معالجات أدبية وبحثية لظاهرة "كبش الفداء"

ممارسات خرافية مستمرة في المجتمعات الراهنة

Nicola Ferrarese
Nicola Ferrarese

معالجات أدبية وبحثية لظاهرة "كبش الفداء"

ميلانو: هناك موضوعات يبدو أنها تحمل صفة الخلود، أو أن مراميها تبقى حيّة مهما تعدّدت الحقب والأزمان، ومنها موضوع "كبش الفداء" الذي يتطرّق إليه الباحثون الإيطاليون، غابريو فورتي وكلاوديا ماتسوكّاتو وأليسّاندرو بروفيرا وأريانّا فيسكونتي، في كتاب "ظلّ عمود العار. الأدب وغبن كبش الفداء"، الصادر حديثا عن دار "الحياة والفكر" الإيطالية.

لم يتوانَ الأدب الحديث عن معالجة هذه الظاهرة المربكة من جوانبها المختلفة، آخذا في الاعتبار القدرة على إيقاظ الضمائر ومواجهة عقل الإنسان المعاصر بالعواقب الوخيمة للديناميكية القديمة والمنحرفة الكامنة وراء بناء كبش الفداء وطقوس التضحية، خاصة بين أولئك الذين يسبغون على مثل هذه الممارسات صبغة قانونية وشرعية. حتى إن رينه جيرار، أحد أهم الفلاسفة الذين شخّصوا هذه الظاهرة، دعا إلى القيام بتجربة مؤلمة، لكنها مثمرة، تقضي بالولوج إلى أحلك أعماق الروح البشرية، والخروج منها مجددا بمنظورات محتملة للعدالة والترياق الثقافي المناسب للتصدّي، أو على الأقل لاحتواء الدافع الهائل للبحث عن ضحايا لتحميلهم وزر معضلات لم يجد الأفراد والمؤسسات والمجتمعات وسيلة لحلّها. فالتضحية بكبش فداء تمنح الجماعة دائما شعورا بالراحة النفسية لفترة زمنية، إلى أن تبدأ الدورة من جديد.

 يخوض الكتاب من خلال نصوص شتاينبك وكامو وأورويل وهويزينكا، موضوع الحكم المسبق وخلق الشروط المطلوبة التي تؤدي إلى اختيار القرابين من الضحايا الأبرياء


استقصاء

كان من البديهي أن يبدأ الباحثون استقصاءهم حول هذه المسألة الشائكة من قصة "عمود الخزي والعار" لأليسّاندرو مانزوني، قبل أن يخوضوا، من خلال نصوص جون شتاينبك وألبير كامو وجورج أورويل ويوهان هويزينكا، موضوع الحكم المسبق وخلق الشروط المطلوبة التي تؤدّي إلى اختيار القرابين من الضحايا الأبرياء. مثال ذلك، ما حدث عندما تعرّضت ميلانو، التي كانت تحت إدارة الإسبان آنذاك، لكارثة شديدة الوقع في عام 1630، جراء طاعون رهيب انتشر بشكل واسع في معظم شمال شبه الجزيرة الإيطالية، عُرف أيضا باسم "طاعون مانزوني"، وتسبب في وفاة نحو ستين ألف شخص من سكان ميلانو.

Getty Images
يوهان هويزينكا 1933

في هذا المناخ المتفاقم بسبب انتشار الخرافات الشعبية على نطاق كبير، قدّمت امرأتان من الشعب شكوى إلى النيابة العامة ضد رجل يدعى غولييمو بياتسا، مفتش الصحة العامة، متّهمة إياه بأنه يسعى إلى نشر الوباء باستخدام طلاء أصفر وفّره له الحلّاق جان جاكومو مورا الذي، حسب زعمهما، لوّث به بعض أبواب المنازل.  أقيمت المحاكمة التي اتُهم فيها الشخصان بنشر مرض الطاعون في المدينة، وانتهت الإجراءات القضائية التي تخللها استخدام وحشي للتعذيب وفقا لما كان سائدا في ذلك الوقت، بإعدام المُتّهَمَين اللذين اعترفا بذنب لم يقترفاه لوضع حدّ لمعاناتهما الفظيعة، مناقضَين أقوالهما مرات عدة.

قرار المحكمة، بالإضافة إلى حكم الإعدام الذي نُفّذ بعد تعذيب قاس، ومن خلال استعراض المتّهمَين في أحياء المدينة، نصّ أيضا على هدم دكان-منزل جان جاكومو مورا، واحتل العمود السيئ السمعة المساحة الفارغة كتذكير دائم بالعقوبات التي يمكن أن يواجهها كل من تسوّل له نفسه القيام بعمل من هذا القبيل.

