هل تعيش تركيا نهاية تجربة الإسلام السياسي؟

الرئيس التركي أردوغان وحزبه أمام تحدٍ وجودي

هل تعيش تركيا نهاية تجربة الإسلام السياسي؟

بينما تدخل الحملة الانتخابية في تركيا ذروتها، قبل أقل من شهر واحد من إجراء الانتخابات يوم 14 مايو/أيار المقبل، فإن قطبي التنافس الانتخابي يظهران على العكس مما كانا عليه طوال العقدين الماضيين. فبينما يبدو مرشح المعارضة وزعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليشدار أوغلو، ومعه الماكينة الدعائية والإعلامية وقادة الصف السياسي الأول للمعارضة، في حيوية ونشاط وحماسة شديدة؛ فإن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه وطبقة المحيطين به يبدون أمام تحد وجودي.

في العمق، تتفق الغالبية العظمى من متابعي الشأن السياسي التركي على أن هذا المشهد استعادة لما هو تقليدي في التاريخ السياسي التركي. فعلى الدوام، كان كل تيار سياسي/آيديولوجي تركي يملك "دورة حياة" ما، مضبوطة البداية والمسار والنهاية. تمتد من عقدٍ إلى عقدين عادة، يبدأها التيار السياسي الصاعد بحيوية وهمة وقابلية للتحديث. لكنه، وبعد تحولات داخلية وموضوعية تطرأ عليه خلال سنوات حكمه، ما يلبث أن يشيخ، فاقداً حيويته وقدرته على تقديم أية برامج أو حلول للأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، قبل ان يخبو ويزول. وهو ما يحصل راهناً مع الإسلام السياسي التركي، الذي مثّله حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان في الحُكم طوال أكثر من عقدين كاملين.

الغالبية العظمى من مراقبي الشأن التركي يتفقون على أن هذا المشهد استعادة لما هو تقليدي في التاريخ السياسي التركي. فعلى الدوام، كان كل تيار سياسي/آيديولوجي تركي يملك "دورة حياة" ما، مضبوطة البداية والمسار والنهاية، تمتد من عقدٍ إلى عقدين عادة

يمكن رصد دورات واضحة في التاريخ التركي عن ذلك: فطوال عقدي الثلاثينات والأربعينات، حكم الحزب الأتاتوركي بمزيج من القومية التحديثية مع العلمانية الصارمة، في مواجهة بقايا العصر العثماني. لكنه ما لبث أن فقد السلطة في أوائل الخمسينات، لصالح الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس، الذي كان متحالفاً ضمنياً مع التيارات الدينية الريفية المحافظة، وبقي يحكم طوال الخمسينات، مستنداً إلى إرث مواجهة هيمنة سكان ونُخب المدن الساحلية.

لكن ومع بداية الستينات، وزيادة الهجرة الريفية إلى المدن، ووصول الحرب الباردة إلى ذروة استقطابها، طفحت موجة الأحزاب القومية-اليسارية، المرتبطة والمعتمدة على النقابات العمالية. تلك التي خبت منذ أوائل السبعينات، لصالح أحزاب يمين الوسط، التي بقيت تحكم طوال السبعينات والثمانينات، ممثلة في زعامتي الرئيسين سليمان دميريل وتورغوت أوزال، مستفيدة من معاداة الجيش والدولة العميقة لتلك الأحزاب ذات الميول اليسارية.

بقي ذلك، إلى أن شهد عقد التسعينات بروز ظاهرة التحالفات الثلاثية الحاكمة، ومن بعدها صار الإسلام السياسي، ممثلاً في حزب العدالة والتنمية وزعامة الرئيس أردوغان، حاكماً منفرداً للبلاد.

Reuters
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يخاطب مؤيديه خلال حفل أقيم في ديار بكر، 14 أبريل 2023.

فقدان الأركان الثلاثة

منذ الظهور المفاجئ لحزب العدالة والتنمية على مسرح الحياة السياسية عام 2001، كتيار مؤسس من قِبل جيل السياسيين الشباب القادمين من عدة أحزاب تركية محافظة، على رأسها حزب الرفاه الإسلامي، فإنه قدم نفسه كتيار يملك مشروعاً سياسياً متكاملاً، قائماً على ثلاثة أسس، هي: التنمية الاقتصادية المستدامة، وحل المسألة الكردية، وتحقيق المعايير اللازمة لدخول الاتحاد الأوروبي.

