السودان....ماذا بعد؟

السؤال يصبح أكثر إلحاحا مع مضي كل ساعة من ساعات الحرب، وكل يوم من أيامها الكريهة

AFP
AFP
صورة جوية للخرطوم وقد غطاها الدخان في 19 ابريل

السودان....ماذا بعد؟

ثم ماذا بعد؟ سؤال معلق في سماء السودان الملبد بالدخان الأسود الناجم عن المعارك التي تدور على أرضه منذ ستة أيام، مخلفة مئات القتلى، وآلاف الجرحى، والمباني المدمرة، والخدمات المتردية، والأوضاع الإنسانية المأساوية، والموت "السايب" بالطلقات الطائشة والقذائف التي أخطأت أهدافها إلى بيوت الناس ومساكنهم، والرعب والهلع والحزن.

السؤال أعلاه– ثم ماذا بعد؟- يصبح أكثر إلحاحا بعد مضي كل ساعة من ساعات الحرب، وبعد كل يوم من أيامها الكريهة، وتتناسل منه سيناريوهات عديدة...

تبدأ دائما في حال انتصر الجيش السوداني على قوات الدعم السريع؛ في أي طريق ستسير الأمور؟

وإذا حدث العكس وبسطت قوات الدعم السريع سيطرتها على المواقع الاستراتيجية وتسيدت المشهد..

وهناك سيناريو ثالث في حال استمرت الحرب وطالت أيامها ولم ينتصر أحد..

أما السيناريو الأخير فيتعلق بأن تنتهي الحرب على طاولة الحوار والمفاوضات وتعود العملية السياسية التي انقطعت بسبب الصراع العسكري المسلح.

قبل أن نفكك السيناريوهات الثلاثة نجد أنه من المهم الإشارة إلى نقطة جوهرية متسببة لحد بعيد في حيرة السودانيين حول مصائر هذه المعارك الدائرة، وهي أن قادة الحرب لم يقدموا للناس طروحات وحججا قوية ومنطقية لقيام الحرب أصلا، حتى تجعل النهاية مفهومة ومتوقعة، كما أن تصريحاتهم في الإعلام زادت الحرب إبهاما وغموضا وإحباطا؛ اسمع ماذا قال قائد الدعم السريع في تصريحات صحافية، قال: "ليس لدينا مشكلة مع الجيش، ولكن مشكلتنا مع القيادة". وفي بيانات كثيرة يقدم دعوة للضباط والجنود في القوات المسلحة للانضمام للدعم السريع.

في المقابل، يجاريه قادة الجيش؛ حيث قال عضو مجلس السيادة الفريق أول شمس الدين الكباشي، وهو القائد الفعلي للمعارك: "ليس لدينا مشكلة مع قوات الدعم السريع ومشكلتنا مع حميدتي وشقيقه". وأيضا قدم دعوة للضباط والجنود في الدعم السريع لتسليم سلاحهم والانضمام الى الجيش ووعد بأنهم سيجدون معاملة كريمة.

نعم؛ مفهوم أن هذه التصريحات تندرج في إطار الحرب النفسية للتأثير على الجنود وكسب تعاطف المجتمع، ولكنها ظلت هي الرواية المعتمدة للحرب عند كثير من السودانيين، لذا فإن نظرتهم لها لا تتعدى كونها حرب قيادات تجعل سؤالهم عما يليها مشروعا وملحا.

قادة الحرب لم يقدموا للناس طروحات وحججا قوية ومنطقية لاندلاع الحرب أصلا، حتى تجعل النهاية مفهومة ومتوقعة، كما أن تصريحاتهم في الإعلام زادت الحرب إبهاما وغموضا وإحباطا

بالعودة إلى أول السيناريوهات المتعلق بكسب الجيش السوداني المعركة وكسر عظم قوات الدعم السريع بالكامل والقضاء على قيادتها محمد حمدان دقلو (حميدتي) وشقيقه عبد الرحيم دقلو، قطعا ستتضعضع الأصوات المطالبة بالديمقراطية المقرونة بخروج الجيش من السياسة بشكل كبير، ويصبح التحول المدني الديمقراطي عسيرا ومتحكما فيه من قبل الجيش الذي يضع شروط المنتصر على طاولة النقاش مع القوى السياسىة لجهة أنه انتصر في حرب تخلص فيها من منافسه القوي في السيطرة والتحكم بالقوة والذي تسبب له في إحراجات عديدة عندما بدا منفتحا على التحول الديمقراطي والحكم المدني في إطار المنافسة بينهما. 

