العسكر يقصف السودان بالفقر والديون والأمراض

الخرطوم تكرر مرة أخرى الأسباب نفسها التي تؤدي الى خراب الاقتصاد

ميشيل طومسون
ميشيل طومسون

العسكر يقصف السودان بالفقر والديون والأمراض

قبل سنتين، عقد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اجتماعا على مستوى المجالس التنفيذية في واشنطن للنظر في أهلية السودان للافادة من اعفاءات وتسهيلات مبادرة "البلدان الفقيرة المثقلة بالديون" (Heavily Indebted Poor Countries - HIPC)، في مقابل التزام سلطات الخرطوم تنفيذ حزمة إصلاحات مالية واقتصادية واجتماعية ومؤسساتية لتعزيز الاستقرار السياسي، والحد من معدلات الفقر، وزيادة النمو، وتحسين مستوى معيشة السكان وتطوير منظومة حقوق الإنسان والحريات، في بلد يزيد سكانه على 48 مليون نسمة، بمساحة جغرافية تمتد على 1,88 مليون كيلومتر مربع.

يعتبر السودان إحدى أفقر الدول العربية والأفريقية بدخل فردي سنوي قُدّر بنحو 751 دولارا بحسب إحصاءات البنك الدولي لعام 2022. وهو من البلدان المهددة دائما بالأزمات الغذائية على الرغم من المساحات الزراعية الشاسعة وموارد مائية عذبة بفضل تدفق مياه النيل من إثيوبيا جنوبا إلى مصر شمالا. لكن عدم الاستقرار السياسي والانقلابات العسكرية المتعاقبة، والحروب الأهلية المختلفة، لم تسمح للسودان بالإفادة من هذه الثروات الطبيعية والحيوانية والمعدنية، بل كانت عاملا إضافيا لتواصل نزاعات مسلحة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق على مدى سنوات طويلة، كلفت نحو 500 مليار دولار خسائر على مستوى التنمية الاقتصادية، وجعلتها في حال إفلاس نقدي بحسب تقديرات المؤسسات المالية الدولية.

السودان إحدى أفقر الدول العربية والأفريقية بدخل فردي سنوي قُدّر بنحو 751 دولارا بحسب إحصاءات البنك الدولي لعام 2022. 

في صيف عام 2021، شطب جزء كبير من ديون السودان المتراكمة، وتم اعتبارها قروضا يصعب بل من المستحيل تحصيلها. انخفضت ديون السودان نتيجة لذلك من 56 مليار دولار إلى 28 مليار دولار. وهو أكبر مبلغ مالي افادت منه دولة عربية وأفريقية مثقلة بالديون ضمن برنامج الـ"HIPC"،   من مجموع 38 دولة معظمها في القارة السمراء. 

مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون هي إطار أنشأه صندوق النقد والبنك الدوليان وكبار الدائنين، في مقدمهم نادي باريس، للعمل معا على تخفيف عبء الديون على البلدان الأكثر فقرا ومديونية في العالم، وبالتالي تقليل القيود المفروضة على النمو الاقتصادي، والحد من أسباب الفقر التي يفرضها عبء خدمة الدين الخارجي، وكلها تدخل في أجندة أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030، التي تسعى الى تقليص الفقر في العالم إلى النصف، من 800 مليون شخص إلى نحو 400 مليون شخص يعيشون على نحو دولارين ونصف الدولار في اليوم. 

وكان صندوق النقد الدولي قد خلص الى أن الإعفاء من بعض الديون خطوة نحو تقليص معدلات الفقر وربما المساعدة في الاستقرار السياسي. وقدمت المؤسسة العسكرية وعودا بإعادة تسليم السلطة كاملة لاحقا إلى مؤسسات مدنية، والعودة إلى المنهجية الديموقراطية في الحكم، مما فتح الطريق نحو الإقرار بأهلية السودان للافادة من تلك المبادرة المشروطة بالخضوع لمراقبة موظفي الصندوق في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية، وهي عملية سياسية ومالية في آن واحد، بعد انضمام الخرطوم إلى  اتفاقات ابراهام.