 

أصل المصطلح

تشير المصادر التاريخية إلى أن مصطلح "المُعْديّ"، أو "الدهّان"، كما ورد في ترجمة ناصر إسماعيل لرائعة جيزوالدو بوفالينو، استُخدم على نطاق واسع في القرنين السادس عشر والسابع عشر للإشارة إلى أولئك الذين يُعتقد أنهم ينشرون الطاعون طواعية في الأماكن العامة. كانت المعتقدات حول ناشري الطاعون ذائعة بشكل خاص خلال الجوائح العظيمة، ولعلها انتقلت إلى عصرنا أيضا، إذ لم تستثن منها جائحة كورونا الأخيرة، حيث عرضت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي صورا وفيديوهات لشبان يطلون أزرار جهاز الاتصال الداخلي على مداخل الأبنية بإفرازات من أفواههم وأنوفهم.  

أقيم العمود المذكور، أو بالأحرى النصب التذكاري، لتكريم عمل القضاة في محاكمة الحلّاق جان جاكومو مورا وغولييمو بياتسا، وغيرهما من "المتّهمين" المدانين بنشر الطاعون في مدينة ميلانو، وكان يقع على زاوية شارع جان جاكومو مورا الحالي وكورسو دي بورتا تيشينيزي في ميلانو، ثم أزيل في عام 1778، خلال الإدارة النمسوية لشمال إيطاليا، في عهد الأمبراطورة ماريا تيريزا. كان المقصود في الأصل أن يكون العمود بمثابة علامة عار ضد المُتّهَمَين المزعومَين، ولكن بفضل المقالة الشهيرة التي كتبها أليسّاندرو مانزوني، بات العمود السيئ السمعة رمزا للخرافات والظلم في النظام القضائي الإسباني في ذلك الوقت، ولاستمرار تكرار ظاهرة كبش الفداء حتى وقتنا الحالي. لعل أقرب مثل على ذلك، اعتبار المهاجرين سببا للأزمات الاقتصادية في بعض الدول الأوروبية، وربما على نحو أشدّ في تركيا وفي لبنان.

Getty Images
نصب أليساندرو مانزوني (1785-1873) لومباردي، إيطاليا.

في عام 1842، قرر أليسّاندرو مانزوني أن يضيف إلى الإصدار الجديد من روايته "المخطوبون"،ملحقا وثائقيا بدأ بكتابته قبل سنوات عديدة باعتباره استطرادا من قبل فيرمو ولوتشيا، وهما شخصيتان من رواية "المخطوبون"، أعاد فيه بناء الأحداث انطلاقا من الإدانات والاتهامات الكاذبة ضد الجناة بارتكاب جرائم مزعومة، وصولا إلى ذلك الحُكم الذي وصفه مانزوني ساخرا بأنه "حُكمٌ مشهود حقا!".

تمثل تلك الصفحات مقالا نموذجيا للآليات الأبدية التي نجمت عن التحيّز والتي يؤازرها أو يدعمها تعسّف السلطة وقلّة بصيرتها. ففي ضوء ذلك، أو بالأحرى في ظلّ العمود الذي أصبح عارا، بات من السهولة بمكان تحديد حالات مثيرة أخرى ضمن سياق ما يسمى "العدو العام" الافتراضي، "المنحرف" الذي يمثل تهديدا متواصلا للمجتمع.

في ظلّ العمود الذي أصبح عارا، بات من السهولة تحديد حالات مثيرة أخرى ضمن سياق ما يسمى "العدو العام" الافتراضي، "المنحرف" الذي يمثل تهديدا متواصلا للمجتمع


جذور الشر

لذا فإن القيّمين على الكتاب، أحسنوا صنعا في وسمه بظلّ "الأعمدة المخزية"، لما يحويه من دراسات عن الأدب ونماذج من كبش الفداء، والتحقيق في جذور الشر والعواطف المنحرفة التي تقود إلى جموح لا يمكن السيطرة عليه في الثالوث القاتل بين الدهماء وقضاة التحقيق والضحايا. ليس ثمة عمل، كما يكتب فورتي، يمكنه أن يوضح بشكل فعّال "الاختصار المعرفي" الذي يتبناه ذوو الشأن لحل الأزمات والهزائم التي تسببوا في وقوعها.

