يقف العالمُ على قدمٍ ونصف قدم في انتظارِ المسارِ الذي ستسلكه الحربُ الإسرائيلية الإيرانية المباشرة. يضرب الخبراءُ على أنواعهم، أخماساً بأسداس في انتظارِ القرارِ النهائي لرجلٍ واحد هو الرئيسُ الأميركي دونالد ترمب، الذي وعد ناخبيه بالانسحاب من حروب العالم وخصوصا في الشرق الأوسط، ووعد بسلامٍ يُدهشنا من أوكرانيا الى غزة، وهو لا يُفوِّتُ مناسبةً إلا ويكيلُ الاتهامات والنعوت لسلفه جو بايدن، ويُذكّرنا بأنه لو كان مكانَه لَما اشتعلتْ نيرانٌ ولا اندلعتْ حروب.
يزعم خبراءُ الاقتصاد أن ما سيحسم فعلاً توقيتَ قرارِ الحرب أو المفاوضاتِ ومصيرِها، هو أيضا حساباتُ البورصات، وتوقعاتُ أهلِ السوق والاختصاص لسعرِ برميل النفط، وسلاسلِ توريد النفط وقدراتِ خزاناتها في حال إطالةِ أمدِ الحرب، سواء أقدمت أميركا أم لم تُقدِم على إنزالِ قنابل الـ (GBU-57) على أنفاق مفاعل "فوردو" النووي، أو ارتكبت إسرائيل أو لم ترتكب حماقةَ اغتيالِ المرشد الإيراني علي خامنئي.
لا شك أن لحساباتِ التداعياتِ الاقتصادية على مؤشراتِ التضخم والنمو والبطالة، ثقلَها في الميزان، ولا تصحُّ الاستهانةُ بالأثر الذي تتركه أسعارُ الغاز والمحروقات والنقل والإنتاج في أوروبا والصين مثلا.
من الواضح بحسب المعطيات الراهنة، أن مضيقَ هرمز هو بيضةُ القبان، بعد استيعاب سوق النفط للصدمة الأولى للحرب التي شنتها إسرائيل على إيران
في الوقائع والأرقام، قفزت أسعارُ النفط فوصلت في ذروة صعودها إلى 13 في المئة، في أعقابِ الضربات التي شنّتها إسرائيل على طهران والمنشآت النووية الإيرانية، واغتيال القادة والمسؤولين الكبار في الحرس الثوري. غير أنّ هذه الأسعارَ عادت لتستقرَّ عند ارتفاع بمستوى 8.7 المئة، بعد مرورِ ثمانية أيام على الحرب، على الرَّغم مما حملت الأيام المنصرمة من قصفٍ عنيفٍ ودمارٍ ماحقٍ غيرِ مسبوقَين بين البلدين.
ما بعد إغلاق مضيق هرمز
من الواضح بحسب المعطيات الراهنة، أن مضيقَ هرمز هو بيضةُ القبان، حيث يمر نحو 21 مليون برميل يومياً من الاستهلاك العالمي للنفط و20 في المئة من الغاز الطبيعي العالمي المسال.
وفي سيناريو محتمَل لحربٍ شاملة، تنخرط فيها غرفُ العمليات العسكرية الغربية وأساطيلُ طائراتها، وفي حالِ إغلاقِ مضيق هرمز، تتوقع بيوتٌ مالية ارتفاعاً لأسعار النفط إلى مستوى 120و 150 دولاراً للبرميل، ولا سيما اذا تبيَّن أن المنطقةَ ودولَ القرار ستغرق في حربِ استنزافٍ طويلة.
وتتحدث سيناريوهاتُ المتشائمين، من مثلِ بعضِ أجهزةِ الاستخبارات وخبراء النفط، أن الإغلاق الكامل للمضيق واستهدافَ منشآتٍ في الخليج، قد يؤديان الى "صدمات أسعار"، بحيث ترتفع الى أكثرَ من 200 دولار، ولو مؤقتا.
كما أن السؤال الرائج حاليا مثل النار في الهشيم ماذا عن "اليوم التالي" في إيران بعد إحراق مفاعلها النووي، أو إسقاط النظام؟ لا جواب حاليا.