بناء على تلك الرؤى، والتي حقق حزب العدالة والتنمية الكثير من مضامينها خلال سنوات حكمه الأولى، فإنه حصل على تمثيل سياسي وشعبي استثنائي، إذ فاز في مختلف الجولات الانتخابية طوال عقدين كاملين. لكنه ما لبث أن تراجع عنها جميعاً، بل وصار ينفذ سياسات وبرامج معاكسة لها تماماً، لأسباب عدة، على رأسها رغبة زعيمه رجب طيب أردوغان  البقاء في الحكم بأي ثمن، بحسب معارضيه.

وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بعد عقد ونصف من "الفوضى الاقتصادية"، منذ أن ترك الاقتصادي الإصلاحي تورغوت أوزال منصبه كرئيس للوزراء عام 1989، وإلى حين فوز العدالة والتنمية بالسطلة عام 2003.

تراجع حزب العدالة والتنمية عن مشروعه السياسي الذي دشنه بداية حكمه، بل وصار ينفذ سياسات وبرامج معاكسة لها تماماً، لأسباب عدة، على رأسها رغبة زعيمه رجب طيب أردوغان البقاء في الحكم بأي ثمن، بحسب معارضيه.

طوال هذه السنوات، لم تضع الحكومات الائتلافية أية برامج اقتصادية مستدامة، ولم تستقر على أية خطط تنموية؛ لذلك ساد تضخم اقتصادي هو الأكبر في تاريخ البلاد، إلى جانب زيادة مستويات البطالة والدين العام واستشراء الفساد.

وحين وصل حزب العدالة والتنمية إلى سُدة الحُكم، كان رئيس الوزراء بولنت أجاويد مريضاً للغاية خلال سنوات حكمه الثلاث الأخيرة، والنخبة المحيطة به متأكدة من نهاية عمرها السياسي، ومختلف أجهزة الحكم مصابة بشلل وظيفي، وعجلة الاقتصاد متوقفة تماماً.

نتيجة لذلك، أدت انتخابات 3 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2003 إلى وصول حزب العدالة والتنمية للحكم، وتمكن خلال السنوات الثلاث الأولى من تنفيذ برنامجه الاقتصادي الطموح، الذي رسمه الاقتصاديان البارعان كمال درويش وعلي باباجان، وهو البرناماج الذي نال استحسان المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية.

وظهرت نتائج ذلك التحول سريعاً، إلى أن صارت التنمية السنوية بمعدل 7 في المئة، فيما قفز الاقتصاد التركي من المرتبة 27 على مستوى العالم إلى المرتبة 16، ليبلغ حجمه 740 مليار دولار، وارتفعت الصادرات من 36 مليار دولار إلى 135 مليار دولار خلال أعوام قليلة. وشكلت عوائد الاقتصاد الإنتاجي، خاصة في الصناعة والسياحة، عصب الاقتصاد في البلاد، بعدما كان معتمداً على الزراعة والخدمات. 

EPA
مارة أمام ملصق انتخابي لأردوغان في اسطنبول، 19 أبريل 2023.

وتمكنت تركيا من تجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 بسلاسة معقولة، وأجرت سلسلة من الإصلاحات الإدارية والاقتصادية والقطاعية الهيكلية، بدعم وإرشاد من البنك الدولي وصندوق النقد، وهو ما أوقف دورة التضخم للمرة الأولى في تاريخ تركيا الحديث، وصارت المداخيل السنوية للفرد عام 2010 5 أضعاف ما كانت عليه قبل 7 سنوات. ووصلت التنمية إلى ذروتها عام 2011، لتقارب حدود الـ10 في المئة. 

لكن اعتبارا من ذلك الوقت تباطأ نمو الاقتصاد التركي، الذي ترافق مع دعوة الرئيس أردوغان للتحول إلى النظام الرئيسي؛ حيث أوقف المفاوضات مع البنك الدولي وصندوق النقد، وشجع خصخصة القطاع العام، لصالح طبقة من الأثرياء الجدد المحيطين به، متبعاً أعلى درجات السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، ساعياً للحصول على كتل ضخمة من القروض الأجنبية، لصرفها على البنية التحتية "الشكلية"، في نفس الوقت الذي كان يسعى فيه للسيطرة تماماً على الهيئات الاقتصادية المستقلة، مثل البنك المركزي واتحادات رجال الأعمال.

