السودان... الصراع على الذهب؟

مناجم السودان ثرية ونوعية تحوطها الحروب والسرقات والتهريب 80 %

جوليوس ماكسيم
جوليوس ماكسيم

السودان... الصراع على الذهب؟

صارت مناجم الذهب في السودان نقمة بعدما كانت نعمة على الدولة نتيجة للصراعات والتناحر على السلطة. يُعَدّ السودان أحد أهم منتجي المعدن النفيس في القارة السمراء والثالث عشر بين البلدان المنتجة للذهب في العالم. تغيرت طبيعة الصراع الدائر حالياً في السودان ليتحول الى السعي للسيطرة على المعدن الأصفر مهددا بنشوب حروب أهلية في البلاد.

يأتي ذلك في ظل مطامع دول رأسمالية للعبث بالسودان والاستيلاء على ثرواته الطبيعية من الذهب وغيره. ويُعتبَر هذا المعدن عنصراً أساسياً من صادرات البلاد، إلا أن مناجمه تحوطها صراعات طاحنة ومستمرة تتعلق بالتهريب. ولم يتضح حتّى الآن الأثر الذي ستتركه على عمليات الإنتاج والتصدير، الحربُ العبثية والاشتباكات الدائرة بين الفريقين المتناحرين، الجيش السوداني و"قوات الدعم السريع"، التي انطلقت قبل أيام.

تصل قيمة حصيلة إنتاج الذهب في السودان بالإمكانات الحالية إلى نحو خمسة مليارات دولار سنويا، يجرى نهب 3,8 مليارات دولار منها لصالح الأطراف المتناحرين. 

الدكتور حسن الصادي، أستاذ اقتصاد التمويل في جامعة القاهرة

ثروة منهوبة

في حين ازدهر قطاع التعدين في السودان خلال السنوات الأخيرة، يعاني قطاع الذهب من عمليات تهريب واسعة النطاق، تصل نسبتها إلى 80 في المئة من الانتاج وفقا لوكالة "رويترز"، نقلا عن السلطات. يُصنّف السودان كواحد من أكثر الاقتصادات فقراً في العالم، على الرغم من أنه يعوم على بحر من الثروات الطبيعية، وتصل احتياطياته من الذهب إلى 1550 طناً، وشكلت صادرات الذهب أكثر من 45 في المئة من الصادرات الإجمالية بقيمة 1,7 مليار دولار في عام 2021 بحسب وزارة المعادن السودانية. كذلك، تمتلك البلاد احتياطيات من الفضة والنيكل والنحاس الى جانب النفط، وتعدّ ممراً لأنابيب تصدير النفط الآتية من جنوب السودان الى ميناء "بورت سودان".

(غيتي)
شذرات الذهب السوداني الخالص، أحد أفضل الأنواع في العالم.

اعتبر الدكتور حسن الصادي، أستاذ اقتصاد التمويل في جامعة القاهرة، انفصال الجنوب السوداني عام 2011 والصراع على الذهب، من أسباب تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية في السودان. وقال لـ"المجلة": "كان السودان ينتج قبل الانفصال بين 180 و190 طناً في السنة، لكنه حاليا ينتج نحو 95 إلى 100 طن سنويا، بينما ينتج جنوب السودان، البلد الصغير، الكمية نفسها من الذهب". وألمح الصادي إلى أن "عائدات 30 طنا فقط من الذهب المنتج العام الماضي دخلت في الموازنة العامة للدولة، أي نحو 1,2 مليار دولار، وجرى تهريب نحو 65 طناً، "نتيجة للصراعات التي تساهم في جعل البلاد بيئة خصبة للتهريب ولعدم إحكام قبضة الدولة على المنافذ والسوق. وتصل قيمة حصيلة إنتاج الذهب في السودان بالإمكانات الحالية المحدودة إلى نحو خمسة مليارات دولار في السنة، وبالتالي يجرى نهب 3,8 مليارات دولار لصالح الأطراف المتناحرين الموجودين في البلاد"، ما يحرم المصرف المركزي من مورد للعملة الاجنبية.