إن الجهل هو الذي يتسبب في تشوهات الإدراك التي ينشأ عنها الحكم المسبق. وإذا كان الجهل في ميلانو في القرن السابع عشر ناتجا من نقص موضوعي في المعلومات، فلا ينبغي استبعاد أن الجهل نفسه اليوم يمكن أن يأتي من فائض المعلومات، أي من تلك "الغشاوة العقلية" التي، وفقا للعلماء، سببها تحفيز الدماغ المفرط في عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي. الحقيقة هي أن العقل في هذه الحالات لم يعد هو المهيمن، بل العاطفة الخارجة عن مكنونها، و"عندما يسلك المرء طريق العاطفة، فمن الطبيعي أن يكون أعمى"، كما كتب مانزوني.

المفارقة الأكثر صَدما، التي بالنسبة إلى مانزوني "هي حقا مفتاح كل شيء"، تلك العبارة التي يرددها بييترو فيري، حيث يوضّح إغفال القضاة بجملة بسيطة، لكنها مرعبة: "لقد كانوا يخشون أنه ليس مذنبا". بعبارة أخرى، بأسلوب مانزوني مرة أخرى، كان الأمر يتعلق بإيجاد "المذنبين بارتكاب جريمة لم تكن موجودة أصلا، لكنها كانت ملحّة".

 

حتى في الديموقراطيات

يمكن لأي شخص أن ينغمس في تتبع هذه الديناميكيات حتى في الزمن الراهن، والنظر ليس فقط إلى الأنظمة الديكتاتورية أو الشعبوية، ولكن أيضا في الديموقراطيات، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار، كما لاحظ روبرتو كازولا في مقالته حول الانفعال المفاجئ في قصة "الأيل الأبيض"عن المحتال إدغار لابلانت وتقمصه شخصية زعيم قبيلة من الهنود الحمر، أن كبش الفداء ليس غريبا على "ظاهرة الطفولة الجماعية للإنسان الحديث".

تعود وجهة النظر هذه إلى المؤرّخ الهولندي يوهان هويزينكا الذي رأى منذ عام 1935، في التصرف الصبياني الجماعي، أن الحياة "أصبحت لعبة"، وفي "الضعف العام للعقل"، الأزمة الوشيكة للحضارة الغربية، مما يعني تراجع الروح النقدية، وهذا يقودنا مرة أخرى إلى قول مانزوني في قصة "عمود العار": "إطفاء النور وسيلة مناسبة جدا لعدم رؤية الشيء الذي لا تحبه".

Getty Images
الكاتب  جورج أورويل  مؤلف "مزرعة الحيوان" و "1984".

أورويل وشتاينبك

في العودة إلى الأدب، من الطبيعي أن يدخل اللعبة، في هذا السياق، "الأخ الأكبر" الذي تخيّله جورج أورويل في روايته "1984". في هذا الصدد، يحذّر أرتورو كاتّانيو من "وجود كبش الفداء في الرواية، وضرورته، وبشكل أعم، ضرورة الحزب في أن يخلق باستمرار عدوّا لتقديمه إلى الحشد الجماهيري". الأكثر استبصارا، هو حقيقة أن هذا التدرّب على الكراهية يحدث من خلال بروباغندا ممنهجة ضد أعداء الحزب، بادئ ذي بدء تخوين كل من يعارض طغيان "القائد" وتقديمه لقمة سائغة للجماهير الحاقدة.

في عام 1939، أي قبل عقد من رواية أورويل "1984"، صدرت رواية "عناقيد الغضب" للكاتب الأميركي جون شتاينبك التي قد تبدو من بعض النواحي، رواية من القرن التاسع عشر، بسياقها وعالمها وأسلوبها وشخصياتها التي تشكل كبش فداء من نوع آخر.

في عناقيد الغضب - كتب لويجي سامبيترو - يمثل الفلاحون المقتلعون من جذورهم والذين انطلقوا نحو أرض الأمل كبش الفداء، لكن عند وصولهم، يشار إليهم على أنهم ضيوف غير مرحّب بهم. قذرون وبلا نقود، وأعدادهم فوق ذلك كله هائلة. مثل العائلات الأخرى، سينتهي الأمر بالمهاجرين الجدد الباحثين عن مستقبل أفضل، إلى أن يُسحقوا بسبب جشع الملّاك الكبار الذين احتكروا الزراعة واستغلوا أيّما استغلال المُنتَج والمُنْتِجين. مع ذلك، في الوقت نفسه، سيكونون ضحايا قرابين لغضب الآخرين المُستبعدين! يستحضر سيلفانو بتروسينو، "الجنون المنطقي"، في تعريف التضحية، وذلك في ما يتعلق بالاندفاع الهمجي لتفريغ ثقل معاناة المرء على الطرف الآخر، لا سيما إذا كان أضعف شأنا أو أقل استعدادا للمواجهة. وكان فريدريك نيتشه بلغ ذروته في تأطير هذه الظاهرة، قائلا: "أنا أعاني، إذن يجب أن يقع اللوم على شخص ما - هكذا يعتقد كل خروف مريض".

