اتفاقات السلام الهشة... ومصائرها المتباينة

بين الاتفاقات الهشة ما يمكن معالجة عوامل هشاشته أو الحد من آثارها

اتفاقات السلام الهشة... ومصائرها المتباينة

إبرام اتفاق سلام هش لا يقوم على أساس متين خير من استمرار نزاع قد يكون دمويًا لفترة أطول. هذا ما يراه المؤمنون بأن السياسة هي فن الممكن، وبأن سقف ما هو ممكن قد يكون منخفضا في ظروف يصعب فيها رفعه.

وهناك من يعتقدون، في المقابل، أن إبرام اتفاق هش قد يُضيَّع فرصة التوصل إلى أفضل منه، وأن البديل هو السعي إلى هدنةٍ تُبذل خلالها جهود أكبر أملاً في التوصل إلى تسوية أقوى.

منهجان مختلفان في إدارة النزاعات عموما، سواء الدولية والإقليمية أو الداخلية. وعندما نتأمل تاريخ تسوية هذه النزاعات نجد أن منهج فن الممكن أو السياسة الواقعية كان الأكثر استخداما على المستويين الإقليمي والدولي منذ تبلور نظام عالمي حديث للمرة الأولى في أوائل القرن التاسع عشر، وعلى الصعيد الداخلي منذ أن وُلدت الدولة الوطنية Nation State في القرن السابع عشر في إطار معاهدتي وستفاليا 1648، وتطورت إلى أن نضجت في القرن التاسع عشر في ظل معاهدة فيينا 1816.

لهذا من الطبيعي أن يبقى منهج السياسة الواقعية في اختبارٍ مستمر، وأن يُعاد طرح السؤال عن جدواه وفاعليته من وقتٍ إلى آخر. وها هو السؤال مطروح اليوم بمناسبة مرور ربع قرن على اتفاق الجمعة العظيمة في أيرلندا الشمالية الشهر الماضي، وبلوغ اتفاق أوسلو عامه الثالث في سبتمبر/أيلول المقبل. وهما مثالان دالان على الصعوبات التي تواجه اتفاقات سلام هشة تصمد لفترةٍ تُعد طويلة، ولكنها لا تُحقق السلام المبتغى. مثالان مهمان، ولكن دلالتهما ليست حصرية بشأن مصائر هذا النوع من الاتفاقات.

إبرام اتفاق سلام هش لا يقوم على أساس متين خير من استمرار نزاع قد يكون دمويًا لفترة أطول. هذا ما يراه المؤمنون بأن السياسة هي فن الممكن

لم تكن الترتيبات المُتقنة في الاحتفال باليوبيل الفضي لاتفاق الجمعة العظيمة كافيةً لإخفاء معالم الأزمة بين طرفيه. فمن الطبيعي أن يُحتفل باتفاقٍ أوقف نزاعًا مذهبيًا-سياسيًا دمويًا استمر لثلاثة عقود، برغم أنه لم يضع حدًا للكراهية المتبادلة بين الأغلبية البروتستانتية المؤيدة لبقاء أيرلندا الشمالية جزءا من المملكة المتحدة، والأقلية الكاثوليكية الراغبة في انفصال الإقليم واتحاده مع جمهورية أيرلندا.

احتفال في أجواء أزمة حادة


كان وقف القتال إنجازًا مهمًا في حد ذاته يُضاف إليه صمود الاتفاق لربع قرن. ولكن الألغام الموجودة في ثناياه بقيت قابلة للانفجار ليس لتعذر تفكيكها، ولكن لأن قادة الطرفين لم يبذلوا جهدا لنزع اللغم الأكثر أهمية الذي لا يوجد في الاتفاق نفسه، بل في عقول كُثر في الأغلبية والأقلية على حد سواء. إنه لغم الكراهية المتبادلة التي يصعب في ظلها التعايش في سلام. الكراهية هي الداء أينما وُجدت، والوقود القابل للاشتعال أو الإشعال في أي وقت.


وليس في إمكان أي وسيط أن يجد علاجًا لهذا الداء في متن اتفاق أو آخر حتى إذا كان متينًا لا ضعف فيه، فما بالنا باتفاقٍ هش لا يتضمن حلاً للقضية الخلافية الأساسية، بل يُرحّلها بطريقة الهروب إلى الأمام عبر إرضاء الأغلبية الراغبة في البقاء داخل المملكة، وفتح نافذة للأقلية من خلال منحها الحق في استمرار المطالبة بالانفصال والاتحاد مع جمهورية أيرلندا.


وأسهم استمرار داء الكراهية في تصاعد الخلاف على القواعد التجارية الجديدة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، والتي تُعامل أيرلندا الشمالية بشكل مختلف عن باقي أجزاء هذه المملكة، بعد "البريكسيت". فما كان لهذا الخلاف أن يشل عمل حكومة أيرلندا الشمالية وبرلمانها منذ فبراير/شباط 2022، إلا بسبب توطن داء تغذى على هشاشة اتفاقٍ لم يسع طرفاه إلى نشر قيم التسامح والتعايش وقبول الآخر.
 

