دفع القلق الدولي المتفاقم بشأن الأزمة الإنسانية في غزة، عددا من الحكومات الغربية إلى إعلان عزمها، الاعتراف بفلسطين كدولة. غير أن مدى ما قد يتركه هذا الاعتراف من أثر على الصراع الوحشي الذي لا يزال يعصف بالقطاع، لا يزال محل تساؤل.
كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أول زعيم من مجموعة الدول الصناعية السبع، يعلن اعتزام بلاده الاعتراف بدولة فلسطينية في سبتمبر/أيلول، تزامنا مع انعقاد القمة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة.
وكتب ماكرون عبر منصة "إكس": "الضرورة الملحة اليوم، هي إنهاء الحرب في غزة وإنقاذ السكان المدنيين. السلام ممكن. نحن بحاجة إلى وقف فوري لإطلاق النار، وإطلاق سراح جميع الرهائن، وتقديم مساعدات إنسانية ضخمة إلى سكان غزة".
وسرعان ما أعقب هذا الإعلان، تصريح من رئيس الوزراء البريطاني السير كير ستارمر، أكد فيه أن حكومته تعتزم الاعتراف بدولة فلسطينية، ما لم تستوفِ إسرائيل عددا من الشروط، من بينها إنهاء ما وصفه بـ"الوضع المروع" في غزة.
علاوة على ذلك، تزايدت المؤشرات على تصاعد الزخم الدبلوماسي الغربي، نحو الاعتراف بدولة فلسطين، بعدما أعلن رئيس الوزراء الكندي مارك كارني أن بلاده تعتزم الاعتراف رسميا بالدولة الفلسطينية، خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر، بشرط أن تفي السلطة الحاكمة في الضفة الغربية بعدة معايير، في مقدمتها إجراء انتخابات.
لطالما مثّل الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، محور خلاف داخل الأوساط الدبلوماسية، لا سيما في الولايات المتحدة، حيث أصرت الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة، رغم إعلانها دعم حل الدولتين، على أن الاعتراف الكامل، لا يمكن أن يتحقق إلا بعد التوصل إلى تسوية تفاوضية للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني.
عبّر وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو عن اعتراضه على إعلان ماكرون، محذرا من أن الولايات المتحدة "ترفض بشدة خطة ماكرون للاعتراف بدولة فلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة"
رغم تلك التحفظات، سارعت غالبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، إلى الاعتراف رسميا بدولة فلسطين، إذ اعترفت بها 147 دولة من أصل 193 عضوا في المنظمة، ما يعادل نحو 75 في المئة من الأعضاء. ومن المرجح أن يرتفع هذا العدد في سبتمبر، إذا أوفت عدة دول من مجموعة السبع بتعهداتها، بالمضي قدما في الاعتراف الكامل، وهو احتمال بات أقرب إلى الواقع.
غير أن التحركات الدبلوماسية الأخيرة للاعتراف بفلسطين، مع إعلان دول أخرى مثل مالطا نيتها السير في الاتجاه نفسه، لم تمر بسلاسة، لا سيما في ظل الانتقادات الحادة التي وُجهت إليها من جانب إسرائيل، التي اتهمت تلك الحكومات الغربية، بأن تفكيرها في الاعتراف الكامل بفلسطين يُعد بمثابة مكافأة للإرهاب.
,حيث اتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، نظيره البريطاني كير ستارمر بمحاباة "حماس" بينما حذرت هيئة تمثل عائلات الرهائن المختطفين في هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 من أن "اختطاف الناس لا ينبغي أن يشكل أساسا لإنشاء دولة".
وجاء رد إدارة ترمب على هذه الخطوة فاترا، إذ عبّر وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو عن اعتراضه على إعلان ماكرون، محذرا من أن الولايات المتحدة "ترفض بشدة خطة ماكرون للاعتراف بدولة فلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة".
وكتب عبر منصة "إكس": "هذا القرار المتهور لا يخدم سوى دعاية حماس ويُعطل جهود السلام. كما إنه بمثابة صفعة على وجوه ضحايا السابع من أكتوبر/تشرين الأول".