AFP
سودانيون ينزحون من مناطق القتال في الخرطوم 


غير أن الأخطر هو استثمار انتصار الجيش من قبل قادة النظام السابق. وهذا الاستثمار بدأ في وقت مبكر منذ الأسابيع التي سبقت الحرب عندما سعوا إلى ربط قوات الدعم السريع وقائدها بالقوى السياسية الموقعة على الاتفاق الإطاري وتحديدا الحرية والتغيير، حتى إذا انتصر الجيش يكون الانتصار على قوات الدعم السريع وعلى الحرية والتغيير في الوقت ذاته. 


وفي المقابل يقود أنصار النظام البائد حملة مناصرة شعواء للجيش السوداني بالحق وبالباطل في انتظار أن يرد لهم الجميل بعد انجلاء المعركة بأن يكونوا بديلا سياسيا للحرية والتغيير أو يعود عناصرهم إلى السلطة مباشرة أو على الأقل يقوم بتهيئة السماح لهم بتصفية حساباتهم مع القوى السياسية التي أطاحت بهم من الحكم.
 ولكن ما يجعل فرص نجاح خطتهم محدودة هو ظرف السودان الذي تشكل بعد الثورة والذي فرض مشاركة سياسية واسعة وخاصة من قطاع الشباب ووجود حراك جماهيري قوي رافض لوجودهم في المشهد السياسي من جديد، ثم المجتمع الدولي والإقليمي الذي يضع السودان ضمن حصار منذ انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 ويطالب بتراجع الجيش عن السلطة وعودة التحول المدني الديمقراطي كشرط لفك العزلة عن السودان وعودة المساعدات الاقتصادية في بلد على حافة الانهيار الاقتصادي.

يقود أنصار النظام البائد حملة مناصرة شعواء للجيش السوداني في انتظار أن يرد لهم الجميل بعد انجلاء المعركة بأن يكونوا بديلا سياسيا للحرية والتغيير أو يعود عناصرهم إلى السلطة مباشرة

أما احتمال سيطرة قوات الدعم السريع على السلطة بعد نصر عسكري فهو الاحتمال الأكثر تعقيدا من حيث الحدوث في الواقع، من ناحية المآلات المترتبة عليه، إذ ليس من المنطق أن يتصور أحد أن دخول المعركة وتكبد ويلاتها وتحقيق الانتصار فيها سيتبعه تنازل مجاني عن مكاسبها لصالح التحول الديمقراطي والخروج من السلطة كليا كما يردد قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو الشهير بـ"حميدتي"؛ فالنصر غالبا ما يغري الرجل بالتوسع في الطموح السياسي للحفاظ على ثروته التي تضعه في مقدمة قائمة الأثرياء في السودان، ويحافظ كذلك على تأثيره في معظم الشأن السوداني. 


كما أن علاقته الممتدة مع الجوار الغربي للسودان بحسب المناطقية- فهو من قبيلة حدودية تجدها في الشريط الممتد بين دولة تشاد والنيجر وأفريقيا الوسطى، وتتحرك إلى أعلى الغرب والشمال الغربي- يمكن أن تدفع الرجل لأحلام توسعية أو علاقات تحقق له تأثيرا كذلك على تلك المنطقة التي باتت تحظى باهتمام عالمي وصراع بين دول عظمى مثل فرنسا وأميركا، وتحديدا بعد التحركات الروسية ووجود قوات مرتزقة شركة "فاغنر" فيها.

