المصارف ... هدوء ما قبل العاصفة

"السمعة الحسنة" تأتي أولا في صلب ازدهار أي مصرف قبل أصوله وأرباحه

المصارف ... هدوء ما قبل العاصفة

يشعر المصرفيون في العالم بدوار، كحال من يخرجون من حلبة ملاكمة بعدما أصيبوا بضربات قاسية في الرأس ولم يستعيدوا توازنهم بعد.

ولربما كانت آلام الصداع المصرفي لتكون أخف لو توقفت الجولات المتسارعة في مارس/آذار الماضي عند حد إفلاس "سيليكون فالي بنك" (SVB) ربطا بخصوصيته المتعلقة بسوء الإدارة وبتمويل الشركات الناشئة وما أصاب قطاع التكنولوجيا من خسائر وتراجع طوال العام المنصرم، ومتأثرا كذلك بتداعيات رفع الاحتياطي الفيديرالي للفائدة الى مستويات غير مسبوقة. لكن الضربة المؤلمة جدا تلقّاها القطاع "من بيت أبيه" مع سقوط "كريدي سويس" بين يدي منافسه "يو. بي. أس." بالضربة الفنية القاضية!

لا مصرف كبيرا وقت تهتز الثقة

فإذا كان ممكنا للقطاع المصرفي العالمي أن يهضم إفلاس مصرف "SVB"، ومعه مصرفا "سيغنتشور بنك" و"سيلفرغيت بنك" الأميركيان، فإن إفلاس المصرف السويسري العريق، بيت مال الثروات، والملجأ التاريخي للأثرياء منذ 167 عاما، ليس تفصيلا عابرا، إذ زعزع الثقة بالقطاع عموما وأثار مخاوف المودعين عبر العالم بأن لا مصرف كبيرا وقت تهتز الثقة.

لذا وفور إنقاذه باستنفار دولي وتوقيت سويسري مميزين، برزت أزمة "فيرست ريبابلك" وتم التداول بأسماء أخرى قبل أن يتم تدارك الأمر وتتكاتف المصارف الكبرى في الولايات المتحدة لرفد المصرف الأخير بثلاثين مليار دولار لإنقاذ سمعة القطاع ولجم الانهيار في مهده داخليا وخارجيا، لا سيما بعد اهتزاز أسعار أسهم مصارف كبرى، لتهدأ بعدها الأسواق قليلا.

ستبقى صدمة "كريدي سويس" الهاجس الدائم لتذكير العالم بهشاشة الثقة بالقطاع المصرفي وأن "السمعة الحسنة" تأتي أولا في صلب ازدهار أي مصرف قبل أصوله وأرباحه.

بعد الخروج من "امتحانات آذار" العسيرة، يتنفس المصرفيون الصعداء هذه الأيام، لكن الجميع يتحسس رقابه خشية أن تكر السبحة عند أول مفترق، فنشهد تساقط حجارة الدومينو واهتزاز الثقة مجددا في ظروف أشد قسوة من سابقاتها على مستوى عابر للقارات. من اليوم، لم يعد في إمكان عتاة المصرفيين ومحللي الأسواق، ومعهم المودعون، المراهنة على توقعاتهم وحكمة قراراتهم واستثماراتهم، ولا على الفاعلية المسبقة لرقابة السلطات النقدية، بعدما خابت ظنونهم في أن تمر الأزمة بسلام.
 
على مدى 15 عاما، دأبت السياسات النقدية على التحوط للحد الأدنى من الأخطار المالية، مع بقاء أسعار الفائدة الفعلية دون الصفر، فتكيف النظام المصرفي مع مجموعة من عوامل الازدهار غير الطبيعية كما لو كانت دائمة. الآن، أدت عودة التضخم إلى سخونة مفاجئة في الاقتصاد، وتقلبت أسعار كل شيء تقريبا في الأسواق المالية لتتحول الأرباح إلى أعباء، وعادت ملامح الإنهيار تلوح في الأفق. ليس ذلك نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا فحسب، فجائحة كوفيد-19 التي استمرت على مدى نحو عامين منذ مطلع 2020، استدعت رد فعل دوليا تمثل في ضخ التمويل بمبالغ ضخمة في مقابل تباطؤ اقتصادي أوصل سعر نفط خام البرنت عند نحو 20 دولارا.

