تركيا في الحقبة الأردوغانية

ثمة سياسات جديدة لتركيا... لكن لا أحد يمكنه التكهن بطبيعة تلك السياسات

تركيا في الحقبة الأردوغانية

بات الرئيس رجب طيب أردوغان- بفوزه مجدّدا في الانتخابات الرئاسية التركية- الأوسع شهرة وتأثيرا في تاريخ تركيا الحديث، بعد الرئيس المؤسّس كمال أتاتورك الذي افتتح عهد الجمهورية التركية وتبوأ منصب الرئيس فيها، في الفترة (1923-1938)، أي طوال 15 عاما، حول فيها الكتابة نحو الحرف اللاتيني، وجعل تركيا أقرب الى أوروبا، مع التأسيس لنظام ديمقراطي وعلماني.

وفي المقابل، شغل أردوغان منصب الرئاسة في تركيا منذ العام 2014 (لثلاث ولايات متوالية)، كما شغل قبل ذلك منصب رئيس الوزراء في الفترة (2003-2014)، مما يعني أنه تحكم في مسارات السياسة التركية، داخليا وخارجيا، لكن نموذجه أتى بالتصالح مع "العثمانية"، والتاريخ الإسلامي لتركيا، وبالتحول من النظام السياسي- البرلماني إلى النظام السياسي الرئاسي، مع بلد علماني وديمقراطي، يحكمه حزب إسلامي، ويخضع فيه للوسائل الديمقراطية وللتداول على السلطة.

وكان نجم أردوغان قد صعد خلال فترة رئاسته بلدية إسطنبول في الفترة من 1994-1998 (خلال وجوده في حزب "الرفاه" بقيادة نجم الدين أربكان)، ثم بتأسيسه حزب العدالة والتنمية (2001)، مع رفيقه عبد الله غول (الذي تركه لاحقا)، والذي استطاع الوصول إلى الحكم في العام 2002، وحتى الآن، أي في ست جولات انتخابية، حصل فيها على أكثرية مقاعد البرلمان، إزاء الأحزاب الأخرى.

هكذا حصل حزب العدالة والتنمية في المرة الأولى (2002) على 34 في المئة من الأصوات، وفي الثانية (2007) على 46 في المئة من الأصوات، وفي الثالثة (2011) على 49 في المئة من الأصوات، وفي الرابعة (2015) على 49 في المئة من الأصوات، ولكنه تراجع في الخامسة (2018) بحصوله على 42 في المئة من الأصوات، وتراجع أكثر في السادسة التي حصلت مؤخرا (2023)، إذ حصل على 35 في المئة من الأصوات، فقط.

شغل أردوغان منصب الرئاسة في تركيا منذ العام 2014 (لثلاث ولايات متوالية)، كما شغل قبل ذلك منصب رئيس الوزراء في الفترة من 2003 إلى 2014، مما يعني أنه تحكم في مسارات السياسة التركية، داخليا وخارجيا

هكذا، وفي تحليل اتجاهات التصويت، يمكن ملاحظة أن حزب العدالة والتنمية، وهو حزب السلطة، شهد تراجعاً في نسبة التصويت، إذ إنه في الانتخابات السادسة في عهده حصل على ذات نسبة التصويت التي حصل عليها لدى صعوده إلى الحكم أول مرة (2002). وهذا يشمل، أيضا، النسبة التي حصل عليها الرئيس، وتلك هي المرة الأولى التي تجري فيها جولة ثانية للانتخابات الرئاسية في تركيا منذ مئة عام، مع عدم تمكن أردوغان من الفوز في الجولة الأولى، ما يعني أن المجتمع التركي مقسوم إلى النصف تقريبا (في التصويت على الاستفتاء على النظام الرئاسي صوّت 50.5 في المئة فقط لصالح هذا النظام). أيضا يمكن ملاحظة ذلك بخسارة حزب العدالة والتنمية الانتخابات في المدن الرئيسة الكبرى في تركيا، وهي إسطنبول وأنقره وأزمير وأضنة.

طبعا ثمة أسباب سياسية واقتصادية وراء هذا التراجع في مكانة الرئيس التركي وحزبه، رغم فوزه في الانتخابات الرئاسية والتشريعية، يأتي ضمنها، وربما أهمها، التراجع الاقتصادي الذي تشهده تركيا، بالقياس للعشرية الأولى من عهد أردوغان (إبان رئاسته للحكومة)، ففي حينها نهض الاقتصاد التركي بطريقة تصاعدية، مما يفسر ارتفاع التصويت له في الانتخابات الثانية والثالثة والرابعة (2007- 2011- 2015)، في حين تراجعت نسبته في التصويت، بعد اختباره في الحكم، في الانتخابات الخامسة والسادسة (2018- 2023).