لكن الانقلاب العسكري ضد الحكومة المدنية في الخرطوم، واعتقال رئيس الوزراء المدني عبد الله حمدوك، وقطع شبكة الانترنت في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، أدى إلى وقف جزء من التسهيلات الائتمانية والمالية بلغت قيمتها 857 مليونا من حقوق السحب الخاصة كانت ستحظى بها السودان لولا تدخل العسكر في السياسة والحكم. 

في صيف عام 2021، شطب جزء كبير من ديون السودان المتراكمة، وكان صندوق النقد الدولي يهدف الى تقليص معدلات الفقر والمساعدة في الاستقرار السياسي، في المقابل قدمت المؤسسة العسكرية وعودا بإعادة تسليم السلطة كاملة لاحقا إلى مؤسسات مدنية، والعودة إلى المنهجية الديموقراطية في الحكم.

الصراعات العسكرية مصدر الفقر

 عادت الانقلابات مرة أخرى إلى السودان في منتصف الشهر الجاري، لكن هذه المرة بانقسام حاد وصراع مسلح بين حلفاء الأمس، أي القوات المسلحة، وقوات الدعم السريع السودانية التي تشكل مكوّنات المجلس الانتقالي التي كانت أطاحت نظام الرئيس عمر البشير المحسوب على التيار الإسلامي والذي حكم البلاد بالحديد والنار لأكثر من عقدين من الزمن.  

وعلى الرغم من شطب نصف ديون السودان ومده بدعم من صندوق النقد بنحو 2,5 مليار دولار، لم تساعد تلك الجهود في تحسين وضعية ملايين السودانيين، حيث ارتفعت معدلات الفقر إلى أكثر من 56 في المئة من مجموع السكان. وزادت أزمة كوفيد-19 والحرب الروسية في أوكرانيا وتضخم الأسعار وانهيار العملة في اتساع دائرة الفقر والنزوح. في هذا السياق، كشفت التنسيقية الأممية للشؤون الانسانية (OCHA) أن 18 مليون نسمة يعيشون في حالة جوع وفقر مدقع دائم بسبب الجفاف والحروب والصراعات المحلية. وبلغ عدد الأشخاص الذين يحتاجون الى الدعم قرابة 16 مليون شخص، منهم 12,5 مليونا من الأشخاص المستهدفين في مجالات غذائية وصحية وتعليمية، تُقدر تكلفتها في السنة الجارية بنحو 1,7 مليار دولار موزعة على 254 مشروعا. ووفق تقرير التنسيقية، نزح نحو مليون شخص إلى دول الجوار هربا من الحرب والفقر والقحط والسيول، ويُعتبر الأمن الغذائي أكبر تحدٍّ في السودان إلى جانب مخلفات الحروب والنزاعات.  
 

انتاج الحبوب والغذاء

لم يتجاوز إنتاج الحبوب 5 ملايين طن في الموسم الماضي، أي نحو 30 في المئة من الحاجات الأساسية المحلية، في وقت ارتفعت أسعار القمح في السوق الدولية بسبب الجفاف والحرب الأوكرانية. وبسبب انخفاض الاحتياط النقدي الأجنبي، سيكون تمويل التجارة الخارجية لشراء الغذاء صعبا، مما سيفاقم الأزمات الغذائية والاجتماعية والصحية، ومعها نزوح جماعي من مناطق الحرب.
يعيش في السودان 2,5 مليون نازح وقرابة مليون لاجئ في مخيمات لا تتوافر فيها شروط العيش، بينما يقدَّر عدد الأشخاص الأكثر عرضة للأخطار بنحو 11 مليونا ونصف مليون شخص، معظمهم من الأطفال والنساء. 