هل نحن في "لحظة مينسكي"

يعزو بعض المراقبين الهدوء الذي تشهده الأسواق إلى نشاط "متهور" من المضاربة التي تصبغ الأسواق بمنحى تصاعدي غير مستدام، ووصفه أحد المحللين في مصرف "جي. بي. مورغن" بـ"لحظة مينسكي" (Minsky Moment) وهو المصطلح الذي توصف به المرحلة التي تسبق بداية انهيار اقتصادي وشيكة (تبعا لاسم الاقتصادي هيمان فيليب مينسكي).

إلا أن الأسواق لم تتخط أزمة 2008 من دون دروس وعِبَر. يبدو أن الدرس الأبرز لم يكن في كيفية تجنب الانهيار، بل في كيفية إدارته للحد منه. فردود الفعل التي شهدناها على أثر انهيار "SVB" ومن بعده "كريدي سويس"، أظهرت جليا عدم استعداد الجهات التنظيمية في البلدان المعنية لامتصاص الخسائر واستجابتها السريعة لوضع حد للأزمة وحاجتها الى اتخاذ تدابير صارمة تستأصل "الورم المالي" بسرعة وكفاءة وإيجابية، كما حصل مع "SVB" من خلال تعويض المودعين، وليس المساهمين أو إدارة المصرف، وكذلك سرعة عملية بيع مصرف بحجم "كريدي سويس" من دون رفة جفن، ودعوة المصارف الكبيرة إلى رفد " فيرست ريبابلك" فورا، بغض النظر عن صحة هذه الإجراءات وعدم الإحاطة الكافية بتداعياتها.

ستبقى صدمة "كريدي سويس" الهاجس الدائم لتذكير العالم بهشاشة الثقة بالقطاع المصرفي وأن "السمعة الحسنة" في صلب ازدهار أي مصرف قبل أصوله وأرباحه، حتى بعد الإصلاحات التي أعقبت أزمة 2008 والتي خلفت انهيار أكثر من 400 مصرف خلال أربعة أعوام.

خلاصة القول إن انهيار "كريدي سويس" يعني أن المصارف الأخرى يمكن أن تنهار أيضا.

أن الاحتياطي الفيديرالي لن يتمكن من بلوغ نسبة تضخم 2 في المئة من دون سحق الاقتصاد، وأن الحاجة هي الى معدل أعلى قد يبلغ 3 أو 4 في المئة ليكون أكثر واقعية واستقرارا.

محمد العريان، رئيس كلية "كوينز" في جامعة كامبريدج

هذا عدا عن سعي المصارف منذ أزمة 2008 الى تعزيز رسملتها والحرص على حسن إدارتها. إلا أن ذلك لم يمنع تكبد المصارف الأميركية خسائر غير محققة بـ 620 مليار دولار منذ نهاية 2022 من الأصول التي فقدت قيمتها ولم يتم بيعها بعد، وفقا لبيانات "المؤسسة الفيديرالية للتأمين على الودائع" (FDIC)، وهذه الخسائر مرشحة للارتفاع إذا استمر الاحتياطي الفيديرالي في رفع أسعار الفائدة. كما انخفضت القيمة السوقية للمصارف عالميا بنحو 459 مليار دولار منذ مطلع مارس/آذار الماضي. ناهيك بـ "SVB" و"فيرست ريبابلك" اللذين اقترنت أعمالهما بأسواق العملات المشفرة المتهالكة، كما تعرضت أرباح المصارف التجارية الأميركية الى ضغوط نتيجة تدهور جودة الأصول في موازناتها وتباطؤ نمو القروض وارتفاع الفائدة على الودائع.