بمعنى آخر فإن سيطرة قوات الدعم السريع بشكل أو بآخر تعني دخول السودان في تعقيدات جمة وخطرة مرتبطة بتكوين قوات الدعم السريع نفسها وارتباطات وعلاقات قادتها مع المحيطين الإقليمي والدولي.
ولكن حال استمرت الحرب دون نصر حاسم، فإن هذا يعني أن معاناة السودانيين المدنيين وأيضا العسكريين ستطول وتتعاظم وسيعيشون إفرازات هذه الحرب الكارثية التي بدأ شبح تداعياتها يلوح في الأفق من نزوح، ونقص في مياه الشرب والخدمات والكهرباء، فضلا عن الدمار والموت تحت أقدام المتحاربين. وتظهر انعكاساتها فورا على الاستقرار والمعاش، وتنهك الدولة السودانية المنهكة فعليا بالإنفاق على حرب مدن طويلة عالية الكلفة الاقتصادية.


 وبطبيعة الحال سنشهد موجات هروب ونزوح إلى دول جوار قريبة، وفي مقدمتها مصر وإثيوبيا، أو إلى مناطق طرفية في الأقاليم لا تهتم الأطراف المتقاتلة بالسيطرة عليها، وفي هذا السيناريو- سناريو استمرار الحرب دون منتصر- على المجتمع الدولي أن يستعد للتعامل مع كارثة إنسانية جديدة ربما ستكون أكثر إرهاقا من غيرها بسبب هشاشة أحوال الدول في جوارها التي تعاني حروبا وصراعات وأزمات اقتصادية، كما في إثيوبيا وليبيا وتشاد والنيجر وأفريقيا الوسطى ودولة جنوب السودان ومصر .
 

سيطرة قوات الدعم السريع بشكل أو بآخر تعني دخول السودان في تعقيدات جمة وخطرة مرتبطة بتكوين قوات الدعم السريع نفسها وارتباطات وعلاقات قادتها مع المحيط الإقليمي والدولي

ربما من الصعب انتصار طرف على آخر نصرا حاسما. بمعنى أن الاحتمالين الأولين يصعب تحقيقهما وفقا للمعطيات التي نراها على الأرض، بعد استمرار القتال لأكثر من ستة أيام، إذ لم يمتلك أحدهما تفوقا عسكريا يشي بأنه سيحقق هذا الحسم، أضف إلى ذلك أن طبيعة المعركة نفسها لا توفر لطرف منهما حسمها، فالمعركة ستتسع في بلد شاسع، وكلا الطرفين لديه قوات منتشرة في ذلك الاتساع، وفي حال استطاع الجيش السوداني حسم المعركة في الخرطوم سيتطلب ذلك التفرغ لحسمها في إقليم دارفور أو جنوب كردفان، وقد تساند طبيعة المنطقة طرفا على آخر بينما يحدث العكس في إقليم ذي طبيعة أو تركيبة قبلية مغايرة، ومثلا ستجد قوات الدعم السريع بيئة مناسبة للقتال في إقليم دارفور بينما سيتوفق الجيش في الولايات الشمالية وبعض ولايات الوسط وهكذا.


يبقى السيناريو أو الاحتمال الأخير؛ أن تنتهي الحرب بالتفاوض والحوار، وهذا إن حدث ينهي الى حد كبير فرصة استطالة أمد النزاع المسلح، وفي تقديري هو الأرجح، وأيضا من منطلق ما نراه على أرض المعركة. 
ومعلوم أن التفاوض يتم في حال انتصر طرف على آخر، وهذا سيكون تفاوض المنتصر الذي يفرض شروطه على الطاولة، أو حينما يقتنع كل طرف بأن عدوه مساوٍ له في القوة أو أنه سيمنى بخسائر كبيرة، ولن يحقق النصر على خصمه القوي المتمترس في موقفه. والحالة الأخيرة هي عندما يتساوى المتحاربان في الضعف، ويعجز كل طرف عن تحقيق الضربة القاضية. 


