حقيقتها، كدولة استعمارية وعنصرية ودينية، في الشرق الأوسط، بدلالة أن حكومة حزب العمل بقيادة ايهود باراك هي التي وضعت حجر الأساس في تقويض اتفاق أوسلو (في مفاوضات كامب ديفيد 2 2000)، وقوّضت إبان حكومات أحزاب العمل وليكود وكاديما، مشروع نظام "الشرق الأوسط الجديد"، الذي طرح مطلع التسعينات، بإصرارها على هيمنتها على المنطقة اقتصاديا، ورفضها تقديم أي تنازل للفلسطينيين، ثم هي التي أطاحت المبادرة العربية للسلام (2002)، بتجاهلها لها، وأطاحت خطة "خريطة الطريق" (2003)، وبعدها تفاهمات "أنابوليس" (2007) في عهدي الرئيس بوش الابن، وها هي بتصريحات سموتريتش لا تلقي أي بال باتفاقيتها مع الأردن، ولا باجتماعات شرم الشيخ والعقبة، التي شاركت فيها مصر والأردن.

تحذير من خراب البيت

تفيد كل المعطيات بأن ثمة تصدّعا داخليا كبيرا في إسرائيل، على الصعيد الاقتصادي وفي المؤسسة العسكرية، بل إن معظم النخب الإسرائيلية تبدو على طرف أخر، في مواجهة شعبوية نتنياهو وحلفائه، وهذا يشمل وزير الدفاع ورئيس الأركان وقائد "الشاباك"، كما يشمل شركات التكنولوجيا المتقدمة، والشركات الدولية، وضباط وجنود الاحتياط الذين يعربون عن عدم التقيد بالتدريبات ولا بتلبية الدعوة للاحتياط. يقول بن كسبيت: "255 مستثمراً ورجال أعمال أميركيين استثمروا مليارات في إسرائيل، بعثوا بكتاب إلى رئيس الوزراء يهددون فيه بوقف الاستثمارات... المال يواصل الخروج من إسرائيل بسرعة وبضخ متصاعد. شركات دولية نشطة هنا تعيد النظر في خطاها... الشرخ الاجتماعي المتعمق والاحتجاج المتصاعد في الجيش وأذرع الأمن الأخرى... بدأ هذا مع رجال المدرعات، وتواصل مع رجال الاحتياط، وثمة احتجاج كبير للمدفعيين، والمظليين، وغولاني" ("معاريف" 13/3/2023).

 حازم بدر (أ.ف.ب)
متظاهر يحمل لافتة تحمل صور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وخلفه وزير العدل ياريف ليفين في تجمع خارج الكنيست الإسرائيلي في القدس

 

معظم وجهات نظر المحللين الإسرائيليين ركزت على الأخطار الآتية:

أولاً، تبديد، أو وقف، مسيرة التطبيع مع البلدان العربية. 

ثانياً، تزعزع علاقات إسرائيل مع الولايات المتحدة. 

ثالثاً، إضعاف الجهد اللازم لإضعاف إيران. 

يمكن معرفة أثر ذلك على إسرائيل وعلى اجماعاتها الداخلية بالنظر إلى حقيقة أن المنتسبين إلى التيارات الدينية الأصولية، التي تشكل الجسم الرئيس للأحزاب الدينية في حكومة نتنياهو، لا يخدمون في الجيش، ولا يدفعون الضرائب، بل ويشترطون على الدولة، مثلا وقف العمل يوم السبت، وضمنه وقف الحافلات، والأهم أنهم يعيشون على تقديمات وامتيازات تمنحها لهم الدولة، على حساب الجمهور العلماني، الذي ينخرط في الجيش ويدفع الضرائب، وتلك المسألة تحدث شرخا كبيرا في إسرائيل، وهي موضع خلاف بين تياراتها السياسية.
في العموم فإن معظم وجهات نظر المحللين الإسرائيليين ركزت على الأخطار الآتية:

أولاً، تبديد، أو وقف، مسيرة التطبيع مع البلدان العربية. 
ثانياً، تزعزع علاقات إسرائيل مع الولايات المتحدة. 
ثالثاً، إضعاف الجهد اللازم لإضعاف إيران؛ هذا طبعا يضاف إلى خسارة طابع إسرائيل كدولة ليبيرالية وديموقراطية (بالنسبة إلى اليهود فيها)، أي بغض النظر عن الاحتلال.

بيد أن خسارة الولايات المتحدة كحليف استراتيجي، أو تصدع العلاقة معها، احتلت حيزا أساسيا في تلك المناقشات، بحكم دورها في الحفاظ على مكانة إسرائيل وأمنها وتفوقها في المنطقة، الأمر الذي لا يمكن تعويضه إطلاقا.
 
