ضيف غريب الأطوار

ضيف غريب الأطوار

الذكاء الاصطناعي جاء ليبقى. التحذيرات التي يطلقها الخبراء والرفض الذي يقابل به هذا المعطى التكنولوجي الجديد، ستؤدي في أفضل الأحوال إلى فرض قيود على توسع التقنية الحديثة ومنعها من السيطرة غير المحدودة على البشرية والحاملة لخطر إفنائها.

لكن ذلك لن يلغي أن الذكاء الاصطناعي– على الرغم من الاعتراض الوجيه على هذه التسمية- هو ثورة هائلة الأبعاد لن يظل وجه من وجوه الحضارة الإنسانية في منأى عنه.

لا مفر من التنبيه إلى أن المسافة الزمنية بين الثورات الكبرى التي شهدتها البشرية آخذة في التناقص. فالانتقال من طور الجمع والصيد الذي كان المرحلة الأولى من سعي الإنسان إلى البقاء حيا، إلى الطور الزراعي الذي مثّل الثورة الأولى في التاريخ، استغرق عشرات آلاف السنوات. وبين الثورة الزراعية ونظيرتها الصناعية في القرن التاسع عشر آلاف عدة من الأعوام. لكن العصر الصناعي الذي سادت فيه الآلات الميكانيكية واكتشاف قدرات البخار والوقود الأحفوري على توليد الحركة وتوجيهها وبالتالي السيطرة عليها واستخراج العمل منها، لم يستمر أكثر من مائتي عام ليبزغ عصر المعلومات والرقمنة في أوائل سبعينات القرن الماضي.

الذكاء الاصطناعي– على الرغم من الاعتراض الوجيه على هذه التسمية- ثورة هائلة الأبعاد لن يظل وجه من وجوه الحضارة الإنسانية في منأى عنه


في العقد الثاني من الألفية الثالثة الذي نعيش في رحابه الآن وبعد خمسين عاما تقريبا من الثورة المعلوماتية، انطلقت ثورة جديدة يقودها الذكاء الاصطناعي. تضاؤل المدة الفاصلة بين الثورات الكبرى التي تفرض نفسها كنمط حياة معمم على البشر، يحض على الاعتقاد بأن الثورة المقبلة التي ستلي الذكاء الاصطناعي باتت في مرمى النظر. لا زالت غامضة الملامح لكن ساحتها ستتجاوز، على الأرجح، كوكب الأرض. 

من توفير الكلأ للحيوانات التي يعتمد الإنسان عليها في معاشه، إلى حماية المحاصيل الزراعية من الآفات والعواصف والجفاف، إلى السيطرة على الطاقة ومواردها، وصولا إلى التحكم في المعلومات وتوظيفها لإنتاج الثروة وبناء "اقتصاد المعرفة"، قطع البشر أشواطا هائلة في رحلتهم نحو تكييف الطبيعة وتوظيفها لتحقيق سعادتهم. 

قانون التطور المتفاوت يظهر هنا بكامل جبروته. بعض البشر لا زال يعيش على جمع الثمار ورعي الماشية في الصحارى وما تبقى من أدغال. وبعض آخر لا يحصل على الماء الصالح للشرب، في الوقت الذي تشغل فيه هموم من نوع صعود وهبوط مؤشرات الأسهم في البورصات الإلكترونية بال أناس آخرين معاصرين للمجموعتين سابقتي الذكر. وفي الوقت الذي تظهر فيه فوائد التكنولوجيا المتطورة، ينسحب آلاف من الشبان من الحواضر المليئة بكاميرات المراقبة والمسيّرة بشبكات الإنترنت ليؤسسوا حياتهم "خارج الشبكة" (Off  the Grid)، في حركة احتجاج ورفض لمكننة الحياة والعلاقات البشرية وفرض قيم الربح المادي على كل تفاصيلها. وفي نكوص إلى براءة أولى مشتهاة بقدر ما هي مفقودة وبعيدة.  

بيد أن التيار العريض الذي تبنى الزراعة وفضّلها رغم علاتها، كتقييد الإنسان في حيز جغرافي محدد وإرغامه على انتظار الحصاد بدلا من البحث عن الطعام، وبالتالي أطلق سلسلة الصراعات على ملكية الأرض الخصبة والتحكم في عائداتها ومراكمة الثروة وتوزيعها كعنصر أساس في بناء السلطة، هذا التيار سيقبل الذكاء الاصطناعي بدفع من الشركات الكبرى الباحثة عن الربح والمدركة للفوائد التي تفوق التصور التي يمكن أن تجنيها الفئات المتحكمة بالتكنولوجيا الجديدة. 

مثال على ذلك، تلويح الشركات باللجوء إلى "التشات بوت" لكتابة الحلقات المقبلة من المسلسلات التلفزيونية في حال استمر إضراب كتاب سيناريوهات السينما والتلفزيون في الولايات المتحدة. 
 

من توفير الكلأ للحيوانات، إلى حماية المحاصيل الزراعية من الآفات، إلى السيطرة على الطاقة، وصولا إلى التحكم في المعلومات لإنتاج الثروة وبناء "اقتصاد المعرفة"، قطع البشر أشواطا هائلة نحو تكييف الطبيعة وتوظيفها لتحقيق سعادتهم

بيد أن إحلال الذكاء الاصطناعي مكان العامل البشري لن يبقى في إطار التلويح والضغط بين طرفي الإنتاج. ففي كل يوم تُنشر عشرات المقالات والأوراق البحثية عن المهن التي ستختفي من الوجود وستؤديها الآلات الذكية بكفاءة تفوق الكفاءة البشرية. وإخراج الإنسان من عملية الإنتاج وحصره في مجال الاستهلاك ليس من الأوهام بعدما ظهرت الخوارزميات القادرة على إدارة المزارع وبذر المحاصيل وسوى ذلك من أشكال المكننة. 

إلى ذلك، يتصرف الذكاء الاصطناعي كضيف غريب الأطوار. فإلى جانب خدمته أصحابه، يبدو الجانب البشع من حضوره غير قابل للإخفاء. كثافة المعلومات المزيفة والخاطئة التي يعممها، وقدرته على تزوير الأصوات والصور وأشرطة الفيديو هي جزء بسيط مما قد يواجه البشر في تعاملهم اليومي مع الذكاء الاصطناعي. هناك "نقص أخلاقي" حصل أثناء بناء برامج الذكاء المذكورة وعدم رسم حدود بين المقبول والمرفوض اجتماعيا وأخلاقيا. وليس سرا أن هاجس بناء "آلة تعلم" (Learning Machine)  قادرة على تقليد طريقة الإنسان في التعبير والتفكير، تخطى بمراحل همّ ضبط الآلة في الأطر المتعارف عليها إنسانيا. 
عليه، سيكون من المحال تصديق أي شيء يُنشر على شبكات التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام بما أن التزييف سيصبح القاعدة وستزداد صعوبة اكتشاف الحقيقة وإعلانها. 

البحث عن علاجات للأمراض المستعصية واستكشاف الفضاء البعيد وإنقاذ العالقين تحت الأنقاض بعد الكوارث الطبيعية وتخفيف أعباء المهن الخطرة أو الخالية من الإبداع، قد تكون من الإنجازات المنتظرة من الذكاء الاصطناعي. لكنه، وعلى غرار كل ثورة جذرية في تاريخ البشرية ستحل حقبة جديدة بوجوه متعددة ومتناقضة يجتمع فيها الخطر والفائدة معا.  

font change