ليس في إمكان أي وسيط أن يجد علاجًا للداء في متن اتفاق أو آخر حتى إذا كان متينًا لا ضعف فيه، فما بالنا باتفاقٍ هش لا يتضمن حلاً للقضية الخلافية الأساسية


ليس متصورا تنظيم احتفال بالذكرى الثلاثين لاتفاق أوسلو، في الوقت الذي وصل فيه الصراع الذي استهدف تسويته إلى مستوى أبعد مما كان قبل توقيعه. فكيف يُحتفل باتفاق لم يبق منه إلا مباني سلطة فلسطينية بلا سلطة. مباني تنعى اتفاقًا شُيدت على أساسه بعد أن فعلت عوامل الهدم فعلها فيه منذ اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي وقّعه إسحق رابين في نوفمبر/تشرين الثاني 1995.

أزمة خانقة تجعل الاحتفال عبثا

عوامل هدم شارك طرفاه، كلٌ بطريقته، في استمرارها وزيادتها، فقد أسهمت معظم الحكومات الإسرائيلية، التي تشكلت منذ ذلك الوقت، في تقويض أركانه، حتى جاءت الحكومة الأكثر تطرفًا في تاريخ هذا الكيان، فبلغ مستوى العنف أعلى مستوياته منذ 1967.


كما أضعف الانقسام الفلسطيني المُزمن، وما ينطوي عليه من صراعات، الطرف صاحب المصلحة في نجاح الاتفاق وجعله أساسًا لتسوية معقولة، أكثر مما كان ضعيفًا. ولهذا فقد القدرة على الحد من آثار هشاشة الاتفاق عليه، وشجع الطرف الآخر على التمادي في الاستهانة به، وحرمانه من ورقة السياسة التي راهن عليها بعد أن ضاعت منه ورقة المقاومة المنظمة المؤثرة، ولم يبق منها إلا ردود فعل عنيفة محدودة الأثر في الضفة الغربية، ومغامرات تصعيد عسكري انطلاقًا من قطاع غزة الذي لا يتحمل مزيدًا من الخراب الناتج عنها.

تباين المصائر


يدل مسارا اتفاقي الجمعة العظيمة وأوسلو على أن اتفاقات السلام الهشة يمكن أن تصمد لفترةٍ قد تطول ولكنها تبقى مُهدَّدة، مع حذرٍ واجب من تعميم فى غير محله. فمن الاتفاقات الهشة ما يمكن معالجة عوامل هشاشته، أو الحد من آثارها، أو ربما تستجد ظروف تدفع طرفيه إلى الحفاظ عليه، وخاصة حين يجدان مصالح  مشتركة تفرض التعاون وتُقلّل تداعيات الكراهية المتبادلة. وهذا ممكن، خصوصا في بعض اتفاقات السلام الإقليمية والدولية، لأن من يكرهون بعضهم بعضًا لا يعيشون معًا في بلدٍ واحد،  بخلاف الحال في الاتفاقات المتعلقة بنزاعات داخلية.
وعلى سبيل المثال، لم يكن اتفاق الجمعة العظيمة الأول في مجال تسوية صراعات داخلية في أوروبا. للصراع المذهبي- السياسي البروتستانتي الكاثوليكي تاريخ طويل في عدد غير قليل من بلدانها. وفي هذا التاريخ اتفاقات هشة صمدت ونجحت في تسوية النزاع، لأنها وُقعت في أجواء عمليات إصلاح ديني عالج داء الكراهية الذي يُهدّد اتفاق الجمعة العظيمة.
 

يدل مسارا اتفاقي الجمعة العظيمة وأوسلو على أن اتفاقات السلام الهشة يمكن أن تصمد لفترةٍ قد تطول ولكنها تبقى مُهدَّدة

واتفاق أوسلو ليس الأول من نوعه في الشرق الأوسط. سبقه اتفاق السلام المصري-الإسرائيلي الذي كان هشًا بدوره عند توقيعه عام 1979، ومرفوضا من معظم الدول العربية ومتحفظا عليه من دول أخرى. ولكنه صمد وحقَّق نجاحا أسهم في توقيع اتفاقات أخرى منذ توقيع اتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل عام 1994. ولهذا لا يُعتبر مصير اتفاق أوسلو مقياسا بشأن الاتفاقات الإقليمية، مثلما لا يُعد اتفاق الجمعة العظيمة معيارا لمصائر الاتفاقات الداخلية. فلا مصير واحدا لاتفاقات السلام الهشة، بل مصائر متباينة ترتبط بطبيعة الاتفاق والظروف التي تحيطه والتغيرات التي تستجد بعد توقيعه.

font change