عاد التضخم بقوة منذ عام 2015، لتتكبد الليرة التركية خسارة فادحة، امتدت إلى وقتنا هذا، إذ خسرت أكثر من نصف قيمتها مقابل الدولار، وتراجع دخل المواطنين الأتراك، فيما صارت تهم الفساد تلاحق أعضاء من عائلة أردوغان وكامل الطبقة السياسية والاقتصادية المحيطة به.

فرصة ضائعة

بعد سنة واحدة من حُكمه، ولأول مرة في تاريخ تركيا الحديث، اعترف أردوغان في مهرجان خطابي في مدينة ديار بكر ذات الغالبية الكردية بوجود قضية كردية في البلاد، وهو ما أحدث موجة تفاؤل عارمة، تراجعت بسببها مستويات المواجهة والعنف الذي استمر لثلاثة عقود وأوقع عشرات الآلاف من الضحايا.

لعشر سنوات متتالية، اتخذ حزب العدالة والتنمية سلسلة من الخطوات المتتالية، مثل افتتاح قناة تلفزيونية حكومية باللغة الكردية والسماح بافتتاح معاهد تعليمية، ومنح المواطنين الأكراد حصة مدرسية اختيارية بلغتهم الأم، إلى جانب إلغاء الكثير من القوانين والإجراءات التي وصفت بـ"العنصرية"، مثل إعادة اسماء القرى والبلدات الكردية إلى تسمياتها الأصلية وعدم حظر الأزياء والكلام باللغة الكردية.

لكن ذروة التحول كانت عبر إجراء سلسلة من المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني، تحديدا تلك الجولات التي حدثت في العاصمة النروجية أوسلو خلال الأعوام 2010-2015، وبرعاية وحضور الولايات المتحدة، تلك المفاوضات التي وصلت إلى نتائج معقولة للغاية، بغية إنهاء العمل المسلح مقابل بعض المطالب السياسية، مثل تحويل اللغة الكردية إلى لغة رسمية وتحقيق المزيد من الحكم الذاتي عبر الإدارات المحلية.

تبدل كل شيء اعتباراً من العام 2015. فخلال الانتخابات البرلمانية التي جرت في ذلك العام، خسر حزب العدالة والتنمية أغلبيته البرلمانية للمرة الأولى، ورفض حزب الشعوب الديمقراطية (المؤيد للأكراد) منح العدالة والتنمية أغلبية برلمانية، وأعلن رفضه القبول بالنظام الرئاسي ومشروع أردوغان لتغيير النظام السياسي في البلاد، وهو أمر اعتبره أردوغان بمثابة "خيانة شخصية".

الأمر الآخر تمثل في الهجمات التي بدأت تركيا تشنها على الأكراد في سوريا، معتبرة "قوات سوريا الديمقراطية" امتداداً لحزب العمال الكردستاني. ذلك العنف الذي امتد إلى داخل تركيا نفسها.

بُعيد تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية منذ عام 2015، اضطر للتحالف مع حزب الحركة القومية المتطرف، الأمر الذي دفعه لاتخاذ سلسلة مطولة من السياسات المضادة تماماً لأية إمكانية لحل المسألة الكردية، بل على العكس تماماً، زادتها توتراً وعنفاً بما لا يقاس مع أي ماضٍ.

خلال الانتخابات البرلمانية عام 2015، خسر حزب العدالة والتنمية أغلبيته البرلمانية للمرة الأولى، ورفض حزب الشعوب الديمقراطية (المؤيد للأكراد) منحه أغلبية برلمانية، وأعلن رفضه القبول بالنظام الرئاسي ومشروع أردوغان لتغيير النظام السياسي، وهو أمر اعتبره أردوغان "خيانة شخصية. 


 

EPA
سجلت الليرة التركية مستوى قياسيًا جديدًا منخفضًا بلغ 19.35 ليرة للدولار في 14 أبريل 2023

نهاية الحلم الأوروبي؟

بعد شهر واحد من وصوله لسدة الحكم، كان رئيس الوزراء التركي وقتئذ رجب طيب أردوغان قد أعلن أمام المشاركين في المنتدى الاقتصادي العالمي (يناير/كانون الثاني 2004) أن "تركيا مستعدة لتكون جزءًا من أسرة الاتحاد الأوروبي ومصممة على مواصلة إعادة الهيكلة السياسية والاقتصادية اللازمة لمواءمة قواعدها مع الاتحاد الأوروبي وتنفيذ شروط العضوية".

