أخلاق الفن وفن الأخلاق

أخلاق الفن وفن الأخلاق

نحتاج، حين نتحدث عن الأخلاق، إلى طرح الأمر بانفتاح يليق بماهيتها. فالأخلاق كما عبر عنها كانط "يجب أن تتألف من قوانين صادقة لكلّ الكائنات العاقلة"، والأخلاق بحسب دوركايم هي الضمير و"حين يتكلم الضمير فينا فإن المجتمع هو الذي يتكلم".

لا تنفكّ رسالة كلّ من الأخلاق والفنون، واحدتهما عن الأخرى، وإن بدا للبعض عكس ذلك. فنحن نريد أن يكون الفن حرا، ومن ناحية أخرى أن يكون ذا مغزى وقيمة إنسانية وأخلاقية باعتباره رسالة مسؤولة. لذا يُعوّل على الفنون بأنواعها، التي نجد أن مكانتها تزداد في المجتمعات كافة، بسبب هذه الرسالة تحديدا وليس بسبب الجانب الترفيهي فيها فحسب. في المملكة العربية السعودية مثل بارز على الاهتمام بالفنون في أنواعها المختلفة ضمن نشاطات هيئة الفنون البصرية، والجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون برؤيتها المستقبلية كجزء من رؤية المملكة 2030 لتنمية قدرات الابتكار والإبداع لدى أفراد المجتمع، ورعاية الموهوبين في الثقافة والفنون، بما يمكّنهم من تقديم أعمال مميزة محليا وعربيا وعالميا، كمواهب تتتمثل بمثل بلدها وتطبق قيمها وأخلاقياتها وتفاخر بها.

في السعودية مثل بارز على الاهتمام بالفنون في أنواعها المختلفة كجزء من رؤية المملكة 2030 لتنمية قدرات الابتكار والإبداع لدى أفراد المجتمع ورعاية الموهوبين في الثقافة والفنون.

إلا أن مواقف المهتمين بالآداب والفنون متباينة، ما بين الإجماع على ضرورته كقيمة جمالية، ومحاسبته وتحميله مسؤولية أخلاقية باعتباره يجب أن يمثل قيما عليا. فالفنون والآداب تملك واجبا لتمثيل الشق الأخلاقي بالمعنى العريض للكلمة ولا سيما المرتبط بالقيم الإنسانية النبيلة، وتقع عليها مسؤولية المساهمة في تصحيح الأخطاء، وما يتجاوز الأخطاء أحيانا من بوابات أيديولوجية تدعم أعمال العنف أو تكرس بناء ذاكرة عنيفة أو دموية في التاريخ السحيق.

هذا ذكّرني بحوار مع شخص إيطالي مهتم بالفنون كان يجلس قربي في رحلة بالطائرة ليست بقصيرة أتاحت الحديث عن عصر النهضة وكيف أن أعمال فنانين فريدين مثل ميكال أنجلو وليوناردو دافنشي وتيتيان صاغت تاريخ إيطاليا، ولعل من أكثر الأماكن شهرة التي تحدثنا عنها وقد أتيحت لي زيارتها أكثر من مرة هي كنيسة السيستين في الفاتيكان التي تعدّ الأشهر في العالم، والسبب في شهرتها يعود إلى الجداريات المذهلة التي أنجزها عملاق عصر النهضة ميكال أنجلو وباتت جزءا من مسرد تاريخي مهم، يتجاوز القيم الفنية الخالصة.

هذا كله كوّن لديَّ الانطباع بأن أهم الأسئلة التي يمكن أن نطرحها حول عمل فني، هو إلى أي مدى يعزز أهدافا إضافية تتجاوز القيمة الجمالية؟ وإلى أي مدى يخدم الفن العالم خارج نفسه؟ فلطالما ارتبطت صورة الفنان بالفوضى والجنون وبفكرة أن عبقريته تتيح له ممارسة "جنونه" دون وازع أخلاقي يحكمه بالضرورة. حتى إن هناك من الفنانين من يبرر فنه، شعرا أكان أم فيلما أم نحتا بوصفه تحيزا ذاتيا أو تجليا من تجليات جنون العظمة. هناك أيضا من يسعى إلى نزع أيّ هدف عن الفن تحت ذريعة "الفن للفن" التي يبدو أنها تعفي الفنان من أيّ دور اجتماعي أو واجب أخلاقي.

الفن هو بلا شك طريقة للرقص مع أو ضد الحياة حينا أو تحريك العالم حينا آخر، وحين يحقق الفن ذلك فإنه يكتسب مكانته وقيمته في الوجدان والذاكرة. فالفن مثل الحب يحتاج إلى موهبة وخبرة حسية عميقة واستغراق فكري وعاطفي على السواء ليخلق هذا الأثر وهذا التأثير على المستوى الجمالي والإنساني ويتعداه إلى المستوى الأخلاقي.

لطالما ارتبطت صورة الفنان بالفوضى والجنون وبفكرة أن عبقريته تتيح له ممارسة "جنونه" دون وازع أخلاقي يحكمه بالضرورة


الفن هو سلطة قادرة على القيام بهذا الدور الأخلاقي والارتقاء القيمي، بكل ما يملكه من أدوات سحرية جاذبة قادرة على إبعادنا عن العالم الحقيقي أو تقريبنا منه. هذا لا يعني أن الفن منفصل عن السياسة أو التاريخ، أو أن هذا الفصل مطلق بل إن له مكانة أخلاقية ووجودية قد تختلف اختلافا جذريا عن الواقع، فضلا عن المطالب الأخلاقية والسياسية التي ترى أن الفن يتحمل مسؤوليات وعواقب خطيرة على العالم. فالدور الأخلاقي للفن قد يكمن في جعلنا نتعرف إلى الوحشية والهشاشة والشرور كتعزية وتعويض لهذا النقص ليس كاتهام أو قبول مطلق، إنما اعترافاً بإنسانية الفن وإنسانية الإنسان.

في الوقت نفسه، فإن الفنّ جزء من الحياة وصورة لها، وتكمن عظمته أحيانا في تأكيده أن الإنسان غير طاهر ولا ملائكي وقد يتجاوز كل قواعد السلوك المعقول، ولكن كما عبّر الفيلسوف الأيرلندي يوهانس سكوتس إريجينا (815-877) ومن نحا نحوه، فالجمال قد يرمز إلى جمال الله، كما يمكن أن يكون فخّا من فخاخ الشيطان، ولا يجعله الشيطان فخّا من فخاخه إلا لأنه حسنٌ يستهدي الأبصار ويفتن القلوب. فبين مثالية هيغل الذي يعلي الفن باعتباره منزها، وبين أفلاطون الذي ينظر إليه بأنه محكوم بالأخلاق، منطلقا من أن الخير والجمال والحق شيء واحد، علينا أن ندرك أن قيمة المعرفة وقيمة الأخلاق هي ذاتها قيمة الفن، والفن بحد ذاته فعل حياة.

font change
مقالات ذات صلة