صارت الأرض خصبة جدا لإثارة الذعر

يكمن الخطر في إخفاق المصارف تحديدا، ليس فقط في واقع أن هذا الإخفاق يمكن أن ينسحب على مصارف أخرى ليجر بعضها بعضا، وإنما ينعكس أيضا على الأعمال والشركات والأفراد الذين وثقوا في هذه المصارف واستأمنوها على أموالهم. هذا ما عبر عنه محللون في "موديز" بقولهم "إن الزيادة الحادة في الاقتراض الطارئ للمصارف من نافذة الاحتياطي الفيديرالي تعكس ضغوط التمويل والسيولة في هذه المصارف، مدفوعة بضعف ثقة المودعين"، ليضيفوا أن البيانات "تتماشى مع النظرة السلبية لـ "موديز" في شأن النظام المصرفي الأميركي".

إنها حال من "عدم اليقين" غير المسبوقة، حتى عندما بلغت الجائحة أوجها على حد تعبير ستيفن ميران، وهو من المستشارين السابقين الكبار في وزارة الخزانة الأميركية. وفي بيئة تسري فيها المعلومات حول الكوكب بسرعة البرق، وهو ما لم يكن قائما في أزمة 2008، بات المودعون والمستثمرون على حد سواء أمام كمية هائلة من المعلومات والمؤشرات المتضاربة ووقت أقل للتمييز بين ما هو صائب وما هو خاطئ والانجراف مع القطيع في اتجاه قد لا يكون صحيحا. أصبحت الأرض خصبة جدا لإثارة الذعر والدفع نحو انهيار الثقة بالقطاع المصرفي سريعا وأكثر فأكثر، وهذا ما يفسر السحب الهستيري للودائع مثلا (42 مليار دولار في يوم واحد في حالة "SVB" مثلا) وما يتبع ذلك من ارتدادات.

بعد الخروج من "امتحانات آذار" العسيرة، يتنفس المصرفيون الصعداء، لكن الجميع يتحسس رقابه خشية أن تكر السبحة عند أول مفترق، فنشهد تساقط حجارة الدومينو واهتزاز الثقة مجددا في ظروف أشد قسوة من سابقاتها على مستوى عابر للقارات. 

على الرغم من ذلك كله، لا مفر أمام البنوك المركزية سوى مواصلة كفاحها ضد التضخم، ولن يسعها إلا ممارسة مزيد من الضغط على النظام المالي المتعثر، وخلافا لما يأمله جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيديرالي الأميركي، يرى خبراء اقتصاديون أن "الهبوط الآمن" لم يعد ممكنا في المدى المنظور، وأن الركود آت لا محالة. يوافقهم في ذلك المفكر الاقتصادي ورئيس كلية كوينز في جامعة كامبريدج محمد العريان، مؤكدا أن الاحتياطي الفيديرالي لن يتمكن من بلوغ نسبة تضخم 2 في المئة من دون سحق الاقتصاد، وأن الحاجة هي الى معدل أعلى قد يبلغ 3 أو 4 في المئة ليكون أكثر واقعية واستقرارا.
     
واذا ما أخذنا في الاعتبار المسارات السياسية الدولية، من حرب أوكرانيا الى تصاعد التنافس الأميركي-الصيني المحموم الذي يقترب أكثر فأكثر من أشكال تصادمية، بحسب أكثر من تقرير وتصريح وتلميح، وكذلك الاستحقاق الأميركي الحيوي لرفع سقف الدين في يونيو/حزيران المقبل والحديث المتنامي عن تراجع دور الدولار، فإن كل التحليلات المنهمرة طوال الأسابيع المنصرمة، وعلى الرغم من تطميناتها، توحي في طياتها وكأننا دخلنا في مرحلة هدوء ما قبل العاصفة. 

font change