بالفعل، وبعد أقل من عام من ذلك الإعلان، وافق الاتحاد الأوروبي على بدء مفاوضات العضوية مع تركيا، محددة "معايير كوبنهاغن" السبعة عشر كأساس لتحقيق العضوية الكاملة.

حققت تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية فعلياً جميع المعايير الاقتصادية والإدارية تلك، لكنها تخبطت تماماً في الحيز السياسي والحريات العامة، وإلى حد ما في القطاع القضائي، وفي مرحلة متأخرة قضمت السلطة التنفيذية مختلف السلطات والمؤسسات والهيئات التي من المفترض أن تمتاز بالاستقلالية عن باقي السلطات في البلاد.  

وتجاوزت أرقام الاقتصاد والتنمية التركية مختلف دول أوروبا الشرقية حديثة العهد في الاتحاد الأوروبي، وقبلت تركيا بالخضوع لأحكام محكمة العدل الأوروبية العليا، وأجرت تعديلات على مختلف القوانين والتشريعات المتعلقة بالحريات السياسية والشخصية والعامة، وقبلت بالاستقلال الذاتي للعديد من الهيئات التعليمية والاقتصادية والمهنية والقطاعية، وربطت قوانينها الجنائية وأنظمتها الإدارية المحلية بمحددات الاتحاد الأوروبي.

لأجل ذلك، كان ثمة تفاؤل شعبي عمومي في البلاد (2003-2015)، إذ صارت الغالبية العظمى على يقين من أن تركيا ستصبح جزءا من المنظومة الأوروبية.

انقلبت الآية تماماً بعد ذلك، لأسباب تتعلق بـ"المشروع الذاتي" للرئيس أردوغان، الطامح الى سلطة مستدامة، تكون فيها القوانين والتشريعات وسياسات البلاد خاضعة لذلك المعيار، ولاكتشاف البنية الأساسية للدولة العميقة أن تحقيق المعايير الأوروبية سيؤدي إلى تشجيع الأكراد على حشد التأييد لقضيتهم، وخروج اللعبة السياسية والأمنية والاقتصادية في البلاد من سيطرتهم، فكُبِح كل شيء، بل تراجع أردوغان تماماً عن تلك الإصلاحات الواعدة.  

حققت تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية فعلياً جميع المعايير الاقتصادية والإدارية، لكنها تخبطت تماماً في الحيز السياسي والحريات العامة، وإلى حد ما في القطاع القضائي، وفي مرحلة متأخرة قضمت السلطة التنفيذية مختلف السلطات والمؤسسات والهيئات التي من المفترض أن تمتاز بالاستقلالية عن باقي السلطات في البلاد.  

وتجلت تلك الانتكاسات الحقوقية والسياسية في مظاهر عدة خلال العقد المنصرم، من بينها  الحكم على مئات من جنرالات الجيش وأعضاء هيئة القضاء المتهمين بالضلوع في "مؤامرة أرغنكون"، وما تلاها من أحاديث عن وجود "تحالف عالمي" لإضعاف تركيا، إلى أن وصلت الأمور إلى ذروتها أثناء "الانقلاب العسكري"، الذي يشكك البعض في دوافعه، عام 2016، وتحولت تركيا إلى بؤرة لكل ما هو معاكس لإمكانية تحقيق المعايير الأوروبية تلك.

وساد الفضاء العام جو بوليسي، إذ اعتقل المئات من الإعلاميين والحقوقيين، وأغلقت مؤسساتهم، وقُدم عشرات الآلاف من المواطنين للمحاكمات بتهمة "إهانة الرئيس"، فيما استبعد الرؤساء المنتخبون للبلديات من مناصبهم، وعُين موالون بدلا منهم، وحدثت قطيعة تامة بين الحزب الحاكم وقوى المعارضة، التي لم تُستشر في أي شيء يتعلق بالبلاد، وبدأت عمليات السيطرة على كل الهيئات المستقلة في البلاد، المرتبطة بالقضاء والاقتصاد والنقابات والجيش والأجهزة الأمنية، وحتى الفرق الرياضية والتجمعات الثقافية.

font change

مقالات ذات صلة