معدلات تركيز الذهب مرتفعة جدا

 وأوضح الصادي بعض أوجه الهدر والسرقة التي تطاول كامل سلسلة عمليات إنتاج الذهب، بدءاً من استخراجه من المناجم عن طريق الأفراد أو الشركات، حتى وصوله إلى أيدي المستثمرين الخارجيين والداخليين، الى جانب تهريب وسرقة كميات كبيرة لصالح كيانات ودول أخرى. وأبرز ما يميز السودان، على حد قوله، معدلات تركيز الذهب في المناجم التي تعتبر من أعلى معدلات التركيز على مستوى العالم، حيث يحوي كل طن من الخام المستخرج 100 غرام من الذهب، "وهو معدل مرتفع جداً جداً".

وتنتشر مناجم الذهب في مناطق متفرقة من السودان في صحارى وجبال شرق نهر النيل وفي محاذاة البحر الأحمر وأعلى سلسلة جبال البحر الأحمر في شرق السودان، وأيضاً في مناطق جبال النوبة ومنطقة كردفان ودارفور الشديدة الفقر وتنتشر فيها الحروب والمجاعات والصراعات.

ترتيب السودان في إنتاج الذهب الثالث في أفريقيا، تسبقه غانا وجنوب أفريقيا، ولكان أصبح الأول أفريقيا لولا انفصال جنوب السودان. 

وقدّر الصادي نسبة المواطنين السودانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر وتتعرض حياتهم للتهديد، بنحو 14 مليون نسمة من أصل نحو 45 مليون سوداني أي ما نسبته 31 في المئة من السكان. وقدمت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية مساعدات لدعم تلك الفئات الفقيرة بنحو 800 مليون دولار عام 2021، فيما امتنعت العام الماضي عن تقديم المعونات نتيجة للانقلاب العسكري، ما ساهم في تفاقم الوضع الاقتصادي في البلاد.

وأفاد بأن ترتيب السودان في إنتاج الذهب هو الثالث في أفريقيا، تسبقه غانا وجنوب أفريقيا، ولكان أصبح الأول أفريقيا لولا انفصال جنوب السودان. تنتج غانا نحو 140 طناً من الذهب سنوياً، بينما تنتج جنوب أفريقيا في المتوسط نحو 90 طناً سنوياً، وتُعتبر دولة الإمارات العربية المتحدة الأكثر استيراداً للذهب من السودان. علما أن احتياطيات الذهب في السودان تبقى غير مستغلة كما ينبغي بسبب الاضطرابات السياسية وتدهور أوضاع الاقتصاد السوداني وزيادة وتيرة التهريب خارج الحدود وعدم قدرة الدولة على إحكام سيطرتها على القطاعات الحيوية، وفق الصادي. ولفت إلى أن التقسيم الأول الذي حدث عام 2011 قد يليه تقسيم آخر تبعا للصراع الحالي. 

(غيتي)
منجم ذهب شركة أرياب في الصحراء السودانية، 800 كيلومتر شمال شرق الخرطوم

سعت الحكومة السودانية منذ إطاحة نظام عمر البشير عام 2019، إلى تطوير قطاع التعدين وتحديداً الذهب، لكن من دون جدوى نتيجة للخلافات السياسية التي لا تزال مسيطرة على المشهد وسط تحكم قطاع التعدين الأهلي في عمليات الإنتاج. 

اقتصاد مواز 

تكشف صحيفة "الغارديان" البريطانية، تفاصيل سيطرة "قوات الدعم السريع" التي يقودها عضو المجلس السيادي السوداني، محمد حمدان دقلو الملقب بحميدتي، على مناجم الذهب في البلاد. تقول الصحيفة في تقرير إن سيطرة "قوات الدعم السريع" على الصناعة الأكثر ربحية في السودان عقدت مسار البلاد نحو الديموقراطية، وهددت عملية انتقال السلطة.

