تتويج تشارلز الثالث والتنوع في بريطانيا

تتويج تشارلز الثالث والتنوع في بريطانيا

لعلّ حفل تتويج الملك تشارلز الثالث في دير وستمنستر يحمل مؤشّرا على استمرار شكلٍ فريد من أشكال الحكومة الدستورية في بريطانيا، لكنّ فيه أيضا ما يدل على بعض التغيير في علاقة الملك برعاياه.

طقوس التتويج ذاتها لن تتغير، بل ستبقى في كثير من النواحي كما كانت من دون أن يطرأ تغيير على المراسم التي تتواصل عبر القرون، وتعاد إقامتها كلما اعتلى ملكٌ جديد العرش البريطاني.

بعد أن يخرج الملك تشارلز من قصر باكنغهام وهو المقر الرسمي لإقامة الملك، متوجهاً إلى الكاتدرائية في موكب فخم يُعرف باسم "موكب الملك"، سيشارك وزوجته كاميلا في حفل تتويجٍ يخطف الأبصار، وينتهي بمسحه كملك بزيتٍ مرسل من القدس إلى لندن خصيصا لهذه المناسبة.

ولقد شُحن زيت الميرون العطري إلى لندن بالفعل، إثر مراسم تكريسٍ خاصةٍ أقامها بطريرك القدس ثيوفيلوس الثالث، ورئيس أساقفة الكنيسة الأنغليكانية في القدس، حسام نعوم، في كنيسة القيامة، شهر مارس/آذار الماضي.

وسيسير حفل التتويج ذاته، الذي سيُقام في كنيسة خاصة، منزوية عن جمهور التلفزيون الذي سيكون بانتظار مشاهدة الطقوس في جميع أرجاء المعمورة، على خطى تقليد التتويج الذي ترسّخ في بريطانيا على مدى قرون كثيرة.

ولكن حفل التتويج هذا سيشهد أيضا عددا من التعديلات الخفية التي تهدف إلى إبراز طبيعة المجتمع البريطاني المتغيرة، والتي لها تأثير حتمي على علاقة الملك بشعبه. فقد مرّت البلاد بتغيرات عميقةٍ وعديدة في هيكلها الاجتماعي ونظرتها متعددة الثقافات خلال السبعين عاما الماضية، أي منذ آخر مرة شهد فيها الشعب البريطاني تتويجاً ملكياً.

وبينما يصرّ قصر باكنغهام على إبقاء الصبغة الدينية على حفل التتويج، فمن المتوقع أن يكون التتويج انعكاسا لدور الملك تشارلز، محافظا على "جذوره في التقاليد والأبهة الطويلة الأمد".

وفي بيان صدر قبل حدث التتويج، علّق المتحدث باسم القصر قائلا إن "حفل التتويج طقس ديني رسمي، إضافة لكونه مناسبة للاحتفال والبهجة. لقد حافظ الحفل على طقوسٍ مشابهة لما يزيد على ألف عام، ومن المتوقع أن يتضمن حفل التتويج الذي سيجري هذا العام العناصر الأساسية نفسها، بينما يعكس في الوقت عينه روح عصرنا".

سيشارك الملك تشارلز وزوجته كاميلا في حفل تتويجٍ يخطف الأبصار، وينتهي بمسحه كملك بزيتٍ مرسل من القدس إلى لندن خصيصا لهذه المناسبة

وفي حقيقة الأمر، من الممكن تقفي أثر العديد من اللحظات الرئيسة في خدمة التتويج الملكية لما يزيد على 1000 عام، في حين كان التتويج نفسه يُجرى في كاتدرائية وستمنستر لمدة 900 عام. كما كان يتضمن الكثير من المراسم، كالقَسَم، والدَهن، والولاء، والتعيين الذي يحدث خلال الخدمة، التي سيقوم بها رئيس أساقفة كانتربري.

ستشمل الملامح التاريخية الأخرى وضع تاج الملك الإنجليزي، إدوارد المعترف، الذي يعود للقرن الحادي عشر، على رأس تشارلز أثناء جلوسه على كرسي التتويج الذي أنشأه أول مرة إدوارد الأول عام 1296. وفي الوقت نفسه، سيتم تتويج كاميلا كملكة.

وبينما سيحفل التتويج نفسه بالإشارات التاريخية، أجريت تغييرات كبيرة على أجزاء أخرى من إجراءات التتويج، والتي نُفذت لتعكس التغييرات الدراماتيكية التي حدثت في المجتمع البريطاني خلال العقود السبعة الماضية.

