التسوية في السودان أو توسع الصراع

التسوية في السودان أو توسع الصراع

لا شكّ أن اندلاع أعمال العنف مؤخرا بين الفصائل العسكرية المتصارعة في السودان تسبّب في معاناة كبيرة للشعب السوداني، لكنه بالإضافة إلى ذلك يزيد عدم الاستقرار السياسي في أفريقيا، في وقت لا تستطيع فيه القارة تحمل تكاليف ذلك.

وفي وقت يتركز فيه الكثير من اهتمام العالم على الأزمات العالمية الأخرى، كالحرب الدائرة في أوكرانيا، لم يولِ المجتمع الدولي في السابق التوترات السياسية المحتدمة في السودان أولوية كبرى، على الرغم من الموقع الجغرافي الهام للسودان في حماية أمن المنطقة الأوسع. والملاحظ أنه كلما اندلعت اضطرابات في الخرطوم، فإنها تحمل معها تأثيرا حتميا في الدول المجاورة، سواء أكانت مصر، أم جنوب السودان، أم تشاد، أم القرن الأفريقي.

لذلك، يُعد وجود حكومة مستقرة في الخرطوم أمرا ضروريا للحفاظ على السلام والاستقرار في هذه المنطقة التي تتمتع بأهمية استراتيجية في أفريقيا.

وقد وقعت مسؤولية استقرار سكان السودان المضطرب على عاتق الدكتاتور السابق عمر البشير الذي تولّى السلطة على مدى عقدين من الزمان، واشتهر بمعاملته القاسية لخصومه السياسيين.

ظهر هذا جليا خصوصا من خلال قمعه الوحشي للجماعات المتمردة في نزاع دارفور، ما جعل البشير أول رئيس دولة تُدينه المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم حرب وهو على رأس عمله.

خلال هذا الوقت، أشرف البشير على تشكيل ميليشيا الجنجويد سيئة السمعة التي اتُهمت بارتكاب كثير من الفظائع خلال الصراع الذي خاضته ضدّ حركة تحرير السودان.

قبل إطاحة البشير في انقلاب عسكري جرى عام 2019، أصبح الجنجويد عنصرا رئيسا في تشكيل قوات الدعم السريع، وهي ميليشيا قائمة بذاتها كان يستخدمها البشير أثناء توليه للسلطة. وبعد عزله، شهدت قوات الدعم السريع، والتي تربطها علاقات وثيقة بمجموعة "فاغنر" شبه العسكرية الروسية، زيادة في نفوذها إلى حدّ دفع الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قائد القوات المسلحة السودانية، إلى السعي لدمج قوات الدعم السريع في تيار الجيش الرئيس.

وقاوم اللواء محمد حمدان دقلو، المعروف باسم "حميدتي"، هذه الخطوة بضراوة، واعتبر المبادرة محاولة لتفكيك قاعدته التي تتمتع بتأثير كبير في السودان، الأمر الذي أدّى إلى تأرجح البلاد الراهن على شفا حرب أهلية، مع كل التداعيات التي يمكن أن تحملها تلك الحرب معها على استقرار السودان وكذلك على المنطقة الأوسع على حدّ سواء.

يمكن أن يؤدي نشوب صراع طويل الأمد بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع على الأقل إلى نزوح جماعي كبير للاجئين، الأمر الذي قد يؤدي إلى تفاقم التوترات في جميع أرجاء المنطقة.

وفي حين أنّ اندلاع العنف في الخرطوم فاجأ العديد من الأطراف الخارجية، حيث تتدافع الحكومات العالمية للقيام بمهام إنقاذ يائسة للمواطنين الذين يحاصرهم القتال، يحذّر كثير من الدبلوماسيين ذوي الخبرة في العمل في تلك المنطقة منذ شهور من أنّ التوترات المتأجّجة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع قد تؤدي إلى صراع طويل الأمد.

وفي حين يمكن إرجاع الاضطرابات إلى السنوات التي سبقت انتفاضة 2019، والتي أدّت إلى عزل البشير من السلطة، فلقد أدّى الإخفاق في تشكيل حكومة ديمقراطية بقيادة مدنية بعد سقوط البشير إلى زيادة التوتر، حيث حذّر دبلوماسيون في أوائل عام 2022 من أنّ اندلاع العنف كان احتمالا قويا.

وحدث هذا الأمر في ظل تفاقم الخلاف الذي نشأ بين الجيش وقوات الدعم السريع باعتبارها المصدر الرئيس للتوتر.

 وجود حكومة مستقرة في الخرطوم ضروري للحفاظ على السلام والاستقرار في هذه المنطقة التي تتمتع بأهمية استراتيجية في أفريقيا

وكانت قوات الدعم السريع قد تعاونت مع البرهان في السابق، خلال الانقلاب العسكري الذي رمى الى الإطاحة بالبشير. وفي حقيقة الأمر، كانت قوات الدعم السريع في طليعة القوات التي قمعت على نحو وحشي الاعتصام السلمي المؤيد للديمقراطية الذي نُظم أمام مقر القيادة العسكرية في الخرطوم إثر الانقلاب، والذي أسفر عن مقتل مئات الأشخاص. كما شاركت قوات الدعم السريع بأعمال القمع مرة أخرى عندما جرى إحباط اتفاق لتقاسم السلطة مع السياسيين الذين قادوا الاحتجاجات ضدّ البشير بهدف تسهيل الانتقال إلى حكومة ديمقراطية من خلال انقلاب آخر حدث في أكتوبر/تشرين الأول 2021، الأمر الذي أدّى إلى مقتل أكثر من 100 متظاهر.
وأدّى الدور البارز الذي لعبته قوات الدعم السريع في الحفاظ على القوة العسكرية في الخرطوم إلى توترات حتمية، حيث ازداد إحباط حميدتي من منصبه كنائب رسمي للبرهان.
وجد حميدتي نفسه في موقع متنامي القوة نتيجة الثروة الهائلة التي اكتسبتها الحركة من تصدير الذهب من المناجم غير القانونية. وبمقدور الحركة أيضا الاستفادة من تجربة عشرات الآلاف من قدامى المحاربين الذين قاتلوا في مناطق القتال المختلفة مثل دارفور، واليمن، وليبيا.


يضاف إلى ذلك، أن قوات الدعم السريع عززت قاعدة قوتها إلى حدّ كبير من خلال الدعم الذي تلقته من مجموعة فاغنر الروسية. ويُزعم أنّ مجموعة فاغنر زودت السودان كميات كبيرة من الأسلحة والمعدات، ومن ضمنها الشاحنات العسكرية والمركبات البرمائية وطائرتي هليكوبتر تُستخدمان في النقل.


وفي ظل حرص موسكو على توسيع نفوذها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإنّ دعمها لقوات الدعم السريع قد يزيد من تعقيد الصراع في ظل الاهتمام الذي تبديه دول أخرى، وخاصة مصر.


على سبيل المثال، لطالما اعتبر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أنّ النظام المستقر في الخرطوم أمر حيوي لمصالح بلاده. وقد تميل القوى الإقليمية الأخرى، كإثيوبيا، والتي تبني حاليا مشروع سد النهضة الإثيوبي الكبير المثير للجدل، إلى الانخراط في صراع قد يكون له تأثير مباشر على حظوظ تلك القوى.

لذلك، ثمّة حاجة ملحّة لتسوية تضع حدّا للجولة الحالية من الأعمال العدائية قبل أن يخرج الصراع تماما عن السيطرة مع كل التداعيات التي قد يحملها معه ليس على السودان فحسب، بل على المنطقة بأسرها.
 

font change