القادم أسوأ

توقع صندوق النقد تسجيل نمو اقتصادي ضعيف في السودان في حدود 1,2 في المئة لسنة 2023، بسبب الحروب والتغيرات المناخية. وكان النمو بلغ 0,5 في المئة عام 2021 ونحو 2 في المئة في عام 2022 فيما انكمش 3,5 في المئة عام 2020. وهي من بين أضعف المعدلات في مجموع المنطقة العربية والقارة الأفريقية، ولا تعكس النمو الديموغرافي السريع في المناطق الريفية. 
 

يعاني الاقتصاد من ضعف البنى التحتية والصادرات، ومن التضخم وارتفاع الأسعار أكثر من 368 في المئة، وهو من المعدلات القياسية في العالم، مما يجعل البلد مهددا بالمجاعة والأمراض والأوبئة مثل الملاريا والكوليرا.

لا يبدو الوضع الأمني مساعدا على تخفيف الصعوبات الاقتصادية في بلد يحكمه العسكر باستمرار، ويشهد فترات حكم قصيرة جدا للحكومات المدنية.  يعاني الاقتصاد كذلك من ضعف البنى التحتية، وضعف الصادرات، وتفاقم التضخم وارتفاع الأسعار لأكثر من  368 في المئة، وهو من المعدلات القياسية في العالم، مما يجعل البلد مهددا بالمجاعة والأمراض والأوبئة مثل الملاريا والكوليرا وغيرها.
وقد يصنَّف السودان في المرتبة 174 عالميا من أصل 180 في ترتيب مؤشر التأقلم المناخي (Global Adaptation Initiative)، وهو من البلدان الأكثر تعرضا لأخطار التغيرات المناخية بين الجفاف والقحط والفيضانات، يُضاف إليها سوء استغلال الموارد الزراعية والمائية، مما يشكل ضررا للبيئة وحافزا إضافيا للنزوح والهجرة. يحتاج السودان إلى نحو 13 مليار دولار لمقاومة التغيرات المناخية في المجال الزراعي على مدى العشر سنوات المقبلة، وبناء سدود لتوفير المياه العذبة للسكان، وعددهم في ازدياد، بحسب تقرير البنك الدولي. 

الأفق المسدود

يبدو أن السودان عاد مرة اخرى إلى الأسباب نفسها التي تؤدي إلى الفقر والحاجة، وهي الصراع على السلطة، مرة بين الجيش في مواجهة المدنيين، وأخرى بين قادة العسكر أنفسهم. والضحية في كل هذه الصراعات هو الشعب السوداني وفئاته الهشة. وكانت المؤسسات المالية الدولية ربطت دعمها للتجربة الانتقالية في السودان بتنفيذ عدد من الشروط  التي لم يتم الوفاء بها من السلطة الحاكمة وهي:
أولا، تحقيق  سلام داخلي  قائم على الاندماج ومبادئ الحوكمة في التدبير وتحقيق العدالة المناطقية؛  ثانيا، إزالة العراقيل التي تحول دون تحقيق معدلات نمو مستقرة تساعد في التنمية الاقتصادية؛ ثالثا، وضع أسس مستقبلية  للحد من الفقر ومعالجة أسبابه.
في كل الحالات يحتاج السودان إلى استقرار داخلي وتوافق بين أفرقاء اليوم الذين كانوا حلفاء الأمس، يسبقه تفاهم بين مختلف المؤسسات التي تحكم البلاد. وهي مقدمات تسعى الوساطة العربية والأفريقية والدولية إلى تحقيقها على أرض الواقع لإحلال سلام دائم تتبعه نهضة اقتصادية واجتماعية، ويسبقه تسليم السلطة إلى حكومة مدنية.

يعتقد أكثر المحللين تفاؤلا، أن شروط التعافي الاقتصادي في السودان وإطلاق الإصلاحات غير متوافرة لأسباب عدة، مما يجعل السودان مؤهلا للبقاء على درب اللااستقرار الاقتصادي والسياسي في غياب حكومة مدنية منتخبة ديموقراطيا، وهي صيغة لا تقبل بها الأنظمة العسكرية في أكثر من بلد عربي.
 

font change

مقالات ذات صلة