لبنان: دم وخوف... وتحالف مافيوي

مقاومة الواقع البائس تبحث عن عمق سياسي لم يتشكل بعد

لبنان: دم وخوف... وتحالف مافيوي

ليست كثيرة الحالات التي صدرت فيها مذكرات توقيف دولية بحق حاكم مصرف مركزي لدولة ما، وهو على رأس عمله. ثمة قضايا ودعاوى رُفعت ضد حكام المصارف من الأجهزة القضائية في بلادهم تطلب محاكمتهم أو تنزل عقوبات مختلفة بهم.

مذكرة التوقيف التي أصدرتها قاضية التحقيق الفرنسية أود بوريزي بعد رفض رياض سلامة المثول أمامها في باريس للتحقيق معه في كيفية مراكمته ثروة ضخمة في دول أوروبية عدة، تحمل ما يتجاوز السياق التقليدي من متابعة المشتبه بهم في عمليات الإثراء غير المشروع وتبييض الأموال، ذلك أنها موجهة إلى واحد من أركان النظام اللبناني وصندوقه الأسود المؤتمن على كل أسرار الجماعة السياسية الحاكمة والمشارك في قسم لا يستهان به من ارتكاباتها وموبقاتها المستمرة منذ نهاية الحرب الأهلية على الأقل.

من هنا يمكن فهم المساندة التي حظي بها سلامة بعد الإعلان عن المذكرة الدولية في وسائل الإعلام المرتهنة لتحالف السياسيين والمصرفيين الذي يُعتبر شريان الحياة للتلفزيونات ومنصات إعلامية عدة. وقد ازداد ارتهان الوسائل تلك بعد الانهيار الاقتصادي والسياسي حيث تضاءل التمويل المباشر الآتي من السياسيين (لم تكن الإعلانات توفر دخلا معقولا سوى لعدد قليل من التلفزيونات، وقد اختفى هذا الدخل بعد الانهيار الذي قضى على القدرة الشرائية للبنانيين). احتلت المصارف التي استولت على أموال المودعين مكان السياسيين والمعلنين التجاريين وباتت تتحكم في ما تبثه وتنشره أكثرية ساحقة من وسائل الإعلام.

احتلت المصارف التي استولت على أموال المودعين مكان السياسيين والمعلنين التجاريين وباتت تتحكم في ما تبثه وتنشره أكثرية ساحقة من وسائل الإعلام

يضاف إلى ذلك، أن عضوية سلامة في نادي كبار النافذين في الحياة العامة في لبنان من خلال إشرافه على توزيع الرشى على القوى السياسية المختلفة على نحو كان يأمل عبره بتأمين وصوله إلى رئاسة الجمهورية وتشكيله واحدة من نقاط الاتفاق النادرة بين الحارس الفعلي للمنظومة السياسية اللبنانية ("حزب الله") عبر رئيس حركة "أمل" وبواسطته، وبين الولايات المتحدة التي تراقب عن كثب حركة الأموال من لبنان وإليه ضمن "الحرب على الإرهاب"، جعل من سلامة "رقما صعبا" نال رضا الائتلاف الحاكم بمسلميه ومسيحييه ومقاوميه ومعتدليه. 


مشكلة رياض سلامة، إذن، لم تكن مع المؤسسات اللبنانية التي عرف كيف يروضها ويجعل قضاتها يمتنعون عن تبليغه الاستدعاءات الرسمية إلى التحقيق. فهو الذي لم يحضر جلسة استجواب نيابية واحدة منذ توليه منصبه قبل ثلاثين عاما، وهو أيضا المزدري لكل الأصول في قوانين تنظيم النقد والتسليف والإدارة المالية والعلاقة بين المصرف المركزي والحكومة اللبنانية، لم يكن يصعب عليه التحايل على أي إجراء قانوني محلي ما دامت الجماعة الحاكمة في حاجة إلى خدماته وصمته. على الرجل ظهرت هشاشة عندما انتقلت الدعاوى ضده إلى الخارج مع تراجع الحماية الأميركية له. 


تبييض الأموال والإثراء غير المشروع والمصادر الغامضة لثروة ضخمة وصلت إلى أفراد عائلته وغيرهم، مسائل لم تبق في لبنان. فالرجل، حسب التحقيقات والمستندات المتوفرة سار على نهج كل سياسيي العالم الثالث بنقل الثروات إلى "ملاجئ آمنة" في مصارف الغرب و"الجنات الضريبية" في الكاريبي وغيره. وهناك من سلط الضوء على هذه الثروة المتورمة ذات المصدر غير المحدد. 


ما يعنينا هنا أن المساندة السياسية والإعلامية لسلامة في وجه القضاء الأوروبي بعد ترويض القضاء المحلي، تعلن من جديد عن الطبيعة المافيوية للحكم في لبنان. والإصرار على تبرئة أحد أبرز المسؤولين عن النكبة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يتمرغ اللبنانيون في أوحالها منذ أكثر من ثلاثة أعوام– بالتضامن والتكافل مع طيف واسع من السياسيين والمصرفيين من أقرانه وأعوانه- يقول إن الأزمة الحالية تخدم القوى السياسية– المالية المتحالفة والحاكمة حاليا والمستندة، للأسف، على تأييد واسع من المواطنين الذين يعلون من شأن هويتهم الطائفية والحزبية ويبخسون مصالحهم حتى الأكثر شخصية منها. 

 مشكلة رياض سلامة، ليست مع المؤسسات اللبنانية التي عرف كيف يروضها ويجعل قضاتها يمتنعون عن تبليغه الاستدعاءات الرسمية للتحقيق. فهو لم يحضر جلسة استجواب نيابية واحدة منذ توليه منصبه قبل ثلاثين عاما

علامات "المقاومة" القليلة للواقع البائس هذا والتي تمثلها بعض الأسماء في المحافل الحقوقية والإعلامية الرافضة للعب في ملعب القوى المستفيدة من إذلال اللبنانيين وسحقهم، لا تزال تبحث عن عمقها السياسي الذي لم يتشكل حتى اليوم والذي شكلت انتخابات مايو/أيار 2022 خيبة أمل كبيرة في السبيل إلى تحقيقه. 


الانتقال من المقاومة الحقوقية والإعلامية المدافعة عما تبقى من مظاهر الدولة والمجتمع (والأخلاق العامة والفردية)، إلى العمل السياسي المعارض والمؤثر تحول دونه انتماءات وهويات تربط نفسها بالواقع بوشائج من دم وخوف. 
 

font change