فعلى سبيل المثال، حصل انخفاض كبير في عدد الضيوف المدعوين للمشاركة في الحفل؛ ففي حين حضر أكثر من 8000 ضيف من 129 دولة إلى وستمنستر، لتتويج الملكة إليزابيث الثانية عام 1953، فإن العدد سينخفض إلى 2000 شخص فقط في احتفال نهاية الأسبوع المقبل، فيما يترافق ذلك مع فرض قيود صارمة لاستيعاب قواعد الصحة والسلامة.

وقد أدى ذلك إلى انخفاض كبير في عدد النبلاء الذين يتلقون الدعوات؛ ففي عام 1953، تمت دعوة أكثر من 1000 من النبلاء بالوراثة، وهم يمثلون جميع العائلات العظيمة في الجزر البريطانية، مما أكسب هذه المناسبة مشهدا فخما عندما ارتدوا رداء تتويج أجدادهم. ومع ذلك، وبفضل التغييرات الدستورية الجذرية التي تم إجراؤها عندما تولى توني بلير رئاسة الوزارة، فإن حفنة من النبلاء وحسب هم الذين يجلسون اليوم في مجلس اللوردات، وكجزء من جهود تشارلز لتطوير نظامٍ ملكي "أكثر شمولا"، فقد أُمروا بعدم ارتداء ملابس رداء التتويج، بل بارتداء لباس الاحتفالية فحسب، وهو الذي يرتدونه عند حضور البرلمان.

لقد أدت رغبة تشارلز في حضور جماعة أكثر تنوعا لتشهد هذه الأحداث التاريخية في حفل تتويجه إلى تلقي ممثلي كثير من الجمعيات الخيرية دعواتٍ بدلاً مما كان يجري سابقاً، وهي خطوة أثارت انتقادات المتشددين التقليديين الذين يعتقدون أن الملك الجديد يدير ظهره لقرون من التاريخ، من خلال تضحيته بنبلائهم.

كما تم إجراء تغييرات كبيرة على الخدمة نفسها. فقد استمرت الخدمة لمدة أربع ساعات عندما تُوجت الملكة إليزابيث، بينما لن تتجاوز مدة خدمة الملك تشارلز ستين دقيقة فحسب، وجرى أيضا تقليص حجم المهرجان إلى حدٍ كبير. ففي حين شارك في الموكب الكبير للملكة إليزابيث الثانية أكثر من 40 ألف شخص من أفراد الخدمة في المملكة المتحدة، والكومنولث، و24 فرقة عسكرية، فإن 7000 فرد من القوات المسلحة فحسب سيشاركون في موكب نهاية هذا الأسبوع.
 

أجريت تغييرات كبيرة على أجزاء أخرى من إجراءات التتويج، والتي نُفذت لتعكس التغييرات الدراماتيكية التي حدثت في المجتمع البريطاني خلال العقود السبعة الماضية

لكن، أحد أبرز التغييرات في الخدمة سيعكس رغبةَ تشارلز في أن يُنظر إليه على أنه ممثل لجميع الأديان في المملكة المتحدة، وليس الاقتصار على دوره كرئيس لكنيسة إنكلترا، أو "المدافع عن الإيمان". فبعد مفاوضات مفصلة جرت مع رئيس أساقفة كانتربري، تم التوصل إلى اتفاق يحضر بموجبه ممثلو الديانات الأخرى– بمن في ذلك قادة الجالية المسلمة المزدهرة في بريطانيا– ليعكس هذا التنوعَ الديني في بريطانيا الحديثة.

وعلى الرغم من التغييرات المهمة جدا التي أدخلت على احتفالات التتويج السابقة، فإن منظمي حدث نهاية هذا الأسبوع واثقون من بقاء الكثير من التقاليد والأبهة.


كما أوضح القس ديفيد هويل، عميد وستمنستر، والبالغ من العمر 65 عاما، لصحيفة "التايمز": "لقد نقلنا التوتر ونبرة هذه الخدمة قليلا من الطاعة الواجبة للملك إلى التزام الملك بالخدمة والإخلاص".

نتيجة لذلك، يُبشّر هذا التتويج بميلاد لحظة فاصلة في التاريخ البريطاني، لحظة تُنقل فيها بريطانيا من العصر الإليزابيثي إلى الحقبة الكارولينية الجديدة.

font change