Getty Images
الروائي جون شتاينبك

لا داعي للتساؤل عما إذا كانت مشاعر الشكّ والاشمئزاز والكراهية التي يُرحّب بها "البائس" الغريب لشتاينبك، تثير تشابهات مع أجواء وعقليات عصرنا، على سبيل المثل في تجريم "الآخرين" باستمرار، حيث يتكرر بالفعل في أخبار الجريمة التي تتناقلها وسائل الإعلام، عندما يتم اختيار الأجنبي المهاجر خطأ للقتل العلني، دون إشكالات أخلاقية تذكر، لأن ظاهرة كبش الفداء، التي هي قديمة قدم الإنسانية ما قبل الاجتماعية، لم تتغير كثيرا، إنما أخذت أشكالا وأساليب مموّهة، تارة تحت مسمّى "صعوبة الاندماج في النسيج الاجتماعي الجديد"، وتارة أخرى تحت مسمّى "صدام الحضارات"، وما إلى ذلك من ذرائع واهية.

ظاهرة كبش الفداء، التي هي قديمة قدم الإنسانية ما قبل الاجتماعية، لم تتغير كثيرا، إنما أخذت أشكالا وأساليب مموّهة، تارة تحت مسمّى "صعوبة الاندماج في النسيج الاجتماعي الجديد"، وتارة أخرى تحت مسمّى "صدام الحضارات"، وما إلى ذلك من ذرائع واهية

كامو

قطب آخر من عوامل الجذب، وهو أمر لا مفر منه تقريبا عند التعامل مع كبش فداء في الأدب، هو الشخصية الفكرية لألبير كامو، الذي يتمحور حوله الجزء الثالث من الكتاب، "تضحية الضعيف". تجعلنا ماريسا فيرنا نفهم لماذا، إذا كان الحوار والتضامن بالنسبة إلى كامو هو البديل من الطاعون، فإن كبش الفداء هو مجتمع وهران بأكمله، المدينة التي "بلا حمام، وبلا أشجار وبلا حدائق، حيث لا تُسمع خفقات الأجنحة ولا حفيف الأوراق"، ولكن في ما يتعلق بالتوضيح السياسي والمدني، يجب ألا ننسى، كما يجادل جوزيبي روتولو، أن عقوبة الإعدام بالنسبة إلى كامو مُصمَّمة كعمل طقسي مستوحى من ديناميكيات التضحية، ولهذا السبب يبدو الإعدام شيئا بعيدا عن مجال كبش الفداء. جان تارّو، أحد أبطال الطاعون، يخبر صديقه الدكتور برنار ريو أنه حضر جلسة المحكمة التي طلب فيها والده، قاضي التحقيق، إصدار حكم الإعدام في حق المتّهم: "هذا الرجل الصغير البائس، ذو الشعر الأحمر، في عقده الثالث من العمر، بدا مصمما على الاعتراف بكل شيء، مرعوبا للغاية مما فعله وما كانوا على وشك أن يفعلوه به...". طلب الأب المتسربل بعباءة القانون "باسم المجتمع" أن يُقطع رأس ذلك الرجل الذي يشبه البومة، وقد حصل فعلا على رأسه.

Getty Images
الكاتب الفرنسي ألبير كامو

من هذا الرعب يأتي إحساس الابن بالخزي، حيث سيشعر من الآن فصاعدا بأنه "مصاب بالطاعون"، لأنه شهد هذه الممارسة دون أن يبدي اعتراضه. هنا يُفتح فصل المسؤولية الأخلاقية الفردية التي نادى بها كامو، مثل مانزوني وأورويل، بغية تفادي آلية كبش الفداء، تلك الطريقة البشرية النموذجية للتعامل مع الأزمات الطارئة، أي تحميل شخص آخر تبعاتها، أو مجتمع بأكمله إذا ما تطلّب الأمر ذلك. فصل لا يزال مفتوحا، على جبهات واسعة ومتعددة، لا تكفي سنون لهدم أعمدتها المخزية، وهيهات أن يكون البادئ أظلم!

font change

مقالات ذات صلة