إعادة نظر في المواطن ودوره 

إعادة نظر في المواطن ودوره 

هو هجوم عالمي على الديمقراطية المأزومة ومحاولة لاعادة حكم الفرد المتسلط المختبئ وراء أصوات الناخبين. إنه احياء للديمقراطية غير الليبيرالية وإسقاطٌ لتوازن السلطات ورقابتها بعضها على بعض.

هذا ما يخرج به قارئ التطورات الاخيرة من فرنسا الى اسرائيل الى الصراعات المتفاقمة بين الجمهوريين والديمقراطيين الاميركيين التي وصلت الى منع كتب مدرسية بسبب مضمونها غير الملائم.

رؤساء يسعون الى فرض تعديلات دستورية للبقاء في أماكنهم الى الأبد، مقابل "قلاع للديمقراطية" يتغير فيها ثلاثة رؤساء للوزراء في ثلاثة شهور على ما جرى في بريطانيا نهاية العام الماضي. هذا فيما يعتاد العالم على انواع جديدة من الحروب التي لا حلول لها ولا نهايات تلوح في الافق. "ظروف غير مناسبة للسلام"، مصطلح جديد يدخل القاموس السياسي، حيث لا يرى الاطراف المتحاربون أن حالة الاستثناء هي الحرب وان السلام هو الحالة الطبيعية. بل أن السلام والحرب يستطيعان التعايش معا ضمن جغرافيا واحدة حتى لو كانت خطوط التماس تفصل بين قوى كبرى مسلحة نوويا وليس بين ميليشيات تسيطر على احياء وزواريب.

إن رسم خط ناظم يصل نقاط الاحتقان في عالم اليوم في سبيل تكوين لوحة قابلة للفهم والتعقل و"نزع السحر عن العالم" بتعبير ماكس فيبر، مسألة عويصة، يقابلها تقدم اعتقاد بتفكك الصلات الجامعة للبشر ونفي لـ"القيم الكونية" وتجزئة لها باعتبارها موضوعة في الغرب لخدمته والحفاظ على مصالحه. عليه، يعود "السحر" ليجعل من التاريخ سلسلة من الاحداث الاعتباطية لا يربط بينها رابط. تبدأ من دون سبب وتنتهي بلا غاية.

الأسئلة متنوعة في هذا المجال: هل هناك ما يجمع حقا بين الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء الاسرائيلي، إذا رغبنا النظر في حالتين من حالات الانتفاض الشعبي في وجه سياسات حكومات "منتخبة ديمقراطيا"؟ وهل النزول بهذه الكثافة الى الشوارع بعد شهور قليلة من الانتخابات النيابية في اسرائيل وفرنسا، من جهة لتحدي مشاريعهما الاصلاحية، وإصرار الحكومة البريطانية، من جهة ثانية، على عدم استجابة مطالب الموظفين والعمال وسط ما يُطلق عليه "أزمة تكاليف الحياة"، هي حالات لا تتعارض مع سلامة التمثيل السياسي السائد حاليا؟

يتفكك العالم وينقسم وحدات لا تلبث ان تتضاءل لتنشب الصراعات والحروب الأبدية بينها. لكن التفكك والصراعات تلك دليل آخر على الوحدة وسير العالم في وجهة كبيرة واحدة.  ودور المواطن الذي قيل انه لن يتخلى عن حقه في صوغ السياسات والحكومات، يعاد النظر فيه اليوم تحت عناوين "المصالح العليا" و"الوحدة الوطنية" و"حرمان الخصم من الامتيازات"

ثم لماذا يتعمق الانقسام الاميركي بهذه السرعة؟ معلوم ان الفرز قديم بين الجمهوريين في الولايات الداخلية والجنوبية والديمقراطيين على سواحل الاطلسي والهادئ، لكن لم يُسمع سابقا بمطالب مثل التي يرددها نواب اليمين الجمهوري اليوم عن انفصال الولايات الحمراء (الجمهورية) عن تلك الزرقاء (الديمقراطية) منذ الحرب الاهلية في ستينات القرن التاسع عشر، بغض النظر عن استحالة تحقيق مشروع كهذا لأسباب عدة منها ان ثمة الولايات تغير ولاءها السياسي كل بضعة أعوام كما أثبتت الانتخابات الرئاسية الاخيرة. 


والحال، ان التفكك الظاهر بين يمين ويسار وليبيراليين ومحافظين، ناهيك بيقظة سياسات الهوية (على غرار ما يجري في الهند على سبيل المثل، حيث تترافق الشعبية الجارفة لرئيس الوزراء نارندرا مودي ونُذُر نشوء عبادة شخصية له، مع تحول خطاب الكراهية للمسلمين الى محل إجماع لدى الاكثرية الهندوسية) والخطر الداهم على الاستقرار العالمي في ضوء "التطبيع" مع الحروب والتسليم بعاديتها وقابليتها للاستمرار الى ما لا نهاية، يقول شيئا أبعد وأخطر من تداعي حوادث تتوالى بمحض المصادفة ولا تشير الى سمة ما للعصر الحالي. 


دعونا من "تحديد سمات العصر" على طريقة الأحزاب الشمولية وأوهامها عن بناء جنات أرضية في حال تسلّمها السلطة. فالنتائج في العالم العربي مع البعثين العراقي والسوري وفي اليمن الجنوبي، أفصح من ان يتنطح فيها عنزان. لقد انقلبت "اليوتوبيا" القومية والاشتراكية الى جحيم لا تحول ولا تزول وسلسلة لا آخر لها من الحروب الاهلية والطائفية والجهوية. 


بيد أن ذلك لا يلغي الحقيقة البسيطة عن تداخل المعطيات الاقتصادية والاجتماعية الحالية مع المكونات الثقافية والسياسية في العالم اجمع. تطبيق "تيك توك" يبدو اليوم اعمق اثرا على الاجيال الشابة، وبالتالي على خياراتها وأذواقها واهتماماتها، وطردا على الوجهات التي ستمضي اليها الاجيال المقبلة، من قسم كبير من وسائل الاعلام والتواصل التقليدية، ما يجعل مهمة استنباط أساليب جديدة لاستمرار السلطات بمختلف اشكالها، ملتصقة بالمعطى التقني و"الميديوم" القادر على الوصول الى الشباب. وقد بات هذا بمثابة البداهة. 
بكلمات ثانية، اتخذت "صناعة المحتوى" شكلا جديدا من دون ان تتخلى عن مهمتها الاولى وهي تبرير السيطرة السياسية والاجتماعية للفئات الأقوى. وانتقلت "صناعة الرأي" من المقالات والمجلات، سواء الصحافية او الاكاديمية، وحتى من الصحف الشعبية، الى "المضمون" الذي يتعين ان يكون سريعا ومباشرا وواضحا وقابلا للإيصال في اقل من دقيقة واحدة على شاشة مرئية صغيرة للهاتف الذكي. 
يتفكك العالم وينقسم وحدات لا تلبث ان تتضاءل لتنشب الصراعات والحروب الأبدية بينها. لكن التفكك والصراعات تلك دليل آخر على الوحدة وسير العالم في وجهة كبيرة واحدة. 
دور المواطن الذي قيل انه لن يتخلى عن حقه في صوغ السياسات والحكومات، يعاد النظر فيه اليوم تحت عناوين "المصالح العليا" و"الوحدة الوطنية" و"حرمان الخصم من الامتيازات". 


 

font change