على الرغم من الجهود الحكومية المبدئية لانتزاع أجزاء من صناعة الذهب بعيداً من أجهزة الأمن السودانية وإعادتها إلى سيطرة الدولة أو القطاع الخاص، تشير الصحيفة إلى سيطرة "قوات الدعم السريع" على منجم جبل عامر للذهب في دارفور منذ عام 2017، وعلى ثلاثة مناجم ذهب أخرى على الأقل في أجزاء أخرى من البلاد، مثل جنوب كردفان، مما حول حميدتي إلى أحد أغنى رجال السودان، وجعله لاعباً رئيسياً في أبرز مورد من الصادرات السودانية. تضيف الصحيفة أنه بعد انتفاضة 2019 التي أطاحت الرئيس السابق البشير، أصبح حميدتي جزءاً من المجلس العسكري الانتقالي ومجلس السيادة، المخول رعاية مسار انتقال السودان نحو الديموقراطية قبل إجراء الانتخابات عام 2022.

سيطرة "قوات الدعم السريع" على الصناعة الأكثر ربحية في السودان عقدت مسار البلاد نحو الديموقراطية، وهددت عملية انتقال السلطة.

بالتالي، هناك تساؤلات حول نجاح الانتقال السياسي في البلاد، في وجود اقتصاد موازٍ تديره قوات حميدتي. وتشير الصحيفة نقلا عن تجار في صناعة الذهب إلى أن حميدتي يرأس مجلس إدارة شركة خاصة تسمى "الجنيد"، وهي شركة تعدين وتجارة يقودها شقيقه عبد الرحيم دقلو، بحسب وثائق لـ"غلوبال وِتْنِس"، وهي منظمة غير حكومية لمكافحة الفساد.

مصالح إقليمية ودولية... و"فاغنر"

يرى الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأميركية في القاهرة، أن الصراع الحالي هو صراع سلطة وليس صراعا اقتصاديا فقط. وقال فهمي لـ"المجلة" "إن السودان من أغنى الدول الأفريقية لكن الاستمرار في الحكم العسكري كان له أثر سلبي. وهناك مصالح كبرى لبعض القوى الإقليمية والدولية في مجالات اقتصادية سواء في الموانئ أو في جبال الذهب في السودان، وبالتالي يجب فهم الموضوع في سياقه: لا صراع على الوصول إلى السلطة أو تحديدها، إنما مشاكل متعلقة بإدارة الحكم الانتقالي والخلاف على الاتفاقية الإطارية" التي تنظم عودة السلطة إلى المدنيين. ويعتقد فهمي أن الصراع سيرتبط بأطراف إقليميين ودوليين، بل إن الوساطات ستشهد تجاذبات وتباينات كبرى. وتوقع تدخلات كبيرة لحسم الأمر لصالح أحد الأطراف لكن بعد إنهاك الطرفين في هذه المواجهة الأخيرة.

وأفاد فهمي أن ظاهرة الانقلابات العسكرية في أفريقيا تاريخية وقديمة وراسخة، و"بالتالي يتخوف الاتحاد الأفريقي من تداعيات ما يجري في السودان على دول الجنوب، إضافة إلى أن تعدد الوساطات لم يخدم الحل في ظل تربص القوى الدولية بالمعضلة السودانية على اعتبار أن السودان جزء من الصراع الغربي الروسي، ومطامع الدول الكبرى". ويعتقد فهمي أن السيناريوهات "مفتوحة" لكنها أقرب الى "الحلول النظرية". ولفت إلى أن الاتفاقية الإطارية "سيجري إما تعديلها أو إلغاؤها أو التحفظ عنها، لكن من المؤكد أن غياب الإرادة السياسية سيؤدي الى انفتاح المشهد بصورة كبيرة على احتمالات كثيرة وسيكون الصراع ممتداً وطويلاً".

وأكد فهمي احتمال دخول روسيا على خط الصراع لدعم حميدتي والعمل في مجال تعدين الذهب من خلال مرتزقة "فاغنر". وذهب البعض إلى اتهامها بنهب ثروة البلد الهائلة من المعدن النفيس، باتباعها طرقاً غير قانونية، كونه يُعتبَر أحد ملاذات روسيا في السودان لتحصين اقتصادها ضد العقوبات الغربية، فضلاً عن ممارستها أنشطة تدريبية في مجال الأمن في مناطق كثيرة في السودان. 

font change

مقالات ذات صلة