في هذا الصدد وجد ألون بنكاس ملامح نهج أميركي جديد يربط بين المسألة الداخلية في إسرائيل بعلاقتها بالسياسة إزاء الفلسطينيين، إذ "الامتناع عن دعوة نتنياهو إلى واشنطن... دليل يفوق أي توبيخ أو تصريح أميركي... الميزة المهمة للنهج الأميركي أنهم يعتبرون العمليات في إسرائيل شيئاً واحداً وموحداً...لا يوجد فصل بين الجانب الدستوري -السياسي ومحاولة نتنياهو الانقلابية، وبين السياسة تجاه الفلسطينيين. هما مرتبطان، وأي بُعد مصمم لتمكين تنفيذ الآخر" ("هآرتس"، 23/3/2023). وهذا تطور لافت حقا في الموقف الأميركي أكده، أيضا، بن كسبيت في تقرير قال فيه: "الأميركيون... كانوا واضحين، فظين وحادين: إذا أردتم مواصلة الحديث وتنسيق الاتصالات معنا في موضوع إيران... فقد حان الوقت لتهدئة "المناطق" [الضفة الغربية]. لن نوافق على اللعب المزدوج... عندما نبعث بمندوبين كبار إلى مؤتمر العقبة ثم تبعثون برئيس هيئة الأمن القومي ورئيس "الشاباك"... وتقولون "ما حصل في العقبة يبقى في العقبة"، فعندها لا حديث معكم... إذا كنتم تحتاجون الولايات المتحدة، فتصرفوا كأنكم تحتاجونها. لن نرضى بأن يتفق معكم على أمور في العقبة وفي الليلة نفسها تحرقون حوارة، وبعد ذلك يقول وزير ماليتكم إنه يجب محو القرية" ("معاريف"، 7/3/2023). وهذا يوآف ليمور يتفق مع ذلك التحليل، لأن "العالم الغربي يصعب عليه التعاون مع حكومة تعد مخربة للديموقراطية" ("إسرائيل اليوم" 13/3). وفي رأي ابراهام بن تسفي، "تتقدم إدارة بايدن بسرعة إلى مواجهة جبهوية مع إسرائيل... جملة كاملة من الأطر موضع الخلاف... تضع علامة استفهام على الصلة القيمية بين الحليفين، وعلى مدى أهمية إسرائيل كذخر استراتيجي مركزي للولايات المتحدة" ("إسرائيل اليوم" 23/3/2023).

إيتاي رون (رويترز)
مسافرون ينظرون إلى شاشة تعرض الرحلات الجوية المتأخرة في مطار بن غوريون الدولي في اللد بعد تعليق الإقلاع كجزء من الاحتجاجات.

أخيرا، ثمة ملاحظات عدة:
الأولى، أن غطرسة إسرائيل وتطرفها ناجمان عن تمتّعها، منذ إقامتها قبل 75 عاما، بقوة مضافة مستمدة من دعم الغرب لها، ومن تخلّف العالم العربي وتشتّته إزاءها، ومن ضعف الحركة الوطنية الفلسطينية، خصوصا بتحولها الى سلطة على شعبها. 

الثانية، إن ما يحصل في إسرائيل ناجم عن التناقضات التي نشأت فيها منذ تأسيسها، كدولة مستوطنين/مهاجرين، بين الشرقيين والغربيين، والمتدينين والعلمانيين، واليمين واليسار، والمعتدلين (بالمفهوم الإسرائيلي) والمتطرفين، لكنها استطاعت حلها، أو إدارتها، بواسطة نظامها الديموقراطي، وأيضا بتغليبها الصراع، أو التناقض الخارجي، على التناقض الداخلي، بدعوى أنها تعيش في محيط خطر يتهدد وجودها، وهو الأمر الذي تراجع كثيرا، بانحسار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وبعقد اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين (1993)، ما يفسر صعود التناقضات الداخلية، وضمنها التناقض بين طابع إسرائيل كدولة ديموقراطية وبين واقعها كدولة استعمارية وعنصرية إزاء الفلسطينيين.

الثالثة، أن قوة "الديموقراطية" في النظام السياسي في إسرائيل (نسبة إلى مواطنيها اليهود)، مع الجهود والضغوط الغربية لإنقاذها "رغم أنفها"، بحسب تصريح لجورج بول (نائب اسبق لوزير الخارجية الأميركي (في السبعينات)، ستؤدي إلى مخارج من هذا الوضع الصعب، علما أنه لا يوجد في الوضع العربي أو الفلسطيني ما يسمح بالاستثمار في التناقضات الداخلية للضغط على إسرائيل بما يفيد الحقوق الوطنية لشعب فلسطين.

font change