ماذا لو ارتفع النفط الى 200 دولار؟ ماذا يعني ذلك للتضخم وأسهم الشركات والأسواق وللدول المستوردة للغاز والبترول من أوروبا الى الهند والصين
لكن ماذا يعني سيناريو أن يرتفعَ سعرُ برميل النفط الى مئتي دولار، ويستمرَ كذلك لشهورٍ عدة؟ إنه يعني ارتفاعاً هائلاً للتضخم في العالم، واضطراباً في أسواقِ المال وأسهمِ الشركات، بحيث تتأثر سلباً الدولُ المستوردةُ مثل الهند والصين، وتتكبد دولُ أوروبا ثمناً باهظاً، وتقع في عجوزاتٍ تجارية، ناهيك عن اضطرابِ سلاسلِ الإمداد، في مقابلِ تحقيق فوائضَ للدول المنتجة والمصدِّرة للنفط والغاز. وسيلي ذلك ركودٌ اقتصاديٌ عالمي حادّ وعميق يؤدي إلى إفلاسِ آلاف المصانع والشركات.
ماذا تُعلّمنا دروس التاريخ؟
ماذا نتعلم من دروس تاريخ أسعار النفط، بعيداً من هذه السيناريوهاتِ المتشائمة، وعلى الرَّغم من كلِّ الاحتمالاتِ المفتوحة على الغارب؟
يقول دونكان ويلدون، مؤلفُ كتابِ "الدم والكنز: اقتصاديات الصراع من الفايكنغ إلى أوكرانيا" في مقالٍ له نشرته "الفايننشال تايمز": نادراً ما يكون التفاعلُ مباشراً بين عدمِ اليقينِ الجيوسياسي وأسعارِ النفطِ والاقتصادِ الكلي، مستنداً الى أبحاثِ البنك المركزي الأوروبي. ويذكّرنا بأن أسعارَ خام برنت قفزت بنسبة 5 في المئة في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول في نيويورك مباشرةً، حيث احتسب المستثمرون ثمنَ احتمالِ اندلاعِِ الحرب في الشرق الأوسط مما قد يؤدي إلى توقفِ الإمدادات. لكن الأسعار انخفضت بنسبة 25 في المئة في غضون 14 يوماً بعدما برزت المخاوفُ من أن يؤدي تباطؤُ الاقتصادِ العالمي إلى إضعافِ الطلب على النفط.
يُشار في هذا السياق إلى أن أسعارَ خام برنت ارتفعت بنسبة 30 في المئة في الأسبوعين اللذين أعقبا غزوَ روسيا لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، لكنها عادت إلى مستوى ما قبلَ الغزو بعد ثمانيةِ أسابيع.
بناء على دروس الماضي، فإن أسعار النفط ستضطرب، قد ترتفع، لكنها لن تلبث أن تعود لتنخفض الى مستويات معقولة، وهذا هو تاريخ الأسواق
في العودة الى مضيق هرمز، ليس التهديدُ الإيراني بإغلاقه الأولَ من نوعه، لكن الحربَ الراهنة بين إسرائيل وإيران هي الأولى من نوعها. وليس سهلا إغلاقُ مضيقٍ بحجمه حيث تبلغ أضيقُ نقطةٍ فيه نحواً من 21 ميلا (33 كيلومترا) بحريا، وهي مساحة كبيرة، يصعب إغلاقُها تماما.
لكن تأثيراتِ هجماتِ الحوثيين في البحر الأحمر، وممارساتِهم في مضيقِ باب المندب لا تزال ماثلةً في الحسابات، وقد أثبتت فاعليتَها الى حدٍّ ما ضدَّ السفنِ التجارية والحربية الأجنبية في البحرِ الأحمر ومحيطِه منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023. ولا ريب أن ثمةَ العديدَ من القدراتِ العسكرية والتكتيكات الدقيقة التي يمكن أن تستخدمَها إيران في مضيق هرمز، منها العملُ على جعلِ حركةِ الشحن عَبرَ المنطقة صعبةً أو بطيئةً، من خلالِ الاستيلاءِ على السفن ودهمِ المنشآت، ناهيك عن زرعِ الألغام وسبلٍ أخرى.
أسعار النفط قُبيل الامتحان
في المبدأ، توجد خزاناتٌ استراتيجية في دولٍ عدة لفتراتِ الطوارئ، شرطَ ألا تطولَ الحرب، ولا ريب أن حلفَ الناتو، يدرك أن إيران، مساحةً وسكاناً، ليست لقمة سائغة يسهل هضمُها.
وبناءً على دروسِ الماضي، فإن أسعارَ النفط ستضطرب، وقد ترتفع، لكنها لن تلبثَ أن تعودَ لتنخفضَ الى مستوياتٍ معقولة، وهذا هو تاريخُ الأسواق.
هل من داعٍ للهلع؟
كلُّ المؤشراتِ تدعو الى ذلك، لكن عند الامتحان "تُكرَّم" الأسعار ارتفاعاً... أو تُهان.