والمفارقة أن التعهدات الناجمة عن تفاوض الأقوياء تدوم، كما حدث أيام الحرب الباردة بين روسيا وأميركا، بينما تعهدات الضعفاء غالبا ما تنهار ويتم النكوص عنها. وبطبيعة الحال يعود هذا إلى شعور طرف بالقوة وإن كانت متوهمة، وحالة الضعف هذه شبيهة إلى حد كبير بما يجري في المعركة الحالية في السودان. 

AFP
الرئيس السابق عمر البشير والى يساره محمد حمدان دقلو في صورة من الارشيف


إنهاء الحرب بالتفاوض وعودة العملية السياسية يتطلب جهدا دوليا كبيرا وربما مختلفا عما كان يتم في السودان وفي المنطقة، والذي لم يحقق نجاحا باهرا كما هو الحال في عدد من دول الجوار السوداني، ويعول بشكل كبير على الآلية الرباعية المؤلفة من دول لها نفوذ وتأثير على الطرفين- الجيش والدعم السريع- وعلى الحراك السياسي جملة من قوى سياسية ومجتمع مدني ولجان المقاومة، ويمكنها قطع الطريق على أي محاولات تخريبية سالبة من دولة خارجية لديها مصلحة في استمرار الصراع أو إنهاك الجيش السوداني.
 

التفاوض يتم في حال انتصر طرف على آخر، وهذا سيكون تفاوض المنتصر الذي يفرض شروطه على الطاولة، أو حينما يقتنع كل طرف بأن عدوه مساوٍ له في القوة أو أنه سيمنى بخسائر كبيرة، ولن يحقق النصر على خصمه القوي المتمترس في موقفه

وتتكون الآلية الرباعية من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، وقطعا هذا لا يلغي أدوار الآخرين في الأمم المتحدة، وخاصة بعثة الأمم المتحدة في السودان، والاتحاد الأفريقي، ومنظمة الإيقاد ("المنظمة الحكومية للتنمية" وتضم ثمان دول من شرقي افريقيا) التي تعمل على حلحلة الخلافات في السودان مجتمعة فيما يعرف بالآلية الثلاثية، وكذلك دول الترويكا، فضلا عن الضغط عبر المبادرات من القوى السياسية والمجتمع المدني. 


ولكن العامل الذي سيشكل ضغطا كبيرا على الطرفين هو أوضاع المواطنين المدنيين خلال هذه الحرب والتي تتسبب في معاناة هائلة لهم، وهي في طريقها لأن تحولهم إلى نازحين ولاجئين ومشردين لا سمح الله.

المواطنون السودانيون نأوا بأنفسهم عن هذه الحرب إذ لم يقدم لهم طرفاها حجة متماسكة ومقنعة لقيامها، كما أنها خالفت توقعاتهم وفقا لتعهدات قادتها، فهي لم تنته في ساعات ولم تنته حتى في أيام معدودة، ثم إن حجم الخطر الذي تعرضوا له منذ اندلاعها جعلهم لا يأبهون لنصر فيها، وهمهم الأول أن يزول عنهم الخطر ويعود لهم الهدوء والأمن، إضافة إلى تهافت أعضاء النظام البائد إلى خطف ثمارها وتصفية حساباتهم مع الثورة باسم انتصار الجيش وهذا نراه جليا في بيانات لجان المقاومة– أكبر تكتل شبابي للثوار يقود الحراك الثوري على الأرض- التي قالت فيها صراحة إن هذه الحرب لا تعنيها، وحذرت أعضاء النظام البائد من محاولة استغلالها للعودة للسلطة مرة أخرى أو تصفية حساباتهم عبرها.
أعلنت أكثر من هدنة منذ بداية المعارك للظروف الإنسانية الحرجة التي تسببت فيها الحرب، الأطراف المتحاربة كانت أكثر التزما بالهدنة الأخيرة قياسا بسابقاتها.. الدنيا مقبلة على أعياد الفطر والسودانيون في أتون حرب طاحنة. ربما إذا استثمر الوسطاء فترة الأعياد ينتج عن ذلك وقف دائم لإطلاق النار والعودة للتفاوض والحلول السلمية.
 

font change

مقالات ذات صلة