مثلا، بينما كان الناتج الإجمالي المحلي لتركيا في العام 2002 يبلغ 240 مليار دولار (قبل استلام حزب العدالة والتنمية الحكم)، مع نصيب للفرد قدره 3640 دولارا، وقوة تصديرية قدرها 55 مليار دورلار، بات الناتج الإجمالي المحلي في العام 2012، أي بعد عشرة أعوام من حكم حزب العدالة والتنمية، يبلغ 880 مليار دولار، مع نصيب للفرد قدره 11700 دولار، وقوة تصديرية قدرها 206 مليارات دولار، في حين ظل الناتج المحلي الإجمالي في العام 2021 حوالي 819 مليار دولار، مع تراجع لنصيب الفرد إلى 9661 دولارا، مع قوة تصديرية قدرها 343 دولارا، علما أن قيمة الليرة التركية تراجعت كثيرا بالنسبة للدولار 1- 20.

طبعا لا يمكن فصل التراجع الاقتصادي عن الأحوال السياسية، الداخلية والخارجية، الأمر الذي انعكس تراجعا في الاستثمارات الخارجية، والتخبط في أولويات التنمية في الداخل، بعد الطفرة في العمران والبني التحتية، مع الأخذ في الاعتبار الموارد المتأتية لتركيا من السياحة، ومن المعابر الدولية.

وفي الواقع، أسهمت سياسات أردوغان، وتحولاته، في خلق واقع صعب لتركيا على الصعيد الدولي، في علاقاته مع الولايات المتحدة وأوروبا، ومع الدول العربية، وفي الداخل مع الأكراد (20 مليونا من أصل 85 مليونا)، ومع الجمهور التركي العلماني، وحتى مع بعض رفاقه (عبد الله غول، أحمد داود اوغلو، علي باباجان، وقسم من جمهور حزبه)، سيما بعد إصراره على تحويل النظام السياسي في تركيا، من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، الذي تحقق بأغلبية ضئيلة جدا كما قدمنا (50.5 في المئة).

ثمة أسباب سياسية واقتصادية وراء التراجع في مكانة الرئيس التركي وحزبه، رغم فوزه في الانتخابات الرئاسية والتشريعية، يأتي ضمنها، وربما أهمها، التراجع الاقتصادي الذي تشهده تركيا

وعلى الصعيد الدولي تبدو تركيا محيرة، فهي عضو في حلف "الناتو"، لكن لها سياساتها الخاصة، دوليا وإقليميا، سيما في شأن العلاقة مع روسيا، التي باتت بمثابة رئة تتنفس منها إزاء العقوبات الدولية المفروضة عليها منذ غزوها أوكرانيا (فبراير 2022)، وهي السياسة ذاتها التي اتبعتها تركيا للتخفيف من طائلة العقوبات الدولية على إيران.

أيضا، لدى تركيا سياساتها الخاصة والمتوترة إزاء الدول الأوروبية، ولا سيما اليونان، وقبرص، في حين تقدم نفسها كطرف محايد، أو كوسيط، للتهدئة بين روسيا وأوكرانيا، هي ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، لكنها تعارض انضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو.

وعلى الصعيد العربي لم يكن احتكاك تركيا مع كثير من الدول العربية ناجحا، أو إيجابيا؛ إذ إن السياسة التي انتهجها أردوغان أدت إلى نوع من القطيعة مع معظم الدول العربية، وهو ما نشهد عكسه اليوم في أجواء المصالحة والانفتاح التي يقودها أردوغان نفسه.

اللافت أن تركيا حققت، في العقد الأول من القرن الحالي، أي في العشرية الأولى لصعود أردوغان وحزبه العدالة والتنمية إلى الحكم (2002)، نجاحات كبيرة، بحيث باتت بمثابة نموذج ملهم لكثير من الدول، بصعودها السياسي والاقتصادي وبقوّتها الناعمة، وبانتهاجها سياسة تخفيف التوترات مع محيطها، وعدم التورط في المشكلات الداخلية للبلدان الأخرى، وتوطيد مكانتها لدى جيرانها عبر العلاقات التجارية والأنشطة الاستثمارية، مما عزّز جاذبيتها، لكن الأمر في العشرية الثانية، اختلف كثيرا، ما انعكس عليها سلبا، داخليا وخارجيا.

الآن، يفترض أن ثمة سياسات جديدة لتركيا، لكن لا أحد يمكنه التكهن بطبيعة تلك السياسات، من رجل عرف بكثير من التحولات والتنقلات، في العقدين الماضيين من حكم تركيا.

font change