أما ترمب، فتبنّى موقفا حياديا تجاه قرار بريطانيا الاعتراف بدولة فلسطين، والذي أعقب لقاءه بكير ستارمر في اسكتلندا. وقال خلال رحلة العودة إلى الولايات المتحدة، على متن طائرة "إير فورس وان": "ليس لدينا موقف من ذلك. نحن نحاول جمع الكثير من الأموال لإرسالها إلى المنطقة لكي يحصل الناس على الغذاء".
غير أنه لم يُبدِ نفس القدر من التساهل تجاه قرار كندا، محذرا من أن هذه الخطوة قد تُعرقل محادثات التجارة الحيوية بين واشنطن وأوتاوا. وكتب قائلا: "يا له من أمر مدهش! كندا تعلن الآن دعمها لقيام دولة فلسطينية. هذا سيجعل من الصعب جدا، التوصل إلى اتفاق تجاري معهم. أوه كندا".
ومع ذلك، فإنّ اصطِفاف هذا العدد الكبير من القوى الغربية الكبرى، للاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة من شأنه أن يُحدث، في الحد الأدنى، تأثيرا عميقا على الجهود الدبلوماسية المستقبلية الرامية إلى إيجاد حل دائم للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني. وإذا كان الرأي العام العالمي بغالبيته يعبّر بوضوح عن دعمه لحل الدولتين، فلن يكون من السهل التوصّل إلى تسوية لا تفضي إلى قيام كيان فلسطيني مستقل.
وقد يُشكل قرار القادة العرب الداعي إلى تفكيك "حماس" عاملا آخر من شأنه أن يُمهّد الطريق أمام إعلان الدولة الفلسطينية.
وكان إصرار الحركة المسلحة على البقاء في غزة، من أبرز العقبات التي حالت دون التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، إذ تصرّ إسرائيل على مواصلة حملتها العسكرية حتى القضاء الكامل على وجود "حماس" في القطاع.
لذا، فإن الدعوة التي وجّهتها دول عربية وإسلامية، من بينها السعودية وقطر ومصر، إلى "حماس" لتفكيك نفسها وتسليم سلاحها إلى السلطة الفلسطينية، قد تُشكّل منعطفا حاسما في إنهاء حالة الجمود القائمة حول مستقبل وجود الحركة في غزة.
وعقب مؤتمر نظمته المملكة السعودية وفرنسا في نيويورك هذا الأسبوع، صدر بيان مشترك عن جامعة الدول العربية (المؤلفة من 22 عضوا)، والاتحاد الأوروبي، و17 دولة أخرى، يدعو إلى أن تتحمل السلطة الفلسطينية وحدها مسؤولية الحكم، وإنفاذ القانون، والحفاظ على الأمن في جميع الأراضي الفلسطينية في غزة والضفة الغربية.
وجاء في البيان: "في سياق إنهاء الحرب في غزة، يجب على حركة "حماس" إنهاء حكمها في غزة، وتسليم أسلحتها إلى السلطة الفلسطينية، بمشاركة ودعم دوليين، تماشيا مع هدف قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة".
تبلور إجماع دولي متزايد، يعترف بقيام دولة فلسطينية، ويطالب في الوقت ذاته بإنهاء وجود "حماس" العسكري في غزة، يجعل من احتمال وضع حد للعنف في القطاع احتمالا واردا
ورغم وصف فرنسا لهذا البيان بـ"غير المسبوق" فإن إقناع "حماس" بالتخلي عن سيطرتها على غزة لن يكون مهمة سهلة، إذ سبق للحركة أن رفضت نزع سلاحها، ما دامت إسرائيل تواصل احتلالها للأراضي الفلسطينية.
ومع ذلك، فإن تبلور إجماع دولي متزايد، يعترف بقيام دولة فلسطينية، ويطالب في الوقت ذاته بإنهاء وجود "حماس" العسكري في غزة، يجعل من احتمال وضع حد للعنف في القطاع احتمالا واردا، على الأقل في هذه المرحلة.